Sunday, July 24, 2016

تركيا والرهان الخاسر

تركيا والرهان الخاسر

الخبر: سيطرت أنباء الانقلاب الفاشل في تركيا على وسائل الإعلام العالمية وركزت بعيد الانقلاب على اعتقال وتوقيف ما يزيد على 50 ألفا من المؤسسات العسكرية والقضائية والتعليمية.
التعليق:
منذ أن تم إحباط محاولة الانقلاب في تركيا، شرعت حكومة أردوغان في تركيا بعمليات اعتقال وتوقيف واسعة حتى إنه خلال ساعات فقط من الإعلان عن سيطرة الحكومة على الانقلاب تم الإعلان عن اعتقال 3000 من المؤسسة العسكرية و2700 من القضاة. وإزاء ذلك انبرى قادة وسياسيون وإعلاميون من أوروبا وأمريكا لتحذير أردوغان من إجراء عمليات تطهير في المؤسسة العسكرية تشمل خصومه السياسيين والعسكريين، وجاء على لسان كيري أن "استمرار تركيا باستغلال الانقلاب في عمليات قمع المعارضين قد يكلف تركيا عضويتها في الناتو"، كما قالت ميركل بأن "عودة تركيا لعقوبة الإعدام فيما يتعلق بالانقلابيين سيحول بين تركيا والاتحاد الأوروبي".
بغض النظر عن محاولة الانقلاب ودوافعها وأسباب فشلها والتي عجت بها وسائل الإعلام، أود أن ألقي الضوء هنا على أهمية الوسط السياسي الذي يتغلغل في تركيا بشكل خاص ثم في أي دولة بشكل عام. إن الأصل في الوسط السياسي أن يكون بمنأى عن المؤسسة العسكرية، كما أن المؤسسة العسكرية يجب أن لا تكون جزءا من الوسط السياسي. فالوسط السياسي هو المنوط به إدارة وتوجيه الدفة السياسية للدولة وتحديد مسارها في الداخل والخارج. إلا أن الوضع في تركيا مختلف. فالمؤسسة العسكرية منذ قيامها مطلع القرن الماضي وهي التي تفرض النمط السياسي في تركيا وتضمن استمرار علمانية الكماليين والصد عن سبيل الله وعن عودة الإسلام إلى تركيا. بل إن المؤسسة العسكرية بقيت وباستمرار حامية للنفوذ الإنجليزي في تركيا، حتى إذا جاءت الانتخابات بأي طرف لا يدين لبريطانيا بالعمالة والولاء، تدخل العسكر مباشرة لإقصائه عن الحكم. وقد حصل ذلك أربع مرات خلال الخمسين سنة الماضية وتحديدا سنة 1960 وسنة 1971 وسنة 1980 وسنة 1997 وآخرها 15 تموز 2016 والذي باء بالفشل. وفي كل مرة يعلن الانقلابيون أن هدفهم الإبقاء على تركيا ضمن المسار الذي حدده انقلاب مصطفى كمال الذي أطاح فيه بنظام الخلافة.
ولا شك أن العسكر في تركيا يساندهم جيش من أدعياء العلمانية ومريديها وعملاء الغرب والمضبوعين بثقافة وحضارة الغرب، وأعداء الإسلام السياسي. فكل هؤلاء يشكلون وسطا قويا يجعل من أي حركة بأي اتجاه مغاير تكاد تكون مستحيلة.
أما أردوغان فقد وصل إلى الحكم بدعم وتأييد من طرفين مهمين لا ينتميان بشكل قوي إلى الوسط السياسي ومنه العسكري في تركيا. فعلى الصعيد الخارجي ارتبط أردوغان وحزبه بأمريكا لتأمين دعم أمريكا له ولحكمه على الصعيد الدولي. ولعل ما ورد على لسان حليفه السابق أربكان في لقائه مع أحمد منصور في برنامج بلا حدود يؤيد ذلك. حيث قال إن أردوغان تحالف مع الأمريكان ليحصل على دعمهم في حكم تركيا. أما الطرف الثاني الذي اعتمد عليه أردوغان فهو المشاعر الإسلامية لدى الشعب التركي والتي تمكن من الوصول إليها من خلال حركة فتح الله غولن ذات الأصول الصوفية والتي تقيم علاقات وطيدة مع أمريكا.
وقد أدرك أردوغان منذ وصوله إلى الحكم أن الوسط السياسي والعسكري القائم في تركيا سيكون حجر عثرة أمام مشاريعه وحتى استمراره بالحكم. وقد حاول أردوغان تقليص أثر المؤسسة العسكرية في المجلس الأمني التركي. ولكنه لم يتمكن من تحييد المؤسسة العسكرية بالكامل. ولعل عملية إسقاط الطائرة الروسية بأوامر مباشرة من العسكر والتي أحرجت أردوغان أمام روسيا وأمريكا على حد سواء تظهر حجم التناقض بين الطرفين.
وبالتالي فإن أردوغان لم يكن ليدع فرصة مثل محاولة الانقلاب ليقوم بعمليات تطهير واسعة للوسط السياسي والعسكري. وقد ورد على لسان أردوغان قوله "كانت محاولة الانقلاب الفاشلة هبة من الله". وقد شبه بعض السياسيين محاولة الانقلاب الفاشلة بأحداث 11/9/2001 في أمريكا التي استغلتها أمريكا لتحقيق أهداف استراتيجية. ولعل سرعة تحرك أردوغان في تطهير الوسط السياسي والعسكري قد جعل بعض المحللين يظنون أن محاولة الانقلاب مدبرة ومرتبة سلفا.
أما الغرب فقد استفزته عمليات التطهير هذه لأنها نالت من مراكز القوى التي طالما استخدمت نفوذها للتأثير على حكومة أردوغان وضبطها. أما أمريكا فإنها تعلم أن العسكر موالون للإنجليز وأنهم ليسوا على نهجها، ولكنها تعلم أيضا أن وجودهم القوي في تركيا يجعل استسلام أردوغان لأمريكا أشد وارتماءه في أحضانها أعمق. فهي تريد تقليص أثر العسكر على أردوغان ولكنها لا تريد إزالته بالكامل. كذلك فإن أمريكا ومن خلال جماعة فتح الله غولن تبقي أردوغان تحت الضغط المباشر، فهي تخشى من ضرب هذه الجماعة أن تفقد أداة من أدوات التأثير على أردوغان. أما بريطانيا فإن مدخلها الرئيسي إلى تركيا هو العسكر، وهي تعلم أن الضمان الوحيد لعدم عودة الخلافة التي قضت على وجودها في تركيا هي المؤسسة العسكرية التي بنيت على كراهية الإسلام وحب العلمانية الكمالية الكافرة. وكذلك فرنسا وألمانيا تخشيان من زوال الوسط السياسي تحديدا والموالي للغرب أن يؤدي إلى إيجاد فراغ سياسي وفكري قد يملؤه وسط سياسي وفكري جديد يتبنى أفكارا وتوجهات إسلامية. ولعل خطاب مدير مخابرات تركيا الذي تحدث عن ولادة جديدة لمحمد الفاتح ولقلب الدين أرسلان ولو بعد أكثر من 30 سنة فيه ما يخيف.
والحاصل أن الوسط السياسي ومنه العسكري له أشد الأثر على سير الدولة وتحقيق غاياتها الاستراتيجية والتكتيكية. فدولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة حين قيامها بإذن الله يجب أن تحرص أشد الحرص على أن لا يكون في الدولة أي وسط سياسي مخالف أو مناقض للدولة سواء من حيث ما يتبناه من أفكار أو ما يحمله من ولاءات. والأهم من كل ذلك أن لا يكون لمؤسسة الجيش أي تأثير مباشر أو غير مباشر على الوسط السياسي وعلى إدارة شؤون الدولة. فالمؤسسة العسكرية يجب أن تبنى على قاعدة واحدة فقط وهي الجهاد وحمل رسالة الإسلام للعالم.
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
د. محمد ملكاوي
20 من شوال 1437هـ   الموافق   الإثنين, 25 تموز/يوليو 2016مـ

No comments:

Post a Comment