Thursday, January 31, 2019

حركات الإسلام السياسي بين العلمنة والتصفية

حركات الإسلام السياسي بين العلمنة والتصفية
خطة من خطط القضاء على الإسلام السياسي في استراتيجية الحرب على الإسلام

مجلة الوعي: العدد 388 - السنة الثالثة والثلاثون – جمادى الأولى 1440هـ – ك2 / يناير 2019م
لقد تنبَّه الغرب – وكل دول العالم – منذ عقود لتنامي التوجه الإسلامي إلى إيجاد كيان سياسي للإسلام، وشعر بخطر كبير بسبب التأييد العام والعارم من مختلف شعوب المسلمين لهذا التوجه. فسعى بكل ما أوتي من كيد ومكر وإمكانات لإجهاض هذا التوجه؛ والقضاء على الفكر والفقه السياسي الإسلامي عند المسلمين، والذي انتشر اليوم باسم الإسلام السياسي، ويطلق عليه الغرب وأدواته والمتضررون من وجود الدولة الإسلامية اسم )الإسلاموية)، وذلك من قبيل التهكم. وينطوي تعبيرهم هذا على زعم أن الإسلام ليس فيه نظام سياسي ولا أنظمة حياة وعلاقات. ولا يفتأ هؤلاء يمكرون ويخططون، ويجددون مخططاتهم ويعددونها، حتى كثرت وعمت العالم الإسلامي، وكلها تستهدف القضاء على الإسلام السياسي وحركاته. وهذا ما يقتضي التنبُّه والتتبُّع الدائم لهذه الخطط للوقوف عليها وكشفها ومواجهتها، ولغذِّ السير على بصيرة، وفي طريق واضح، من حيث بلغ العمل السياسي الإسلامي اليوم، وحيث وصلت الأمة، إلى آخر هذا الطريق حيث الغاية والهدف المنشود.  قال تعالى: ﴿ قُلۡ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيٓ أَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِيۖ وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ١٠٨﴾.
لقد فشل الغرب في إيجاد التغيير الذي يريده للعالم الإسلامي، ولمفاهيم الناس وعلاقاتهم، وهو ما يسمونه التحول الديمقراطي. وبتعبير آخر هزيمة الفكر السياسي الإسلامي. لقد حاول هذا الأمر بوسائل وأساليب لا تنتهي منذ هدم دولة الخلافة إلى الآن، لكنه بفضل الله لم يفلح. وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي. لم يبقَ في الميدان إلا الإسلام والرأسمالية. وتوهمت الرأسمالية أنها انتصرت وحكمت العالم، وأن الإسلام لن يستطيع مواجهة إمكاناتها، بالتالي فقد عملت على فرض النظام العالمي الجديد، وإقصاء الإسلام عن الحياة قسرًا… أي فرض تطبيق فكرة فصل الدين عن الحياة والديمقراطية.
وحيث إن دعاة الإسلام وحَمَلته لتطبيقه في الحياة أيضًا يسعون إلى إيجاد التغيير الإسلامي؛ فقد آل الوضع في بلاد المسلمين، بل وفي العالم، إلى صراع عالمي بين توجهين، يهدف كل منهما إلى تحقيق التغيير. وساحة الصراع هي العالم الإسلامي. اتجاه يستهدف التغيير أو التحول الإسلامي، واتجاه يستهدف التغيير أو التحول الديمقراطي. وحتى الآن لم ينجح أيٌّ من الاتجاهين. حزب التحرير، وقف ويقف في مقدمة الصراع، وعلى رأس العمل والتحرك باتجاه التغيير الإسلامي. والتحول الديمقراطي تتصدره وتخطط له أميركا وكل دول الغرب. ونحن الآن في قلب المعركة، نحن وغيرنا من المخلصين، سواءٌ حركات أو في حركات أو غير ذلك، وكذلك الأمة، الكل في المعركة. ويمكن القول إن الأمة تمتلئ نفسها بأمل التغيير الإسلامي وتنتظر بارقته؛ ومن الأهمية بمكان، التوقف هنا والنظر في أن هذا الأمر، لا بد له من استنفار العقول، وملاحقة المتصدرين للتغيير ومساءلتهم، لتقديم الاستراتيجيات والخطط.
إن صراع التحول أو التغيير، بين الإسلام السياسي ومن يتصدر له بإمكانات قليلة ودون الممكن بكثير، وبين العلمانية والدول الكبرى التي تتصدر لها بكل إمكاناتها الكبيرة والكثيرة جارٍ بقوة، وبكل أسلحتهم. وبالرغم من تفوق الغرب بإمكاناته المادية، إلا أنه فشل في القضاء على الإسلام السياسي، وفي فرض النمط الغربي في الحياة والدولة، رغم تطبيقه بالقوة؛ لأن المسلمين لا يتقبلونه، ويواجهونه، ويريدون التخلص منه ومن هيمنته. فالهيمنة والفرض بالقوة ليس انتصارًا، ولا نهاية المعركة. بل هو أحيانًا بدايتها. لقد فشل بوش الأب بفرض النظام العالمي الأميركي الجديد عقب سقوط الاتحاد السوفياتي، ثم فشل بوش الابن فشلًا ذريعًا مشهودًا في مشروع التفرد الأميركي في حكم العالم، ثم فشل أوباما، وكان وراء هذا الفشل في كل مرة، هم العاملون في الإسلام السياسي.
أراد أوباما وإدارته أن يعطوا متنفسًا سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا للمسلمين… وأرجعوا سبب العداء الإسلامي للغرب ولأميركا إلى أن أميركا تؤيد الدكتاتوريات الشمولية والقمعية، والتي تستأثر بالسلطة ومنافعها وتفقر الشعوب… وأن الشعوب لو أخذت فرصتها، وشاركت في العمل السياسي وفي انتخابات نزيهة، وارتفع عنها الضغط الاقتصادي والأمني… فلن تكون حينئذ ساعية إلى التغيير الإسلامي، ولا إلى كراهية أميركا والغرب… هذا الأمر جعل أميركا تضغط على الحكام والدول، وتتواصل مع جماعات وأحزاب ومنظمات حقوقية ومدنية كثيرة. وهذا ما جعل كل حكام المنطقة ينزعجون من أميركا ويتذمرون… وقد أدى هذا الأمر إلى تشجيع أميركا منظمات المجتمع المدني في العالم العربي، فانطلقت المعارضة، والمعارضات، ثم جاء السيل بأكثر مما توقعت أميركا، وهو الثورات. وكانت أميركا سعيدة جدًا بهذه الأحداث لأنها توهمت أنها من قبيل التحول الديمقراطي؛ ولذلك ذهبت تهدد بهذه الثورات، ومن ذلك تصريح هيلاري كلينتون في حينه بأن عاصفة هوجاء من الثورات ستجتاح المنطقة، وأنّ من ظن أنه ليس مقصودًا بها فهو مقصود. والراجح جدًا أن هذا الكلام كان موجهًا لحكام المسلمين.
إن أميركا تخشى الإسلام السياسي، وباتت لا تثق بالحركات السياسية الإسلامية حتى وإن كانت (معتدلة) بحسب معاييرها؛ لأنها لا تأمن عواقب وصولها إلى الحكم، ولتوقُّع وصول الحركات الإسلامية المخلصة على ظهرها. فقد رأت أميركا خلال حكم الإخوان والنهضة، أن هناك توجهات إسلامية تظهر وتتقدم وتزداد قوة في المسلمين، وهي ليست على شاكلة الإخوان ولا تؤمن بالديمقراطية ولا بالوسطية أو الحريات العامة… وفي مقدمة هؤلاء حزب التحرير، الذي علا صوته في مصر وتونس وسوريا وباكستان وإندونيسيا… ووجدت أميركا كما نصحها كثيرون، أنه في المحصلة لا فرق بين إسلام معتدل وإسلام متطرف، فكله مآله التطرف والإرهاب، وقال بعضهم ما يفيد إنّه حتى القاعدة والإخوان يسبحون في بركة واحدة. وصدر عن بعض قيادات الإخوان تصريحات استثمرها خصومهم، بحيث روّجوا بأن الإسلاميين كلهم واحد، وأن مزاعمهم بالديمقراطية والوسطية والحريات العامة ليست أكثر من أعمال انتهازية ووصولية… وأنه عندما يتمكن الإسلاميون فلن تبقى ديمقراطية ولا من يحزنون… هذا التفكير أدى عند أميركا إلى اتخاذ قرار حاسم بإزالة الإسلام (ولو كان شكليًا) من الحكم، وبشكل نهائي، وعدم السماح له بالوصول. هذه كانت سياسة أوباما في ولايته الثانية، وقد اقتضى الأمر مراجعة أميركا لواقع الثورات، ولحجم الإسلام الذي فيها وخطره، وكانت النتيجة أنهم عادوا إلى سياسة بوش الابن، وبشكل أقسى وأعنف، وتخلَّوْا عن سياسة أوباما التي جاء بها عام 2009م. وبهذا يكون الفشل متعاقبًا من بوش الأب، إلى بوش الابن، إلى أوباما. ولذلك جيء بترامب وسياسته الوقحة والفجة تجاه الإسلام والمسلمين. ونرى أن ملاحقة الحركات الإسلامية وفي مقدمتها الإخوان الذين يتنازلون ويتقربون للحكام، على قدم وساق وبشكل استئصالي. وقد ظهر هذا جليًا في الانقلاب عليهم في مصر والإمارات والسعودية؛ حيث نلاحظ تقاربًا أميركيًا كبيرًا مع هذه الدول في هذا الشأن.
أنهم وجدوا أنه لا أمان للمسلمين؛ لا المتطرف منهم ولا المعتدل. وبالتالي يجب أن يخرج الإسلام السياسي من الميدان نهائيًا. فلا يقال هذا معتدل ومتطور ويقبل بحقوق الإنسان فلا ضير منه! بل لا يصح وجود الإسلام أبدًا في العمل السياسي ونهائيًا؛ ولذلك فإن كل الحركات الإسلامية التي تريد أن يكون لها دور سياسي، سواء تريد الوصول إلى الحكم أو مجلس النواب، أو ممارسة أي عمل سياسي، فعليها أن تعلن تخليها عن الإسلام في جمعيتها وقوانينها وأعمالها؛ وإلا فسيتم استئصالها، والوسائل كثيرة: بالقانون، وبالأجهزة الأمنية، وبتلفيق التهم. وسيكون التعامل معها شديدًا، والمثال رابعة والنهضة. فالحركات التي ستُبقي على صفة الإسلام عندها، تمنع من ممارسة العمل السياسي، والتي تقبل ذلك تكون قد صارت علمانية، وهذا ما يحاولون أن يفرضوه اليوم؛ من هنا نشأت فكرة الفصل ما بين الدعوي والسياسي، ووضعت موضع التنفيذ بقوة بعد الثورات، مترافقةً مع الوقاحة في الهجوم على الإسلام، وتحت طائلة التهديد. واستُعمل لأجل ذلك رموز في تجارة القضايا وخيانة الأمانة.
فقد أعلنت حركة النهضة التونسية برئاسة الشيخ راشد الغنوشي الفصل بين الدعوي والسياسي في مؤتمرها العاشر في أيار عام 2016م. وأعلنت حركة التوحيد والإصلاح المغربية التي يرأسها الدكتور أحمد الريسوني تخلي الحركة عن العمل السياسي نهائيًا، والذي تركته لحزب العدالة والتنمية، في مؤتمر السادس في آب 2018م، ولا يوجد أي عضو من حزب العدالة والتنمية في حركة الإصلاح والتوحيد.
وتُسَوِّق هذه الحركات لنفسها بأنها ذكية وحكيمة؛ إذ إنها تتجاوز بذلك عملية الاستئصال التي مر بها الإخوان؛ لذلك ينظر كثيرون إلى تنازلات الغنوشي باعتبارها حكمة، ويتم إشهاره باعتباره نموذجًا يحتذى لدى الحركات الإسلامية، كما يتم تكليفه بإقناع الحركات الأخرى بالتخلي عن الإسلام والعلمنة في العمل السياسي.
واقع هذا الأمر أنه هجمة شرسة تريد تحقيق أهدافها باستئصال الإسلام السياسي بالقوة تحت طائلة الطمس، والإخراج من ميدان العمل السياسي، ما يؤدي إلى تصفيتها سياسيًا، وإذا لزم الأمر الإبادة الجسدية. والذي جرى ويجري في مصر هو نموذج التهديد، ويتم تقديم تونس باعتبارها مختبرًا لنجاح هذه السياسات أو بدائلها…
تقوم هذه الحركات بالمقارنة بين هذه التهديدات بالإلغاء والتصفير وبين البقاء مقابل تنازلات، وقد درجت العادة على أن تتنازل تحت ذرائع صارت معروفة ومكررة، كالمصالح والضرورات والموازنات… وبهذا عُرف سعر هذه الحركات أو سقفها، وصارت الأنظمة وأجهزتها تستعمل معها سياسة العصا والجزرة، فإما أن تتنازل وتحصل على مشاركة معينة، وإما أن لا تتنازل ويكون مصيرها السجن والقمع والإلغاء.
إن الوضع الذي مرَّ بيانه من تغيير أميركا سياستها بشكل انقلابي وعدائي شرس تجاه الحركات المعتدلة والوسطية، تتعاون عل فرضه أجهزة سياسية وأمنية ومراكز فكر ودراسات، وكذلك وساطات سياسية ومندسون، وتقام لأجل ذلك مؤتمرات. ومن الجدير بالذكر أن تتبُّع هذا الأمر دل على وجود توجهَيْن تجاه حركات الإسلام السياسي، وبخاصة الإخوان المسلمون. الأول هو توجهٌ اختار تصفيتها والتخلص منها نهائيًا، وذلك كمصر والسعودية والإمارات. والثاني توجهٌ يرى ترويضها لإزالة أي أثر للإسلام السياسي عندها، عن طريق العصا والجزرة، كما حصل ويحصل في الأردن والمغرب وتونس.
أمام هذا الواقع وهذه المؤامرات ضد الإسلام السياسي، ما ردُّ الإخوان المتوقع: القبول بالتحول إلى العلمنة، أم الرفض، أم الانقسام، أم التشرذم، أم ترك العمل بالكلية، أم ماذا؟ كل هذا وارد، وقد توقعه بعض المتابعين. فالمتوقع – بناءً على الخط البياني لمواقفهم – أن يتنازلوا، ليبقوا في الساحة، ولو بغير إسلام، وذرائعهم جاهزة. وقد صدرت إشارات بهذا الاتجاه.
ففي مؤتمر إقليمي عقد في فندق كراون بلازا في عمان في 23 أيار 2017م، نظمته مؤسسة فريدريش إيبرت الألمانية بعنوان: “آفاق الإسلام السياسي في إقليم مضطرب” كانت مشاركة لزكي بن أرشيد حيث مثل حزب جبهة العمل الإسلامي وحركة الإخوان في الأردن، وقدم كلمةً عنوانها “جماعة الإخوان المسلمين… تقدير الموقف وقراءة المستقبل”، ومما قاله فيها: “… اللحظة الراهنة التي نشهدها، والتي يرى فيها البعض أن حركة التاريخ الحتمية في طريقها إلى طي صفحة الإخوان المسلمين من التأثير في المشهد السياسي والواقع الاجتماعي، ويحلو للبعض أيضًا أن يرى الجماعة في طريقها إلى الانكماش والتراجع… وذهب بعضهم للبحث… عما بعد الإسلام السياسي، فهل هذه القراءة واقعية ولها ما يبررها؟”، ثم أعلن عن الاستعداد للتنازل، قائلًا: “إنّ الذين انشقوا عن الجماعة لن يكتب لهم النجاح”، وقال: “مستقبل ومسار جماعة الإخوان… تصنعه إرادة الجماعة وقدرتها على العبور وتجاوز المرحلة واغتنام الفرص… فالمستقبل ليس فيه مكان للعجزة أو الكسالى. والحمقى والموتى هم الذين لا يغيرون آراءهم أبدًا حسب أرنست همنغواي في رائعته الشيخ والبحر” ثم قال: “حزب جبهة العمل الإسلامي في الأردن بدأ بعملية المراجعة تحت عنوان إعادة الهيكلة، فإذا استطاع الحزب أن ينجز هذه العملية يمكن اعتبار ذلك بمثابة مرحلة التأسيس الثانية للحزب، لأنها تشكل طرحًا حداثيًا متقدمًا يلامس الأنموذج المستوعب لمجمل المتغيرات والتحديات، لا سيما وأن التعديلات تناولت الأفكار والأسس والمبادئ والرؤية والأهداف”. هذه تصريحات تشير بوضوح إلى الاستعداد للتنازل في كل شيء. وهي واضحة الدلالة على الاستعداد للذهاب إلى العلمنة. وهذا يغري الأنظمة بأن أسلوب التحريض على المراجعة وتغيير الأفكار، وتشجيع التمرد والانشقاق داخل الحركة، وإيجاد منافسين لها منها ويشبهونها، أسلوبٌ مجدٍ في ترويض الحركة وتغيّرها التدريجي إلى أن تتغير بالكلية.
ولكي يتبين بوضوح أن الغرب وعملاءه يخططون فعلًا لعلمنة حركات الإسلام السياسي وتخليها عن الإسلام في نشاطاتها وأعمالها السياسية، أن حزب زمزم الذي انشق عن الإخوان في الأردن، قال إنه ذهب إلى تبني “الفصل بين السياسي والدعوي باعتبارهما نشاطين بشريين يخضعان للصواب والخطأ، وليس من الصواب الدمج بينهما”، ودعا إلى “تبني مفهوم الدولة المدنية كشعار وممارسة”… أما الحزب الثاني المنشق وهو حزب الشراكة والإنقاذ، فهو يسابق الأول في التنصل من الإسلام، ويتفاخر بذلك. فقد جاء في كلمته التي شارك بها في المؤتمر: “هنالك مستقبل للحركات التي خرجت من عباءة الإخوان أو التي ستخرج لاحقًا؛ حيث استطاعت هذه الأحزاب التحلل من كافة العقد والضغوط النفسية المقيِّدة للفكر والرأي والعمل… تلك الأحزاب – حزبا زمزم والشراكة والانقاذ – قد سمَّت نفسها بأنها أحزاب وطنية أردنية مدنية، لا أحزابًا إسلامية إطلاقًا، متحررةً من صيغة الإسلامية”. وقال: “سيتم إعادة بناء النفسية والشخصية العربية وتشكيلها بفعل الأحداث والظروف على أساس خطاب وطني محلي غير مؤدلج، وسيصبح الشأن المحلي والهم الوطني ومحاربة الفساد هو الشغل الشاغل للجميع، والشعار الذي لا يعلو عليه أي شعار آخر، وسيتقدم الخطاب الوطني ليقود الجميع بلا أدنى شك، ولن يعود الخطاب الديني الإسلامي العاطفي خطابًا مهمًا وحافزًا ومحركًا للشعوب كما كان سابقًا…” ثم قال: “أعتقد أن المستقبل سيكشف… أن هذا الواقع السياسي قد ذهب إلى غير عودة، وسنشاهد صعودًا لتيارات وطنية لا ترفع شعار الإسلام في انتخاباتها أو أدبياتها… وسيشهد الجميع تراجع تيار الإسلام السياسي في العالم العربي وفي الأردن لصالح التيارات الوطنية…”. وهل يحتاج هذا إلى تعليق!
وفي الختام، نشير إلى أن الإعلان عن الفصل بين الدعوي والسياسي عند حركة التوحيد والإصلاح التي يترأسها أحمد الريسوني قد كان في آب 2018م، بينما انتخابه رئيسًا للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين جاء بعد ذلك بفترة قصيرة، في أوائل تشرين الأول 2018م، وهو يكيل المديح في هذا الشأن للغنوشي؛ ما يعني أن الأمر يجري وفق مخطط موضوع لضرب فكرة الإسلام السياسي… وذرائع هذا التوجه موجودة، وقد مرَّ ذكرها، ومنها مقاصد الشريعة التي ينسبون للريسوني عمق الفهم فيها وعلو الكعب، وما ذلك بصحيح، ولكنه يتبجح في ذلك كأعور يتحدث بين عميان. ولقد سبق لمجلة الوعي أن بيّنت هذا الأمر بالأدلة والشرح، في عدة أعداد منها.
ومما يجدر ذكره في ختام هذه الكلمة، أن هذه الخطط والمؤامرات تحرص على ربط الإسلام السياسي بحركات محددة كالإخوان ومن يشاركها في دعاوى الاعتدال والوسطية والتبريرات، وتتجاهل بشكل كامل الحركات التي لا يرد عندها شيءٌ من هذه التنازلات والتحريفات، وفي مقدمتها حزب التحرير، وهو أبو الإسلام السياسي وأمه. وهذا الأمر نفسه مؤامرة تقوم على التضليل وطمس الحقائق، فالإسلام السياسي لا يمثله الذين لا يجدون سبيلًا للعمل السياسي الإسلامي إلا من خلال إرضاء أنظمة الكفر، والتسويغات والترخصات التي تخالف الشرع، ثم تتجاوزه لتصبح خارجه بالكلية.
وأختم هذه الكلمة بالقول: إن نهج التحريف والتبديل هذا، ثم التبرير بهذه الذرائع، هو منهج من أصابهم اليأس والقنوط فذهبوا يوالون الكفار والظالمين، ويحاربون الشرع بألسنتهم ومواقفهم وكثيرٍ من أعمالهم، ويزعمون أن نواياهم وقلوبهم على غير ذلك، وأنهم إن يريدون إلا الإصلاح، وحفظ ما تبقَّى. هؤلاء ليسوا على الجادة، ولا على المنهاج القويم، هؤلاء تركوا ولاء الله سبحانه وتعالى إلى ولاء الظالمين، والله تعالى يقول: ﴿إِنَّ وَلِـِّۧيَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلۡكِتَٰبَۖ وَهُوَ يَتَوَلَّى ٱلصَّٰلِحِينَ ١٩٦ وَٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ لَا يَسۡتَطِيعُونَ نَصۡرَكُمۡ وَلَآ أَنفُسَهُمۡ يَنصُرُونَ ١٩٧﴾. وليتهم يتَّعِظون مما يصيبهم وبقوله تعالى: ﴿أَوَلَا يَرَوۡنَ أَنَّهُمۡ يُفۡتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٖ مَّرَّةً أَوۡ مَرَّتَيۡنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمۡ يَذَّكَّرُونَ ١٢٦﴾. صدق الله العظيم.    

الحروب التجارية وأبعادها السياسية

الحروب التجارية وأبعادها السياسية

د. إبراهيم التميمي
(عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير  في الأرض المباركة فلسطين)
مجلة الوعي: العدد 388 - السنة الثالثة والثلاثون – جمادى الأولى 1440هـ – ك2 / يناير 2019م
لا يخرج الصراع الدولي منذ فجر التاريخ وحتى قيام الساعة عن أحد دافعَين؛ إما حب السيادة والفخر (سواء سيادة الأمة أو الشعب، أو سيادة المبدأ) أو الركض وراء المنافع المادية، وبقي هذان الدافعان هما المحركَيْن للصراع الدولي، ولكن بعد زوال الدولة الإسلامية وسقوط الاتحاد السوفياتي وتفرد المبدأ الرأسمالي في السيطرة على العالم، وهو المبدأ الذي يقدِّس المصلحة والمنفعة ويدفع باتجاه السيطرة المالية والاقتصادية، تنحى الدافع الأول وأصبح الدافع الثاني هو المحرك والمؤجج الرئيسي للتنافس الاستعماري بين الدول الكبرى.
وتحوَّل هذا التنافس بين الدول الكبرى للسيطرة على الموارد والمنافع في العالم إلى سياسة خبيثة يتم تنفيذها من خلال أدوات عدة أبرزها: المؤسسات الدولية التابعة للدول الكبرى مثل منظمة التجارة العالمية، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والاتفاقيات السياسية والعقود التجارية والشركات العابرة للقارات، إضافة إلى الحكام العملاء والوجود العسكري في الدول العميلة.
أما بين الدول الكبرى، فقد أدى التقدم العلمي الهائل والتطور الملحوظ في علم الاقتصاد وزيادة الإنتاج والصعود الاقتصادي السريع لبعض الدول مثل ألمانيا والعملاق الصيني، وما يتطلبه ذلك التقدم الاقتصادي من تنافس في السيطرة على الأسواق العالمية لمواكبة التطور في الإنتاج، أدّى كل ذلك إلى شعور الدولة الأولى بالانزعاج والخوف من أن يتبع هذا الصعود الاقتصادي الكبير والسريع لتلك الدول صعودٌ سياسي يهدد مركز الدولة الأولى ونفوذها السياسي في العالم، ومع اندلاع الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالدولة الأولى وزلزلت اقتصادها قبل عقد من الزمن، وما تبع تلك الأزمة من آثار سلبية قاسية على الاقتصاد الأميركي، تعزز هذا الهاجس لدى الدولة الأولى وتنامى، واتخذت منه مبررًا لإطلاق العنان لنفسها لسلوك كل سبيل من شأنه مساعدتها في التخلص من الآثار السلبية لتلك الأزمة الاقتصادية، وأعطت الضوء الأخضر لسياسييها في اتباع أساليب ووسائل كانت في الماضي تعتبر من المحرمات التي يمنع استخدامها في التعامل والتبادل التجاري مع دول العالم، حتى وصل الأمر في عهد الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب إلى تجاوز قوانين منظمة التجارة العالمية وسياسة حرية التجارة التي شكلت أسس التبادل التجاري في العالم خلال العقود الماضية، وكانت فيما مضى تعتبر المرجعية المقدسة للدول الكبرى في حل الإشكاليات التجارية والمشاكل الاقتصادية ولا يجرؤ أحد على تجاوزها، وهو ما أشعل بحسب مراقبين واقتصاديين فتيل ما يسمى بالحروب التجارية، فما هي الحروب التجارية؟ وما هي الدوافع الحقيقية لهذا النوع من الحروب؟ وما هي الأبعاد السياسية لهذه الحروب؟ وهل من الممكن أن تؤثر على الموقف الدولي؟.
الحروب التجارية:
هو مصطلح تداولته وسائل الإعلام وتكرر على لسان السياسيين والاقتصاديين بعد الإجراءات التي قامت بها الولايات المتحدة ضد الاتحاد الأوروبي والصين وكندا ودول أخرى عدة، وما تبع تلك الإجراءات من ردود أفعال وإجراءات مضادة.
وتمثلت هذه الإجراءات بالأمور التالية:
فرض رسوم جمركية على واردات الولايات المتحدة من بعض صادرات تلك الدول حيث تم فرض:
10% رسوم جمركية على واردات الولايات المتحدة من الصلب، و25% على وارداتها من الألمنيوم، ومن الدول التي شملتها الرسوم الجمركية الاتحاد الأوروبي، وكندا، والمكسيك، وكوريا الجنوبية، والصين.
25% رسوم جمركية على واردات صينية بقيمة 50 مليار دولار في السنة.
التهديد بفرض المزيد من الرسوم الجمركية في حالة الرد على الرسوم التي تم فرضها حيث تم التهديد بفرض:
10% رسوم جمركية على واردات صينية بقيمة 200 مليار دولار ردًا على اتباع الصين سياسة الرد بالمثل، وفرضها رسومًا جمركية على واردات أميركية تقدر بـ50 مليار دولار، وهو ما يساوي قيمة المنتجات الصينية التي فرضت عليها الولايات المتحدة رسومًا جمركية.
رسوم جمركية على واردات الولايات المتحدة من السيارات القادمة من الاتحاد الأوروبي في حال فرضه رسوم جمركية على المنتجات الأميركية الواردة لدوله كنوع من الرد على الرسوم التي فرضتها الولايات المتحدة على الألمنيوم والصلب، وجاء ذلك التهديد عقب إعلان كل من كندا والاتحاد الأوروبي عن عزمهما مواجهة الإجراءات الأميركية بإجراءات مماثلة، وفرض ضرائب على المنتجات الأميركية الواردة إليهما، وشروعهما في تطبيق تلك الإجراءات.
رفض ترامب التوقيع على البيان الختامي للدول الصناعية الكبرى G7 بعد شدٍّ وجذب من قبل زعماء الدول المجتمعة لثني الولايات المتحدة عن إجراءاتها الاقتصادية ضد تلك الدول، وبذل الجهد في محاولة إقناع الرئيس دونالد ترامب بالعدول عن سياسة الحمائية وفرض الضرائب والجمارك.
الدوافع وراء هذه الإجراءات (الحروب التجارية):
في ظل المديونية الفلكية للولايات المتحدة والتي بلغت ما يزيد عن 20 تريليون دولار، وعدم القدرة على تجاوز آثار الأزمة الاقتصادية التي حصلت عام 2008م إلى الآن، وفشل الإدارة السابقة في ذلك، والرغبة الجامحة لدى الإدارة الحالية الفظة في معالجة تلك الآثار، تم اتباع هذه السياسة لتحقيق أهداف عدة منها:
جلب المزيد من الأموال إلى ميزانية الدولة بكل الطرق، سواء أكانت بشكل دبلوماسي يليق بدولة من خلال توقيع اتفاقيات تجارية جديدة وفتح أسواق جديدة لمنتجاتها، أم بشكل إجباري يليق بعصابة ومافيا كما حصل في التعامل مع النظام السعودي، أم بفرض الضرائب والرسوم الجمركية كما حصل مع الصين والاتحاد الأوروبي، ومن ثم استخدام هذه الأموال لدعم الاقتصاد الأميركي وتوفير فرص عمل.
التأثير بشكل سلبي على النمو السريع في اقتصاديات بعض الدول خاصة الصين وألمانيا التي يمثل لها السوق الأميركي المستهلك الأكبر لمنتجاتها في محاولة لضبط الصعود الاقتصادي والسياسي لتلك الدول، وفي المقابل دعم الشركات المحلية في الولايات المتحدة وتحفيزها على الإنتاج مثل شركات استخراج الصلب والألمنيوم بما يدعم اقتصاد الدولة.
والأمر الذي شجع الولايات المتحدة على القيام بمثل هذه الإجراءات هو إدراك الولايات المتحدة مدى الحرص الصيني على عدم تضرر المصالح التجارية مع أميركا، وهو ما دفعها في السابق إلى إخضاع حليفتها كوريا الشمالية للإملاءات الأميركية، وإدراك الولايات المتحدة أن الصين لن تستطيع مواجهة تلك الإجراءات بإجراءات مماثلة؛ لأن حجم الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة تفوق نسبة الواردات بكثير ما قد يدفع الصين إلى القبول بالابتزاز الأميركي من منطلق الحسابات الصينية التي أظهرت سابقًا مدى ضيق أفقها ووعيها السياسي على السياسة الدولية، وكشفت مدى ضعف إرادتها السياسية، فوفق نظر الأميركان من يضحي بالحلفاء مقابل المال يضحي ببعض المال من أجل الحفاظ على بقية المال، وكذلك ترى الولايات المتحدة أن الاتحاد الأوروبي أضعف من أن يدخل في مواجهة مع أقوى اقتصاد في العالم.
فبريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي تبحث عن شريك اقتصادي جديد، وهي تمارس سياسة اللف والدوران والإبقاء على رِجل مع أميركا ورجل مع الاتحاد الأوروبي بشكل يضعف مواقفها السياسية ومواقف الاتحاد الأوروبي.
أما ألمانيا فرغم تغير مواقفها السياسية ومعارضتها للولايات المتحدة في كثير من المسائل، خاصة في عهد الإدارة الحالية؛ ولكنها ما زالت غير قادرة على مواجهة الولايات المتحدة لافتقادها القوة العسكرية والنفوذ السياسي الكافي لذلك، وفي الوقت نفسه فإن المصالح الألمانية مع الولايات المتحدة ليست بالشيء القليل؛ حيث تصدر ألمانيا ما يعادل 111 مليار دولار سنويًا، وهو ضعف ما تستورده من الولايات المتحدة، ويعتبر السوق الأميركي من أهم الأسواق المستوردة للسيارات المصنعة في ألمانيا حيث يستورد 15% من إنتاجها، هذا عوضًا عن السيارات التي تصنعها الشركات الألمانية داخل الولايات المتحدة، وبالتالي إن خاضت هذه الحرب في الوقت الحالي فستخرج منها خاسرة.
أما فرنسا فإنها بدون بريطانيا وألمانيا تكون عاجزة عن مواجهة أميركا لوحدها.
الأبعاد السياسية لهذه الحروب:
وقبل الخوض في هذه النقطة، لا بد من الإشارة إلى أمر مهم، وهو الفارق الشاسع بين القوة العسكرية والنفوذ السياسي للدول الكبرى مقارنة بالدولة الأولى، ونضرب لتوضيح ذلك مثالين:
الأول: ميزانية وزارة الدفاع للولايات المتحدة لعام 2018م بلغت 715 مليار دولار وهو ما يعادل ميزانية الدفاع للدول الكبرى مجتمعة.
 الثاني: النفوذ السياسي الأميركي يفوق النفوذ السياسي لبقية الدول الكبرى مجتمعة، وهو في تزايد، والولايات المتحدة تكاد تمسك بمجمل الملفات والقضايا السياسية في العالم.
وفي ظل الهيمنة الأميركية على العالم، والتراجع الحاصل للمنافس القديم الجديد أوروبا، ومعضلة التفكير الإقليمي الذي تعاني منه الصين؛ فإن الدول الكبرى تسعى للتأثير على سياسة الدولة الأولى من خلال تأمين مصالحها في كثير من الملفات والقضايا السياسية كما حصل في الملف العراقي، والسوري، والأفغاني، والسعودي، والفلسطيني، وكوريا الشمالية، وغيرها من الملفات، وتساعدها في إدارتها وفي إبقاء سيادتها على العالم مقابل أهداف سياسية ومنافع اقتصادية وأرباح بالمليارات تجنيها وتكتسبها تلك الدول من الدولة الأولى من خلال التبادل التجاري معها والاستفادة من سوقها الضخم واستهلاكها الكبير. وفي المقابل، الولايات المتحدة كانت تتغاضى عن ميل الميزان التجاري لصالح تلك الدول وتغض الطرف عن الاستفادة من أسواقها واستهلاكها لما تقدمه تلك الدول من خدمة لها في الملفات السياسية ومساعدتها لها في إبقاء سيادتها على العالم.
 وقد أدت الضربات السياسية المستمرة التي توجهها الدولة الأولى للدول الكبرى في المناطق التي تبقَّى لها نفوذ فيها مثل النفوذ البريطاني في الخليج، والفرنسي في أفريقيا، والروسي في أوروبا الشرقية، والصين في محيطها، أدت إلى جعل المكاسب الاقتصادية هي الحائل الأخير بين الدول الكبرى وبين تغير سياستها في مساعدة الدولة الأولى في السيادة على العالم والإمساك بالملفات السياسية الساخنة. ومع الإعلان عن الحروب التجارية وسعي الدولة الأولى للسيادة مع الربح التجاري دون الالتفات إلى أهمية مساعدة الحلفاء، ودون مقابل يبقيهم تحت مظلتها ويحافظ على سيرهم خلفها؛ تكون الدولة الأولى قد سدت الباب في وجه تلك الدول وضربت مصالحها السياسية والاقتصادية، وهي بذلك تدفعها نحو تغيير سياستها تجاهها، وهو البعد السياسي الأبرز لما يسمى بالحروب التجارية.
احتمالية تأثير الحروب التجارية على الموقف الدولي:
الموقف الدولي هو الحالة التي تكون عليها الدولة الأولى في العالم والدول التي تزاحمها، وهو لا يلزم حالة واحدة، وإنما هو متغير ومتبدل في العالم حسب أوضاعه وأحواله وأحداثه.
وللتأثير على الدولة الأولى، وبذلك التأثير في الموقف الدولي يلزم تهديد المصالح الحقيقية للدولة الأولى تهديدًا فعالًا، أو تأمين مصالح الدولة الأولى عن طريق المساومة لمصلحتها، والناظر إلى الموقف الدولي هذه الأيام يجد أن الدول الكبرى بدأت تدرك خطورة وحماقة اختيار التأثير على الدولة الأولى من خلال تأمين مصالحها، وأن هذه الطريقة التي لا تليق بالدول الكبرى لما فيها من مقامرة بكيان أمة ومغامرة بمصير دولة، وإن كانت توصل إلى الغاية في بعض الأحيان، أصبحت غير فعالة وغير مجدية في ظل الإدارة الأميركية الحالية وسياستها القائمة على حماية مصالحها التجارية والسياسية دون الالتفات إلى مصالح الدول الكبرى، واستعدادها لنسف الاتفاقيات وتجاوز القوانين الدولية والتخلي عن المنظمات العالمية إذا ما وجدت مصلحة في ذلك.
وكانت هذه الحروب التجارية بمثابة ناقوس الخطر للدول الكبرى دفعتها لمراجعة سياستها في التعامل مع الولايات المتحدة، وقد ظهرت بوادر لذلك حيث بدأت الدول الكبرى حديثًا وبشكل لافت بالعمل على إنشاء تحالفات سياسية واتفاقيات تجارية فيما بينها تتجاوز الولايات المتحدة كنوع من أنواع التصدي للدولة الأولى وسياستها المتعجرفة، ومن الأمثلة على ذلك التقارب الروسي الصيني كما حصل في اجتماع منظمة شنغهاي الأخير في الصين 10/6/2018م، وأيضًا التقارب بين دول الاتحاد الأوروبي التي تضررت مصالحها بشكل كبير بعد الإجراءات الأميركية الأخيرة وما حصل في قمة الدول الصناعية السبع، ويلخصه تصريح ماكرون: “إن الأعضاء الستة الآخرين بمجموعة السبع قد يشكلون مجموعتهم الخاصة إذا اقتضى الأمر”. وكان هذا التصريح ردًا على الإجراءات الأميركية وتعنُّت رئيسها، وهو ما ينبئ بتغيُّر قادم للموقف الدولي بدأت ملامحه تظهر في ظل الإدارة الحالية ورئيسها المتعجرف الذي تبجح بإعلان ما يسمى بالحروب التجارية وأن الولايات المتحدة قادرة على كسبها، فغرد على حسابه: “عندما تخسر دولة مليارات الدولارات في التجارة مع كل الدول التي تتعامل معها تقريبًا، فإن الحروب التجارية جيدة، ومن السهل كسبها”، ونذكر ما جاء في جواب سؤال لأمير حزب التحرير العالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشتة تعليقًا على الحروب التجارية التي تشنها الولايات المتحدة “يعمل الرئيس ترامب صاحب العقلية التجارية على إنقاذ اقتصاد أميركا رافعًا شعاره “أميركا أولًا” مما ينذر بتفكك مؤسسات عالمية طالما استخدمتها أميركا لفرض نفوذها عالميًا، وبالتالي تفكك النظام العالمي وظهور موقف دولي جديد حيث لم تعد أميركا تضحي من أجل أن تبقى سيدة العالم بمساعدة الدول الأخرى، والتسامح بجعل ميزان التجارة يميل إليها، بل أصبحت تفكر فقط في السيادة مع الربح التجاري من دون مساعدة للحلفاء لتبقيهم تحت مظلتها وتسيّرهم خلفها”.
إن ما يحدث في العالم هذه الأيام من حروب تجارية بين الدولة الأولى والدول الكبرى ينبئ بتفكك أحلافها، ونشوء أحلاف جديدة، وتغير الموقف الدولي، وظهور موقف دولي جديد، وصعود دول جديدة إلى سلم الدول الكبرى مثل ألمانيا التي من الممكن أن تبدأ بعملية تسلح من العيار الثقيل، بل قد يتم جر العالم إلى مواجهات عسكرية على غرار الحرب العالمية الأولى والثانية في المنظور البعيد؛ وبهذا يبقى العالم غارقًا في دوامة الصراع بين ذئاب الرأسمالية، وتبقى الدول الكبرى والدولة الأولى تنهب العالم وتطور بلادها على حساب قارات بأكملها، ويبقى الصراع لأجل المادة والمكاسب التجارية دون الالتفات إلى قيم أخلاقية أو إنسانية هو المسيطر، ويبقى العالم يكتوي بنار الدول الكبرى سواء اتفقت على التقاسم أم اختلفت وتصارعت، ولا خلاص للبشرية من النظام الرأسمالي وصراعاته القذرة إلا بقيام دولة الإسلام التي تزيح المبدأ الرأسمالي ونظامه الظالم الذي وضعه عقل البشر الناقص والعاجز؛ فأدى إلى شقاء البشرية وتعاستها وعجزها عن تنظيم شؤون حياتها، وتضع مكانه النظام الإسلامي الذي وضعه خالق البشر، وهو يعلم ما يصلح حالهم وينظم شؤون حياتهم، فيتحول الصراع من صراع يسبب شقاء البشرية إلى صراع لإنقاذها وتخليصها من شرور الرأسمالية وتأمين العيش الرغيد لها.

أميركا والعالم

أميركا والعالم

مجلة الوعي: العدد 388 - السنة الثالثة والثلاثون – جمادى الأولى 1440هـ – ك2 / يناير 2019م
إن عالمنا اليوم يجري بسرعة، ولا يترك فسحة من الزمن للتفكير والتفكُّر، ونحن اليوم بحاجة ماسة أن ننظر بإمعان وتدبُّر؛ لنعلم كيف تدار أحداث العالم التي نفسرها على أنها أمر واقع لا مناص من الالتزام به. فأول الدعوة كان التفكر في خلق الله لتأسيس القاعدة الفكرية التي تبنى عليها أفكار الحياة؛ لذلك أهم عمل قام به الغرب لنا أن أشغل العالم بأسره على كل المستويات، الدول والجماعات والأفراد، عن أن تعي حقيقة الخلق.
واليوم تستخدم المطرقة الأميركية لتحقيق أجندة عالمية لا علاقة لها بالشعب الأميركي أساسًا، ويخطئ من يؤمن بمقولة إحلال الديمقراطية؛ إذ كل ما تعانيه البشرية اليوم من ويلات هو من ذلك المبدأ الرأسمالي الذي يقوم على فصل الدين عن الحياة، والذي يقول بالديمقراطية. وهذا المبدأ فرض الاستغلال والعبودية والجشع والقيمة الربحية التي أغفل بها كل قيم الأخلاق، وجعل العالم يسير على هوى أقلية رأسمالية متمثلة بأشخاص محدودين، وبعائلات معدودة،  فأين الديمقراطية؟! .
فخلال الحرب العالمية الأولى كانت الولايات المتحدة تعتمد مبدأ “مونرو” الذي يقوم: “على حياد أميركا في سياستها الخارجية عن أوروبا، ويمنع تدخل الأخيرة بالشؤون الداخلية والخارجية للولايات المتحدة”،   ومع ذلك رأوا أن مصلحة بلادهم هي في دخول الحرب، ولم يكونوا طرفًا أساسيًا ولكنهم ساهموا في النصر، ولكن بريطانيا وعت أنه يجب وضع نفسها كشرطي على العالم لمنع النزاعات المستنزفة لها، ولتتحكم بالعالم؛ فأنشأت عصبة الأمم، فتميزت العشرينات بالرخاء الاقتصادي ومحدودية البطالة (وذلك يعود أصلًا لما نهب جراء انهيار الخلافة العثمانية) ولكنهم عام 1929م، تعرضوا إلى أزمة اقتصادية عرفت بالكساد الكبير، وكان من أبرز معالمها:
انهيار سوق المال والعملات الأساسية خاصة المارك، وخيم كساد كبير وبطالة شبة كاملة بحوالى أربعين مليون عاطل عن العمل، وقد لعبت هذه الأزمة العالمية دورًا كبيرًا في نشوب  الحرب العالمية الثانية؛ حيث إن الفقر أدى إلى وصول حكومات قومية مثل هتلر وغيره، وفشلت عصبة الأمم في حل المشاكل الدولية، وانتهت الحرب بعد سيطرة الاتحاد السوفياتي على برلين واستسلام اليابان للولايات المتحدة بعد قنبلة هيروشيما وناغازاكي، مع أنه لم يكن لها أي داعٍ .
هنا ظهرت أميركا كقوة اقتصادية وسياسية جديدة؛ وذلك لضعف الأطراف الأخرى، وانتقل رأس المال العالمي إلى أميركا، فتربعت على عرش النظام الرأسمالي، وأعلنت القوة المنتصرة إنشاء ما عرف بالأمم المتحدة ومجلس الأمن، وتم تثبيت أعضائه الفائزين (الاتحاد السوفياتي والصين وفرنسا والمملكة المتحدة وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية)، وقد عملت أميركا على إضعاف نفوذ الدول الأوروبية، ودعمت كل حركات الاستقلال في العالم، وذلك لإخراج الدول المستعمرة من أراضي الخلافة العثمانية حتى تسيطر هي عليها.
ورغم ما أنشئ (الأمم المتحدة ومجلس الأمن) إلا أن ما سمي بالحرب الباردة أخرج الاتحاد السوفياتي من مركزه (لانهيار مبدئه من الداخل أكثر مما هو من الخارج، وذلك لا يمكن إعادته من جديد نهائيًا)، وأصبحت الولايات المتحدة تتحكم بالعالم واقتصاداته، وخاصة بعد فصل الدولار عن الذهب وربط النفط به؛ هذا وقد أفرزت الثورة المعلوماتية التتقنية الهائلة وضعًا اجتماعيًا خطرًا؛ إذ صارت تسيطر على أهم مئة أشهر شركة إعلامية دولية تبث سمومها للعالم، وترفع شأن من تشاء وتخفض من تشاء بغضون دقائق، وتسحب المليارات من أموال المضاربين العالميين لتترك أي بلد مدمرًا كما حدث في أزمة نمور آسيا. وبسيطرتها على الدول المصدرة للنفط أصبحت تتحكم برفع وخفض أسعاره، وأنشأت الشركات العابرة للقارات. وبعد كل هذه السيطرة يظهر أمامنا سؤال وهو: لماذا كل هذا التخوف، وهي تعتلي قمة العالم اقتصاديًا وتتحكم به؟  
إننا نجد أن أميركا مرت عبر تاريخها بأزمات مالية عديدة منذ عام 1898م إلى 1929م، وفي الستينات والثمانينات من القرن الماضي، وكانت طريقة المعالجة خارج أميركا على شكل حروب، أبتدأت من الحرب على إسبانيا، واحتلال الفلبين، والحربين العالميتين، مرورًا بفيتنام، وحرب الخليج، وآخرها قد تكون في أيامنا هذه.
إن النظام المالي العالمي حقيقة سقط عام ٢٠٠٧م، وما يجري الآن هو توالي سقوط هيكله، وتوالي انهيارات دوله. فسقوط العملة الموحدة (اليورو) حتمي، والعودة إلى العملة الوطنية وسقوطها أيضًا حتمية. وسقوط النقد البريطاني وغيره، وسقوط الدولار الأميركي ماهو إلا مسألة وقت، وانتقال الثورات التي حدثت في الشرق إلى دول العالم كالنار في الهشيم، وما يفعله ترامب هذه الأيام ما هو إلا تأكيد على ذلك. فلو لم يكن النظام المالي ساقطًا منذ فترة لما أعلن الحرب التجارية على الصين كخطوة أولى تلتها حرب على العالم بأسره؛ لأن هذه الخطوة تنم على الحفاظ على القومية وحمايتها، أي إن كل بلد أو دولة سوف تحافظ على اقتصاداتها كدولة قومية لا تنتمي إلى نظام اقتصادي عالمي، وهي إن كانت تدور فيه فحتى تجد خلاصها  منه.
ففي هذه الحرب التجارية نجد أن وزير التجارة الصيني يصرح فيقول: “هذه الحرب ستجلب كارثة للاقتصاد العالمي” وقالت سيسيليا رئيس مفوضية التجارة في الاتحاد الأوروبي: “اليوم يوم سيئ للتجارة العالمية، لقد بذلنا ما في وسعنا لتجنب هذه النتيجة بلا فائدة، وأصبح لدينا وضوح، وسيكون رد الاتحاد متناسبًا مع منظمة التجارة العالمية”. وقال ترامب على حساب بتوتير: “إن الولايات المتحدة تخسر مليارات الدولارات في العمليات التجارية، وإنه بإمكانها الانتصار بسهولة في هذه الحرب التجارية، وأعتبر هذه الحرب أمر جيد”.
اذً، ترامب والقيادة الأميركية تعلم أن الانهيار العالمي للهيكل المالي قادم، وأن هذا النظام ميت من قبل، ولم يبقَ سوى انهيار الهيكل؛ ولذلك نجد أن أميركا تخفض دعمها للمنظمات الدولية التي أنشأتها؛ وذلك لأنها سقطت منذ زمن ولا جدوى من دعمها. وبذلك نجد أن سياسة أميركا هي التي تعجل في الأزمة الاقتصادية، وتورط العالم بحروب لا قبل لهم بها. وترامب يعلم أن العالم بأسره مرتبط باقتصاده، والانهيار سيكون عامًا وليس خاصًا.
وهنا يمكن القول إن أميركا تعتبر نفسها أنها تجهزت لفترة الانهيار، وبنظرها أن حملة المبدأ البديل أي الأمة الإسلامية الآن في أضعف حالاتها من تشرذم وقصور نظر واعتلاء الخونة مناصب الأمة… لذلك هي تجهز لتسريع حالة الانهيار التي تظن أنها رسمت كل مفاصلها التي سوف تؤول إليها المنطقة؛ ولذلك أغلظت العصا على دول العالم الكبرى حتى تنهكها قبل الأزمة، وتفرض عليها أثقالًا فوق أثقالها، فتعدمها الحركة لفترة تسمح لنفسها اعتلاء سيادة العالم من جديد، وتكرار هذا المبدأ المقيت ولكن بحلة جديدة ومكر جديد؛ فتكون هي المنتصرة بعد إشعال الحروب التي لن تكون طرفًا مشاركًا فيها، بل تديرها عن بعد حتى تتدخل في آخرها، وتكون هي التي حافظت على قدراتها واعتلت عرشها السابق، ولن تعدم الوسيلة للضغط على الدول لإدخالها في تلك الحروب.
بيد أن أميركا مازالت متخوفة، فإذا هي تأخرت قليلًا في تنفيذ مخططها؛ فإن ذلك سوف يعطي فرصة للطرف الآخر (الإسلام) من أخذ أنفاسه من جديد، وعودة الصحوة على مستوى الأمة برمتها، وحينها سوف ينتصرون؛  لذلك هي تحاول خنق كل الدعاة المخلصين الذين يعملون ليلًا ونهارًا على توعية الأمة، ويحملون المبدأ الصحيح حملًا صحيحًا، فكرة وطريقة من جنسها، وهم لا يستطيعون تشويه هذا الحزب العظيم “حزب التحرير”، ومع كل ما يمتلكون من قوة وإعلام خبيث فإنهم يعلمون أنه إذا سلط الضوء ضدهم سوف ينتشرون بقوة أفكارهم، وستقبل الأمة عليهم؛ لذلك هم يعتقلون أفراده ويعذبونهم ويحاربونهم على أنهم مثل خلافة البغدادي المزعومة، وأنهم من يثير الثورات التي خربت ممتلكات هذه الأمة؛ ولذلك نجد أنهم يعملون ليلًا ونهارًا بقوة لدراسة ووضع الخطط لكيفية إنهاء تحركات المخلصين. وفي هذا المجال نجد تقرير CEP (counter extremisn project )   الصادر بحق حزب التحرير في حزيران 2018م، وأيضًا  تقرير AFPC(american foreign policy council وقد أقرت هذه المراكز عن حزب التحرير ما يلي:
– لا تستطيع الحكومات مكافحتهم منفردة لأنهم تنظيم عالمي، ولا يدعون إلى العنف، ولهم تنظيم هرمي يقدر بأكثر من مليون عضو في جميع أنحاء العالم، ولديهم نظام سياسي للخلافة التي يدعون لها، ولا يعترفون بخلافة لا تطبق شرع الله كاملًا.
– يعتمدون مراحل في دعوتهم مستمدة من سيرة رسولهم. وأنصارهم بتزايد كبير، ولهم نشاط إلكتروني منقطع النظير، ويضربون لذلك مثلًا المهندس إسماعيل الوحواح.
– إنهم منظمون ويحملون فكرًا واحدًا، ويصعب اختراقهم، ومحاربتهم يجب أن تكون عالمية، وهذا ما تسعى له أميركا في هذه الأيام. 
ونقول لأميركا ولمن لفَّ لفَّها، ما هو قادم سوف يتحقق بإذن الله لمصلحة هذه الأمة، ونصرها قريب جدًا بإذن الله، فكما ملأتم العالم جورًا وظلمًا، وحولتم الإنسان إلى عبد لشهواته ولماله ولكل شيء سوى الله، فإننا قادمون لنملأ العالم عدلًا ونورًا، ونطبق شرع رب هذا الكون، ونخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.
إننا في “حزب التحرير” نعلنها مدوية: إننا صابرون صامدون وحاملون لهذا الفكر ومتصدرون به لإقامة الخلافة الراشدة التي وعدنا الله بها. ونسأل الله عزَّ وجلَّ أن يكلِّل هذه المحاولات بالنجاح، وبتسلم قيادة هذه الأمة، وأن ينصرنا في هذه المواجهة الشرسة بين الحق والباطل، ويدحض الباطل ويضل أعماله، قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيۡهِمۡ حَسۡرَةٗ ثُمَّ يُغۡلَبُونَۗ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحۡشَرُونَ ٣٦﴾.
ياشباب هذه الأمة المعطاءة، لقد أثبتُّم أنكم مضحون وتبذلون الغالي والنفيس في سبيل الله، واليوم يومكم، فلم يبقَ إلا القليل وقد انكشف عور كل خائن وكل مخطئ، وأصبحت الرؤية واضحة لمن أراد أن ينأى بنفسه وينخرط في الطريق الصحيح، طريق رسولنا الكريم، طريق الحق، فوعد الله قد ظهرت بشائره فكونوا مع الركب.
يا شباب هذا الحزب العظيم: اصبروا وصابرو فإن العاصفة في ذروة هيجانها، وإن التمسك بما أمرنا الله هو المنجاة لنا ولهذه الأمة، قال تعالى: ﴿فَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلطَّٰغُوتِ وَيُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَاۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ وكونوا أحباب رسول الله بتطبيق شرعه، وإقامة دولته لينصركم الله كما وعد، ووعده الحق، قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرۡكُمۡ وَيُثَبِّتۡ أَقۡدَامَكُمۡ ٧﴾.

العوامل الجغرافية لقوة الدولة وضعفها ـ دراسة بدائية ومختصرة (3)

العوامل الجغرافية لقوة الدولة وضعفها ـ دراسة بدائية ومختصرة (3)

عبد الحميد عبد الحميد
مجلة الوعي: العدد 388 - السنة الثالثة والثلاثون – جمادى الأولى 1440هـ – ك2 / يناير 2019م
الدولة مؤسسة تستمد هيبتها من ثقة الأمة التي شكلتها بهدف تحقيق طموحاتها داخل حدودها وخارجها، فلا بد من حيازتها قوة تمكنها من تحقيق تلك الطموحات.. وهذه دراسة بدائية ومختصرة لأهم العوامل الجغرافية لقوة الدولة وضعفها، لخصتها من أحد كتب الجغرافيا السياسية، لتنبيه الشباب عليها، وتكون نواة لدراسات تالية متخصصة ومعمقة.
وقد تناولنا في العددين السابقين العوامل التالية: الموقع الجغرافي للدول، ومساحتها، وشكلها، والتضاريس، السهول، والجبال، والموارد الطبيعية، والمناخ، والعامل الاقتصادي. وسنتناول في هذا العدد العوامل الباقية التالية: العامل السكاني، والعامل السلالي، والعامل القومي، والعامل الديني، والعامل اللغوي.
9ـ العامل السكاني:
لشعب الدولة الدور الرئيس في قيامها وبناء قوتها، من خلال قيامهم بالأعمال والأنشطة اللازمة لذلك. وتعد الثروة البشرية عامل قوة للدولة إذا توافر فيها عاملا الكم والنوع والتجانس القومي واللغوي والسلالي والديني، مما يمنحها القوة والاستقرار والتماسك الداخلي، وبذلك تكون دولة نموذجية، ولا تكاد هذه الصفات تتحقق في دولة واحدة. فالسكان هم الثروة الحقيقية للدولة التي يمكن لها من خلالها تحقيق ما تصبو إليه من طموحات سياسية عالمية، فمن خلالهم تستغل الموارد الطبيعية، وتهتم بالعلم والتقنية، وتحافظ على وجودها، وتوسع حدودها.
أ ـ التعداد العام للسكان:
إن وفرة التعداد السكاني للدولة بحد ذاتها تعد عامل قوة لها، بينما تشكل قلة ثروتها البشرية عامل ضعف لها لا يمكن تجاوزه ولو توافرت لديها بقية عناصر القوة من مساحة كبيرة كأستراليا مثلًا، أو مستوى عسكري وصناعي متطور كالبرتغال ذات الـ/92000/ كم2 و/11/ مليون نسمة حاليًا، والتي سيطرت خلال بداية الحقبة الاستعمارية على مساحات أكبر من مساحتها بعشرات المرات في أفريقيا وأميركا الجنوبية، لكنها وبسبب نقص ثروتها البشرية كانت أول الدول التي تخلت عن مستعمراتها لصالح بريطانيا ذات الـ/243000/ كم2 و/65/ مليون نسمة، والتي احتفظت بمستعمراتها إلى منتصف القرن الماضي، وفقدت معظمها لصالح الولايات المتحدة.
ب ـ التركيب السكاني:
تختلف الدول عن بعضها في مستوى الزيادة الطبيعية للسكان. ففي الدول الصناعية الغربية تقل كثيرًا هذه النسبة، مما يجعل المتقدمين في العمر يحتلون القاعدة العريضة من الهرم السكاني. حيث يساعد على ذلك التقدم الاقتصادي والطبي، وتسببه أصلًا عوامل ثقافية واجتماعية تحد من الزواج والإنجاب، مما يجعل الشعب يصل إلى مرحلة الشيخوخة لصغر القاعدة التي يحتلها الشباب في الهرم السكاني لقلة الولادات، مما يدعو هذه الدول كالسويد والدانمارك إلى إطلاق البرامج التثقيفية الاجتماعية التي تشجع على الزواج والإنجاب. وهذا على عكس الدول المتخلفة صناعيًا، حيث تفوق نسبة الولادات نسبة الوفيات ويقل متوسط عمر الفرد، مما يقلل من عدد المتقدمين في العمر نسبة إلى عدد الشباب والصغار.
ويترتب على هذا الاختلاف بين الدول اختلاف في وجهات نظر شعوبها بين المحافظة على القديم المرتبط عادة بكبار السن، وبين الثورة من أجل التغيير واستخدام العنف المرتبط بالشباب. وعلى اعتبار أن الشباب هم أداة الدولة الفعَّالة في جميع أنشطتها الاقتصادية والعسكرية، فوفرة عدد الشباب تشكل عامل قوة في الدولة.
وبملاحظة أن البلدان التي يكثر فيها الشباب ويقل الشيوخ تتصف بعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، وأنها تكون مستباحة سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا من قبل الدول الصناعية، فأجواء الثورة على الأوضاع القائمة مهيأة جدًا في هذه البلدان. وعلى اعتبار أن هذه البلدان المتخلفة صناعيًا تتميز بارتفاع نسبة الذكور على الإناث، فهذا يمنحها القدرة على تقديم ما يلزم من الضحايا البشرية على مذابح الثورة والتغيير دون أن يتأثر نموها بالخلخلة الحاصلة في صفوف الرجال. فالشعوب التي تفقد الكثير من شبابها في ثوراتها وحركات التحرر سرعان ما تعوض النقص الحاصل عبر التزايد السكاني الطبيعي. وخير مثال على ذلك الزيادة السكانية الأعلى في العالم التي حاز عليها الفلسطينيون وبلغت نسبة 40 ‰، بينما تبلغ في الدانمارك 8 ‰. وزيادة النساء على الرجال في دول الشمال الصناعية يزيد أيضًا من قيم الانطواء على الماضي والمحافظة على القديم، حيث يلاحظ أن النساء خلال عمليات الاقتراع دائمًا تقف إلى جانب اليمين والأحزاب المحافظة.
ج ـ التوزع الجغرافي للسكان:
يرتبط التوزع الجغرافي للسكان بالعوامل التضريسية والمناخية إضافة إلى العوامل الاقتصادية والاجتماعية. فالإنسان يجنح دائمًا إلى العيش في ظل ظروف مناخية مريحة، ومساعدة له في نفس الوقت على تأمين ضروراته الحياتية وتطوره المادي والفكري واستقراره الاجتماعي والنفسي؛ لذلك نجد المناطق الخصبة ذات الحرارة والرطوبة الكافيتين لقيام زراعة جيدة هي التي تكون آهلة بالسكان أكثر من غيرها، وبشكل خاص مناطق الترب الحقلية في أودية الأنهار، حيث تكون الكثافة السكانية في أعلى قيمها لتوافر الماء والتربة الجيدة والحرارة المعتدلة، كما هو قائم في مجرى وادي النيل الأدنى. وفي سوريا نجد أن الكثرة الساحقة من السكان متواجدة غرب خط الأمطار الكافي للزراعة البعلية، وهو الخط الممتد من شمال البلاد إلى جنوبها متماشيًا تقريبًا مع الطريق المعبد الواصل بين حلب ودمشق مرورًا بحماة وحمص ووصولًا إلى درعا؛ حيث تكثر غرب هذا الخط المراكز السكنية الكبيرة، في حين أن شرقه ذو كثافة سكانية قليلة، مع وجود النظام الرعوي لقلة المعدل السنوي للأمطار الذي لا يسمح بقيام الزراعات البعلية.
أما العامل الاقتصادي الاجتماعي فغالبًا ما يلعب دوره في الإغراءات التي يتعرض لها سكان الأرياف من قبل الإمكانات التي تقدمها المدينة القائمة على أعمال الصناعة والتجارة وتوافر فرص العمل المأجور أكثر من الريف، مما يؤدي إلى تفاقم الهجرة؛ حيث يشكل المهاجرون حول المدينة سورًا من الأحياء الشعبية غير المنظمة وغير المخدمة كذلك، إضافة إلى إفراغ الأراضي الزراعية من اليد العاملة وتراجع الإنتاج الزراعي مع تزايد عدد المستهلكين. وهذه ظاهرة عالمية نجدها عند معظم الدول. ففي فرنسا يشكل سكان الريف نسبة 20% من مجموع السكان، وفي إيطاليا 30% وفي الولايات المتحدة 25%.
وإذا ما نظرنا إلى التوزع السكاني حسب مساحة البلد نجد أن بعض الدول الكبيرة ككندا وأستراليا والصين يتركز سكانها في منطقة واحدة أو اثنتين على حساب المساحة العامة شبه الخالية من السكان. فالصين البالغ عدد سكانها /1.4/ مليار نسمة، والتي تصل كثافتها السكانية إلى /88/ شخصًا في الكم2، نجد أن خُمس مساحتها تقريبًا غير مأهول بالسكان في شمالها الغربي؛ حيث إقليم تركستان الشرقية المسلم ذو المساحة البالغة /1.8/ مليون كم2، بينما لا يزيد عدد سكانه على /25/ مليون نسمة.
إن هذا التوزع السكاني غير المتناسب مع المساحة يشكل نقطة ضعف للدول، ويسبب لها العديد من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية؛ حيث تضطر الدول إلى وضع خطط التنمية التي عادة ما تكون منصبة على المناطق ذات الكثافة السكانية الكبيرة على حساب بقية المناطق الأخرى، وهذا ما يجعل من بعض مناطق الدولة متقدمة اقتصاديًا وخدميًا، وبالتالي مختلفة اجتماعيًا عن بقية مناطق الدولة.
ومن المشكلات الأخرى التي تخلقها معدّلات التمدّن (أي سكنى المدن) العالية هو الوضع الاقتصادي والاجتماعي السيئ للمهاجرين إلى المدينة، مما يجعل من تجمعاتهم الفقيرة والمحرومة بيئة حاضنة ومستقبلة لأفكار التغيير السياسي والثورات، في حين تكون المناطق الأكثر راحة اقتصاديًا أكثر محافظة على واقعها.
ومنها كذلك ازدياد تلوث الهواء والماء بنفايات المراكز السكنية الكبيرة ومناطقها الصناعية. فسكان الولايات المتحدة البالغ عددهم /325/ مليون نسمة، والذين يشكلون واحدًا إلى عشرين تقريبًا من سكان العالم، يشكّل نصيبهم من تلوث البيئة ثلث التلوث العالمي.
د ـ التركيب الأنثروبولوجي للسكان:
يشكل التركيب الأنثروبولوجي للسكان عامل قوة كبير للدولة إذا ما كان المواطنون متجانسين في أصولهم البشرية واللغوية والدينية، مما يجعل منهم وحدة متماسكة بعيدًا عن الاضطرابات الداخلية. بينما إن لم يكونوا متجانسين فالدولة تكون معرضة لحركات التمرد والانفصال والحروب الأهلية. وغالبًا ما تظهر أعراض عدم التجانس هذا في الدول الضعيفة غير القادرة بهيبتها على ضبط هذه الاختلافات بين المواطنين وعدم السماح باستغلالها من قبل الأعداء.
1ـ العامل السلالي:
تقسم البشرية حسب الدراسات الحديثة إلى ثلاث مجموعات سلالية كبيرة، هي المجموعة الأوروبية، والمجموعة المغولية، والمجموعة الأفريقية. وتتصف كل مجموعة بصفات شكلية تنتقل بالوراثة، وتجعل من أفرادها يختلفون شكليًا عن غيرهم من أفراد المجموعتين الباقيتين.
فالمجموعة السلالية الأوروبية ينتشر أفرادها من الهند إلى شمال غرب أوروبا بما في ذلك الشمال العربي الأفريقي. أما المجموعة السلالية الأفريقية فلا توجد إلا في القارة السمراء جنوب منطقة الصحراء الكبرى. وأما المجموعة السلالية المغولية فينتشر أفرادها في شرق وجنوب شرق وشمال شرق القارة الآسيوية.
إن التجانس السلالي إذا ما تحقق عند رعايا الدولة فإن في ذلك قوة لها، والعكس صحيح. ومن أمثلة ذلك عدم التجانس السلالي في جنوب أفريقيا بين السكان السود الأصليين وبين حكامهم البيض سابقًا من المحتلين الإنكليز، والذي أدى إلى اضطرابات سياسية كبيرة، ما أدى إلى تغيير نظام الحكم. ومنه عدم التجانس القائم في الولايات المتحدة بين الحكام البيض ذوي الأصول الأوروبية وبين السود والملونين من ذوي الأصول الأفريقية والآسيوية، والذي يتفاقم خطره بتصدر الأوروبيين للمشهد السياسي والاقتصادي والثقافي والعسكري، وممارسة سياسة التفرقة العنصرية والتمييز ضد السود والملونين.
2ـ العامل القومي:
إذا كان سكان الدولة من قومية واحدة كانت الدولة أكثر استقرارًا وأبعد عن الاضطرابات الداخلية التي ستشغلها عن التمدد والتوسع، على عكس الدول ذات القوميات المتعددة، إلا إذا كان أفراد هذه القوميات متساوين في الحقوق والواجبات أمام القانون.
ومن أمثلة ذلك بريطانيا التي يشكل الإنجليز فيها أربعة أخماس السكان، والخُمس الباقي يتكون من الإسكوتلنديين والإيرلنديين والويلزيين والغاليين، الذين حافظوا على عاداتهم وتقاليدهم ويختلفون بدياناتهم عن الإنجليز. فأغلب الإيرلنديين هم من الكاثوليك، والإسكوتلنديون من البروتستانت، وأما الإنجليز فمن أتباع الكنيسة الإنجليكانية. إضافة إلى أن الإيرلنديين هم جزء من جزيرة إيرلندة؛ حيث تعد إيرلندة الشمالية مستعمرة بحقّ لإنجلترا، وتسعى إلى الاستقلال عنها والانضمام إلى إيرلندة الجنوبية. هذا إضافة إلى القومية الغالية القريبة من الفرنسيين في اللغة والتقاليد والعادات. إلا أن ما يبعد عن الدولة البريطانية الاضطرابات الداخلية قوة الدولة وموقعها الجزري الذي لا يساعد على تقديم المعونة لمن يريد الاستقلال من قومياتها، فلو كانت بلاد الإنجليز متصلة بأراضٍ قارية لكانت روح الانفصال نامية عند الإسكوتلنديين والغال والويلزيين أكثر مما هي عليه الآن. أما بالنسبة للإيرلنديين فإن انفصالهم عن الجزيرة الإنجليزية واتصالهم البري بوطنهم الأم ينبه فيهم شعورهم القومي ويدفعهم إلى المطالبة الدائمة بنيل الاستقلال. ومعلوم ما كان يشكله الجيش الجمهوري الإيرلندي من خطر على استمرار انضمام إيرلندة الشمالية إلى المملكة المتحدة.
أما كندا التي يشكل فيها الإنجليز 40% والفرنسيون 30%، فنجد الفرنسيين دائمي المطالبة بالانفصال عن الجانب الإنجليزي مدعومين من قبل فرنسا، فهم يشكلون منطقة التجمعات السكنية الأولى كيبك، ولا زالوا محافظين على عاداتهم وتقاليدهم ولغتهم وكاثوليكيتهم في ظل تصدر الإنجليز البروتستانت للحياة السياسية والاقتصادية.
3ـ العامل الديني:
يمنح الدين الواحد الدولة مزيدًا من القوة والتماسك الداخلي، على عكس الدول متعددة الأديان، وخصوصًا إذا ما رافق ذلك اختلاف في اللغة والقومية، وكانت الدولة ضعيفة بما يسمح بالتدخل الخارجي. ومن أمثلتها ما استطاعت الدول الغربية خلقه من فتن بين الطوائف في لبنان أواخر الدولة العثمانية، وكذلك الجزيرة القبرصية الممزقة بين الطائفة اليونانية بلغتها القومية ودينها المسيحي، والطائفة التركية بلغتها القومية ودينها الإسلامي.
وهناك الهند التي تتميز بتنوع ديني حيث يشكل الهندوس نسبة 80% من مجموع السكان، ويشكل المسلمون 13%، إضافة إلى وجود المسيحيين والسيخ والبوذيين بنسب قليلة، إضافةً إلى ما تعانيه من التفرقة القومية واللغوية الحادة لدرجة يصعب معها التخاطب بين السكان إذا ما انتقلوا من جهة إلى أخرى في ذلك البلد الكبير. فعلى الرغم من أن نسبة 42% من السكان يتكلمون اللغة الهندية، إلا أن الدستور يعترف بـ/15/ لغة رئيسة أخرى و/720/ لهجة و/72/ لغة ثانوية و/24/ لغة قبلية. ولذلك فالهند تعد مهيأة للتشظي والتفتت إذا ما ضعفت الحكومة المركزية ووجد من العوامل الخارجية ما يدفع إلى ذلك.
4ـ العامل اللغوي:
تعد اللغة عاملًا جامعًا بين الناطقين بها، فتولد فيما بينهم شعورًا بالقربى والتعاطف. ومثالها البارز ما هو قائم بين المسلمين، حيث تشكل الثقافة الإسلامية بثوبها العربي جزءًا أصيلًا من تاريخهم وشخصيتهم الحضارية، وعاملًا موحّدًا لهم جميعًا إذا ما أرادوا يومًا الانضواء تحت دولة واحدة ذات نظام إسلامي هي دولة الخلافة.
في الختام يجب التذكير بأن هذه كانت دراسة بدائية ومختصرة، وينبغي أن تكون نواة لدراسات متخصصة ومعمقة في مواضيعها المختلفة. وعلى الله قصد السبيل.  [انتهى البحث]

الخطـــــــــابة: ما لها، وما عليها

الخطـــــــــابة: ما لها، وما عليها

عبدالرحمن العامري- اليمن
مجلة الوعي: العدد 388 - السنة الثالثة والثلاثون – جمادى الأولى 1440هـ – ك2 / يناير 2019م
تتنوع الأساليب والوسائل، والتي تنشر من خلالها الأفكار، فتارة تستخدم الكتابة في الصحف والمجلات والإنترنت والإعلانات عبر المقالات والمواضيع والقصائد، وتارة عبر الفيديوهات والتسجيلات، وتارة عبر الخطب والدروس والمحاضرات وغيرها من تلك الأساليب والوسائل. أما على مستوى الخطابة فقد وصلت حالة الخطابة إلى حالة يرثى لهى، وصلت إلى أدنى مستوى من الانحطاط لتعكس الواقع الذي نعيشه، فذاك خطيب يخطب خطبة ويفرغ لها ساعة كاملة وهو جاهل بأحكام الخطبة من أن الأصل فيها القصر وليس الإطالة، وذاك يتحدث عن موضوع الطهارة والحيض والصلاة والحج والصيام والزكاة… وهذه رغم أهميتها فقد تشبَّعت منها الأمة، وهناك ما هو أهم وأعظم منها من استيلاء الغرب على مقدرات المسلمين واحتلال أراضيهم واغتصاب نسائهم في بورما والعراق وأفغانستان وأوزباكستان وفلسطين، ولا يتحدث بهذا وذاك، تراه يلهب مشاعر المسلمين دون فكر ودون علاج للمشكلة التي يطرحها، فيخرج المستمع وكأنه طبل أجوف، وذاك يلحن في صوته الجميل على المنبر وكأن المنبر للحن، وذاك يجعل خطبته لدعوة مذهبية عفنة مقيتة يحقق بها أغراض الغرب بدلًا من الدعوة لوحدة المسلمين وإقامة دولتهم.
إن ما أصاب الأمة وخطباءها بشكل خاص كان بفعل عوامل عدة منها: هدم دولة الإسلام وترك الحكم به؛ مما أوجد حكمًا غير حكم الإسلام؛ فلا اهتمام بالإسلام وأفكاره، ومنه الخطباء الذين لا راعي لهم يرعى شؤونهم؛ فيقوي محاسنهم وينقد مساوئهم نقدًا فيه البناء، وكذلك انحطاط المستوى الفكري للخطيب، سواء أحكام الإسلام، أم فقه اللغة العربية، وكذلك عدم فهمهم للواقع المعاش ومن ثم إصدار الأحكام عليه، وكذلك تعيين الخطباء المأجورين من قبل الدول الحالية العميلة فتملى عليهم الأفكار والتعليمات التي يسوقها لهم الغرب؛ فيبتغون رضى ووجه هذا الغرب وحكامه التابعين، وكذلك هناك عامل خوف الخطباء من قول الحق خشية من بطش الحكام.
لذلك كانت المقدمة السابقة مدعاة لي لكتابة هذا الموضوع ابتغاء وجه الله، ثم التغيير لهذا السلوك غير السوي الذي ينتهجه هؤلاء الخطباء، هدانا وهداهم الله ليغيروا من مسار خطبتهم، فتكون خطب نافعة تنفع الأمة وتسوقها إلى كل خير، فيخرج المستمع من الخطبة بفكر إسلامي صحيح ومشاعر إسلامية صحيحة؛ لتتشكل بهذا الفكر والمشاعر شخصية إسلامية تغير وتقود المجتمع إلى كل خير وإلى كل نهضة صحيحة. فيا ترى، كم هي عدد الخطب التي يخطبها الخطباء؟؟ لا شك إنها بالآلاف وبالملايين، فهي بعدد الجوامع، فلو كانت تؤدى هذه الخطب على الوجه الأكمل والصحيح لساهمت في إيجاد نهضة ليست بالقليلة لهذه الأمة المكلومة.
الخطابة لغة هي علم البلاغة والبيان. وفن الخطابة هو فن إقناع الناس وإدهاشهم، إما بالكلام وإما بالكتابة، ويمكن تعريف الخطابة بأنها كل ما يشتمل على كلام أو كتابة يتم التفنن بها لتغمر وجدان السامع. وإيجازًا هي فن مخاطبة الجماهير للتاثير عليهم واستمالتهم. والخطابة لها أساسيات، منها المشافهة ووجود جمهور مستمع وتوفير عنصرَي الإقناع والاستمالة بوجود البراهين والأدلة. والاستمالة تكون إما بتهييح المشاعر باتجاه ما يقال أوتهدئة نفوسهم، هذا وقد خلق الله الإنسان باستعداد فطري للتعبير وإقناع الغير برأيه، وقد كان الرواد الأول في هذا هم الأنبياء والرسل، فقد كانوا يخاطبون أقوامهم لإقناعهم بما يحملون من فكر يمثل عقيدة، هذا وقد اشتهر العرب بفن الخطابة باستخدامهم للسجع في الدفاع عن أنفسهم من خلال المفاخرة والاستعراض بما كانوا يشتهرون، وهو الفصاحة والبيان، فهي صفة فطرية، وكذلك كانت تستخدم الخطابة في المجادلة والحوار الشديد والحروب والدفاع عن العرض والمال والنفس والكرامة.
أما الإسلام فقد أولى للخطابة أهمية كبيرة كونها تحقق استجابة عظيمة من قبل الناس، فقد استخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم الخطابة في دعوته الناس للإسلام، لا سيما في المناسبات الدينية، فجاء الإسلام يهذب ما كانت عليه الخطابة في الجاهلية فيشربها فكر الإسلام العظيم، فكانت خطبة الجمعة والعيدين، وكان فكرها مستمدًا من مفاهيم القرآن الكريم وأحاديث الرسول الكريم، صلوات ربي وسلامه عليه، فكانت تدعو إلى اتباع الدين والتمسك به، وتدعو للعمل للآخرة، وإعلاء كلمة الحق وإقامة دولته لتطبق أحكام الإسلام بها، وتحذر المسلمين من الانحدار والانزلاق في طرق الشهوات، فوصلت الخطابة إلى أعلى طبقات البلاغة، فكانت أسلوبًا مؤثرًا ومتينًا ومقنعًا، خاصة خطب الخلفاء الراشدين والصحابة الكرام والتابعين، مثل زياد بن أبيه والحجاج بن يوسف الثقفي وأبي حمزة الشاري .
وهناك بعض الشروط الواجب توفرها لدى الخطيب حتى تكون خطبته ناجعة تحقق الأثر الأكبر في المجتمع  وهي:
1- قدرة الخطيب على استمالة وإقناع الناس، وكذلك الوقار، والصدق، والوفاء، والأمانة، والهمة العالية، والصراحة والوضوح.
2- طلاقة اللسان والتحدث بلباقة دون تعتعة والفأفأة والبعد عن الثرثرة.
3- المعرفة بالقرآن الكريم وعلومه وتفسيره وأحكامه، والمعرفة كذلك بالحديث الشريف.
4- الصوت الحسن والمريح والمقبول دون تكلف وتصنع وتلحين.
5- الجرأة في الكلام وقول الحق، وعدم الخجل أو ضعف القلب، وعدم مجاملة الأنظمة وبيان خطئها.
6- معرفة أحكام الإسلام وخاصة في القضايا المعاصرة.
7- معرفة الواقع السياسي وحكم الشرع فيه.
8- عدم إطالة الخطبة،  فهي خطبة وليست محاضرة جامعية، فخير الكلام ما قل ودل، فأن توجز بخير الكلام أفضل من الإطالة بخير الكلام، وأن تنتهي الخطبة والناس متشوقون لك خير من أن تنتهي والناس ضجرون وكارهون لك، فقد جاء في حديث عمار عند مسلم قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة، وإن من البيان سحرًا”. وكذلك حديث جابر بن سمرة قال: كنت أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت صلاته قصدًا وخطبته قصدًا. رواه مسلم، والقصد في الصلاة أو الخطبة أي أن تكون الصلاة أطول من الخطبة. وقد ورد عن صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم في صلاة الجمعة، عن أبي هريرة أنه كان يقرأ سورة الجمعة والمنافقون، وفي حديث النعمان بن بشير كان يقرأ الأعلى وهل أتاك حديث  الغاشية. وحديث ابن عباس بيَّن أنها سورة المنافقين والجمعة. فالأحاديث السابقة تدل على أن أطول صلاة جمعة تقرأ فيها سورة المنافقون والجمعة إضافة لفاتحتين وسجودين وركوعين وتشهد وصلاة إبراهيمية. أما أقصر صلاة للجمعة فجميع ما سبق وباستبدال المنافقون والجمعة بالأعلى والغاشية . وبالتالي يمكن تقدير الصلاة بقراءة السور السابقة، فلا داعي للإطالة.
9- اختيار موضوع مناسب للخطبة، وهو ما يحتاجه الناس من علاج لمشاكلهم، فقد تكون المشكلة في العقيدة فتحتاج ما يركزها من أفكار، أو تكون المشكلة كشفًا لواقع، أو موقفًا سياسيًا، أو تركيزًا لفكر، أو كشفًا وتوضيحًا لفكر خاطئ يبين الحق فيه… فلا بد من اختيار الموضوع الهام والرئيسي وليس الفرعي.
10- بث روح الأمل في الأمة، والمعارك التي انتصر فيها المسلمون.
11- استعمال الأسلوب الخطابي، لا أسلوب الدرس أو المحاضرة أو المقالة أو القصص أو الشعر… مع استخدام الأسلوب الانفعالي  بحسب ما تتطلبه الفكرة.
12- الحرص على تجنب اللحن، فإنه يقبح بالخطيب أن يلحن في كلامه، وأشد قبحًا اللحن في قراءة القرآن على المنبر.
13- عدم رفع اليدين بالنسبة للخطيب عند الدعاء والاكتفاء بالإشارة فقط بسبابته.
14- الهيئة الحسنة.
وهذا نموذج لخطبة الجمعة:
(بسم الله الرحمن الرحيم
1- عنوان الخطبة: زيف وفساد ما يسمى برابطة الوطن.  
2- المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، رب العرش الكريم، ناصر المتقين وهازم الظالمين والكافرين والمنافقين، القائل في محكم كتابه: ﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوۡلٗا سَدِيدٗا ٧٠ يُصۡلِحۡ لَكُمۡ أَعۡمَٰلَكُمۡ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۗ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ فَازَ فَوۡزًا عَظِيمًا ٧١﴾ ويقول جلَّ من قائل: ﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ ١٠٢ ﴾، والصلاة والسلام على النبي المجتبى، محمدٍ صلى عليك الله في علاه يا نور الهدى، صلوات ربي وسلامه عليك يا أيها النبي المصطفى. اللهم صلِّ على سيِّد الورى، محمدٍ وعلى آله وصحبة وسلِّم وبعد.
 3- الموضوع:
 أيها المسلمون، يتقاتل المسلمون اليوم في شتى بقاع الأرض على حدود وضعها الغرب الكافر المستعمر ليفصل بلاد المسلمين بعضها عن بعض: بين اليمن والحجاز، وبين مصر والسودان، وبين إيران والإمارات… نعم، إنها حدود حدَّتها بريطانيا وفرنسا في اتفاقية سايكس بيكو عندما سقطت الخلافة العثمانية عام 1924م؛ لتجزِّيءَ الأمة وتشطرَها إلى أكثر من 57 دويلة، لكي يسهل على أعدائها النيل من قوتها واقتصادها وفكرها وكل مقوماتها، فتكون لقمة سائغة في فاه هذا الوحش الاستعماري البغيض. وهذا الغرب، لكي يعمل على تثبيت هذه الحدود، أوجد بين شعوب هذه الدول المصطنعة رابطة فاسدة هي ليست برابطة، ولا تصلح لأن تكون ميثاقًا يوثّق بين المسلمين، ولا حتى رابطة تربط بين البشر حينما يسيرون في طريقة النهوض. نعم، إنها رابطة ما يسمى بالوطن، الرابطة الوطنية. لقد خلق الله عز وجل الإنسان، وجعل فيه خواص خاصة به، هي الحاجات العضوية والغرائز. ومن هذه الغرائز غريزة حب الإنسان لبقعة معينة من الأرض بسبب التصاقه بها، فاستُغلت هذه الغريزة من قبل الكفار المستعمرين ليبنوا عليها فكرًا منحطًا، منشؤه غرائزي وعاطفي، وليس فكرًا مبدئيًا كمبدأ الإسلام الحنيف مثلًا، فيصبح حب هذه البقعة من الأرض وهي الوطن، أجَلَّ ما يقدسه أبناء هذه الشعوب، وهي بذلك ترسخ الفرقة والتجزئة والانقسام الذي وضعه الكافر ا لمستعمر، فهي تقسم بلاد المسلمين لقِطَعٍ ودول، والله سبحانه يقول: ﴿وَلَا تَفَرَّقُواْ﴾ حيث لكل دولة حدود تفصلها عن غيرها من بلاد المسلمين، وتعتبر ما هو خارجها أجنبيًا، حتى وإن كان من المسلمين، فلا يحق لهذا المسلم الذي تَعدُّه أجنبيًا بالإقامة إلا بإذن ورسوم، وحتى دخوله بتأشيرة، ولا يحق له ما يحق لأبناء البلد من حقوق، حتى الزواج من نساء هذا البلد فهو غير مسموح في بعض البلاد. وكذلك حق الوظيفة والانتخاب غير مصرح به ومحظور. فأيُّ وطنية هذه يدعو لها المسلمون الغافلون؟! في الوقت الذي تتوحد فيه أوروبا ببطاقة، والصين تتوحد بتعداد سكاني يصل إلى أكثر من مليار نسمة بعدد يقرب من عدد سكان بلاد المسلمين، وتتوحد أميركا بولايات هي بعدد قريب من عدد دول وبلاد المسلمين 51 ولاية. نعم، أيها المسلمون، إنها بحق رابطة فاسدة لأسبابٍ شتى. وهي رابطة منخفضة ومنحطة فكريًا، أساسها ليس مبدأ الإسلام، بل أساس غرائزي عاطفي يوجد في الطير والحيوان، ثم إنها عاطفية مشاعرية وليست عقلية تتميز بفكر، ثم إنها مؤقتة تظهر في وقت الحرب، فتجمع بين الوطني والوطني وقت الحرب والمشاكل، أما في السلم فلا أثر لها. فكيف نأمن على أنفسنا برابطة من أبرز صفاتها تجزيء الأمة، وتوجد الفرقة والتعصب، والله عز وجل يذمُّها في كثير من الآيات والأحاديث.
قال تعالى:﴿ وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ كُنتُمۡ أَعۡدَآءٗ فَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم بِنِعۡمَتِهِۦٓ إِخۡوَٰنٗا وَكُنتُمۡ عَلَىٰ شَفَا حُفۡرَةٖ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنۡهَاۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ ١٠٣﴾ فكيف يكون الاعتصام بحبل الله وعدم التفرق في دول متفرقة زرعها الاستعمار وزرع فيها ما يفرقها، ألا وهي رابطة الوطن بدلًا من رابطة الإسلام الأشمل والأكمل والأوسع. ويقول خير البشر، صلوات ربي وسلامه عليه: “ليس منا من دعا إلى عصبية”، ويقول: “دعوها، فإنها منتنة” إن هذا الحديث كانت له مناسبة، وهي أن يهوديًا  لئيمًا أحبَّ أن يوقع بين الأنصار وهم الأوس والخرزج، الفرقة والضغينة والاقتتال؛ حيث ذكَّرهم فيما كان بينهم من اقتتال أيام الجاهلية، وكيف كانا يتقاتلان، وكيف يقتل بعضهم الآخر،  فتذكَّرا ذلك،  وكانا على وشك الاقتتال لولا أن أنقذهما رسول الرحمة صلى الله عليه وسلم بمعرفته لغرض هذا الخبيث الذي كان ينوي الإيقاع بين الأوس والخزرج، فعرف الحيلة وكشفها، وقد غضب صلوات ربي وسلامه عليه واحمرَّ وجهه وقال “أبدعوى الجاهلية تبغون وأنا بين ظهرانيكم… دعوها إنها منتنة”  فكان التعصب إلى القوم أو الوطن أو الحزب أو القبيلة أو الجنس أو المذهب حرامًا شرعًا، فلا يجوز هذا لأنه من باب التفرقة التي ذمَّها الشرع ولم يحمدها، وهناك دعوات ضالَّة مضِلَّة تدعو إلى رفع رايات عصبية وعنصرية لما قبل الاسلام، كالدعوة للفرعونية والأشورية والآرامينية والحميرية والسبئية، فهي دعوات باطلة، وروابط ما أنزل الله بها من سلطان، ولم يجعلها الشرع روابط تصلح لأن تربط بين بني الإنسان حينما يريد أن يسير في طريق النهضة، بل هي روابط تدعو لعصبيات وعنصريات ومشاكل. نعم، فقد كان رسول الأمة حاضرًا بين الأوس والخزرج، فأنقذهم من الوقوع في الكارثة العظمى، وهي ضرب المسلمين رقاب بعضهم بعضًا. فمن ينقذنا نحن اليوم من التفرقة والتشرذم والاقتتال؟ أليست أوامر الله ونواهيه من الآيات والأحاديث، أي أحكام الشرع،  هي التي تنقذنا من كل مشاكل الحياة؟.
إن محمدًا صلى الله عليه وسلم وحَّد المسلمين باختلاف أعراقهم وأجناسهم في دولة واحدة، هي دولة الإسلام، فبلال الحبشي، وصهيب الرومي، وعلي القرشي، وسلمان الفارسي، وعمر العربي، لم تكن لكل واحد منهم دولة أو راية، كما هو حالنا اليوم: فأن يكون لكل دولة حدود وعلم وجوازات وقوانين وضعية فليست من الإسلام في شيء، لا من قريب ولا من بعيد. نعم، بل كان لهم راية واحدة هي راية العقاب، راية لا إله إلا الله محمد رسول الله. عاش عليها ومات سيد البشر. ولو تساءلنا: ما معنى أن يكون لبلاد المسلمين قرابة 57 راية، أحمر وأخضر وأصفر وأسود وأبيض؟ أليس معناه التفرق والتشرذم؟ أليس معناه أن لكل دولة شعبًا يوالي ويدافع ويحب ويتعصب… لهذا العلَم، ويقاتل من بجانبه من أجل هذه الراية العمياء، ومن أجل هذا الحاكم الذي زرعه الكافر المستعمر؟! وما معنى أن تكون لنا راية واحدة، راية الحق، راية لا إله إلا الله محمد رسول الله؟ ألسنا أمة واحدة من دون الناس، يجير أعلاهم أدناهم، والعكس صحيح، ومعناه أيضًا أن عقيدتنا واحدة هي عقيدة الإسلام، هي راية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن حقوقنا وواجباتنا واحدة دون تمييز، ولا كرامة إلا للتقوى؟. أليس معناه أن لنا إلهًا واحدًا، وكتابًا واحدًا، ورسولًا واحدًا؟. أليس معناه سلمنا واحدة وحربنا واحدة؟ أليس معناه أن اقتصادنا وحكمنا وسياستنا وتعليمنا وثقافتنا وقضاءنا وتطبيبنا وقضاءنا وجيشنا وكل مصالحنا واحدة لا تتجزأ؟.
4- العلاج:
أيها المسلمون، في نهاية هذه الخطبة نؤكد لكم:
– إن الرابطة الحق هي رابطة المبدأ الصحيح، وإن مبدأنا هو الإسلام، وهي رابطة لا إله إلا الله محمد رسول الله التي كان يحملها رسول الرحمة صلوات ربي وسلامه عليه.
– نبذ كل رابطة غير رابطة الإسلام، كرابطة الوطن والقومية والمصلحية والروحية؛ لأنها روابط ناقصة، فكرها منحطٌّ من وضع بشر، ليست مثل رابطة مبدأ الإسلام الذي هو من عند الله.
– نبذ كل فكر خاطئ كفكر الوطنية والجمهورية والديمقراطية… فكلها أفكار رأسمالية دخيلة على الإسلام،  ونشر فكر الإسلام المنقذ، ليس فقط للمسلمين، بل للبشرية جمعاء، قال تعالى: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ
إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ ١٠٧﴾.
هذا ألا وصلُّوا على من أُّمرنا بالصلاة عليه، قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَٰٓئِكَتَهُۥ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّۚ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيۡهِ وَسَلِّمُواْ تَسۡلِيمًا ٥٦﴾.
5- الدعاء:
اللهم ردنا إليك ردًا جميلًا، اللهم إنك عفوٌّ تحب العفو فاعفُ عنا، واغفر لنا خطايانا، واختم بالصالحات أعمالنا، اللهم ووحِّد بلاد المسلمين، وأقم دولة الإسلام التي وعدتنا بها في محكم كتابك، يا من قلتَ، وقولُك الحقُّ: ﴿ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡـٔٗاۚ وَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ٥٥﴾ وبشَّرتنا بها على لسان رسولك، دولةً توحِّد بها القلوب والعقول، وتزيل بها الحدود، وتنقذ وتنقل الناس من عذابات الرأسمالية إلى رحمة الإسلام، إنك سميع قريب.
 إن الله يأمركم بثلاث، وينهاكم عن ثلاث، إن الله يأمركم بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهاكم عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون…. أقم الصلاة.