Saturday, December 30, 2017

الدور السعودي الجديد في المنطقة: الأسباب، والأبعاد، والأهداف.

الدور السعودي الجديد في المنطقة: الأسباب، والأبعاد، والأهداف.

مجلة الوعي: العدد 374 - السنة الثانية والثلاثون، ربيع الأول 1439هـ، كانون الأول 2017
      كشفت الأحداث الأخيرة الصادمة في بلاد الحرمين عن تغييرات لافتة في استراتيجية أميركا تجاه منطقة الشرق الأوسط، ولعل من أبرز مظاهر هذه الاستراتيجية الصعود اللافت للدور السعودي بقيادتها الجديدة. وأكثر ما يثير الانتباه من ذلك كله، صعود نجم الشاب (محمد بن سلمان) على أنقاض (عجزة آل سعود) وانقلابه على البروتوكولات التقليدية التي كانت قد حصرت منصب الملك في أبناء (عبد العزيز) وراثيًا على التناوب منذ تأسيس مملكتهم. بموازاة ذلك، كسر الرئيس الأميركي (ترمب)، هو الآخر، البروتوكولات الخاصة بالبيت الأبيض عندما استقبل محمد بن سلمان – والذي كان ولي ولي العهد حينئذ – في آذار الماضي، وذلك عندما سمح ترمب للصحفيين وكاميرات القنوات الفضائية بالتقاط الصور لهما؛ حيث إنه من المعتاد ألا يسمح للمصورين ووسائل الإعلام بالحضور والتقاط الصور إلا في حال كان الاجتماع مع رئيس دولة، كما كسر البروتوكول” في هذا اللقاء، بإقامة وليمـــة غـــداء للأمـــيـــر محمد بن سلمان بأمر الرئيس الأميركي في البيت الأبيض، في الوقت الذي لا يقيم الرؤساء الأميركيون ولائم إلا لرؤساء الدول المهمين جدًا.
      هناك عديد من الأسباب تقف وراء تفعيل أميركا للدور السعودي على هذا النحو بقيادة الأمير الشاب، والذي حدث بعد الاستقبال الحافل الذي حظي به في البيت الأبيض، وكأنه الملك الفعلي للبلاد:
1– فتور الدور المصري عن إدارة ملفات إقليمية كانت مصر تديرها من قبل، خصوصًا بعد ثورة (يناير/2011م) نتيجة لدخول البلاد في حالة من الفوضى وعدم الاستقرار، فصار ثقل أميركا في مصر يركز على تثبيت عملائها بعد إحساسها بالخطر الذي بات يتهددهم، وبالتالي ضعفت قدرة حكام مصر على الإمساك بالقضايا الإقليمية الساخنة؛ ما دعا إلى إبراز الدور السعودي بدلًا منه.
2– بلوغ الوضع في سوريا إلى مستوى مُطَمئن لأميركا إلى حد كبير بعد أن آتى التدخل الروسي إلى جانب إيران والنظام السوري أُكُلَه، ومن ثم صار لا بد من العودة إلى اللعب على ورقة عزل إيران والشحن الطائفي مجددًا، مقابل كشف ورقة السعودية، بعد أن كانت إدارة (أوباما) قد اضطرت إلى الدفع باتجاه تقارب القوى الفاعلة في سوريا مع إيران، وتعاونها في العلن لضرب ثورة الشام.
3– خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وانكفاء عملائها في السعودية بعد وفاة الملك عبدالله بن عبد العزيز والذي كان متفانيًا في خدمته للإنجليز. وبموت الملك عبدالله صعد الملك سلمان ذو التوجه الأميركي، والذي بدأ من فوره بإزالة الرموز الإنجليزية من وجهه، وما أحداث العزل والاعتقال لأمراء ومتنفذين ورجال أعمال مؤخرًا بحجة محاربة الفساد إلا سلسلة من الإجراءات يردف بعضها بعضًا لمحو وجود رجالات بريطانيا من أوساط العائلة الحاكمة، بل ومن الوسط السياسي برمته.
4– العامل الاقتصادي وحاجة أميركا المضطردة إلى عوائد مالية لترقيع آثار أزمتها الاقتصادية، والتي مازالت تعصف بها مذ تفجرت قبل عشر سنوات، وإلى يومنا هذا. وكذلك حاجتها إلى الإنفاق المالي الضخم في مناطق الصراع الساخنة، كسوريا والعراق وجنوب شرق آسيا وغيرها. وبطبيعة الحال، فإن البقرة الحلوب – السعودية – أَجوَدُ ما تكون في مثل هذه الملمات.
            لهذه الأسباب وغيرها، دفعت إدارة (ترمب) باتجاه رسم الدور الجديد لآل سعود الجدد، على وجهٍ أحدث هزة عارمة فاجأت الكثيرين في الأوساط السياسية والإعلامية. فقد اهتمت مجلة (فورين بوليسي الأميركية) بتطورات الأوضاع في السعودية، وقالت: إن الرئيس الأميركي – دونالد ترمب – قد أطلق العنان لــولـــي العهد السعودي الأمير الشاب – محمد بن سلمان – وإن الأخير وضع الشرق الأوسط في حالة تصادم، وإن البيت الأبيض سيتحمل العواقب. وأشارت إلى صعود محمد بن سلمان السريع، وإلى حملات الاعتقالات الواسعة النطاق التي ينفذها في البلاد، وآخرها التي شملت عددًا من كبار الأمراء من بين العشرات من الوزراء ورجال الأعمال وقادة المجتمع المحلي، وتحدثت عن تحركاته الخارجية المتهورة. وقالت: إنه يبدو أن الملك – سلمان بن عبد العزيزونجله ولي العهد – محمد بن سلمان – قد أقنعا إدارة الرئيس – ترمب – بأنهما يحملان مفاتيح الحرب والسلام والتحول في الشرق الأوسط. [الجزيرة نت 11/11/2017م].
      ولم تكن هذه ردة الفعل الوحيدة تجاه الحدث، فقد كان لهذا الزلزال ارتداداته على مستوى العالم، وخصوصًا في بريطانيا التي فجعت أول مرة بموت عميلها المخضرم عبد الله بن عبد العزيز، ثم جاءت هذه الأحداث لتشكل فاجعة أشد وقعًا من سابقتها. فقد نشرت صحيفة (التايمز) تقريرًا عن علاقة الاعتقالات في السعودية بصفقة (اليمامة) التي كانت وقعتها الحكومة البريطانية بقيادة (مارجريت تاتشر) مع السعودية والتي تقدر بالمليارات. ويشير التقرير إلى قول نقاد: إن اعتقال أعداد من الأمراء ورجال الأعمال والمسؤولين السابقين هو محاولة من ولي العهد للسيطرة على البلاد تحضيرًا لتولي العرش، لافتًا إلى أن من بين المعتقلين وزير الحرس الوطني الأمير متعب بن عبدالله الذي كان أحد المرشحين لتولي العرش. وبحسب التقرير، فإن المحرر الاقتصادي – روبن باغاناميتا – أشار إلى أن من بين المعتقلين ثلاثة لهم علاقة قوية بلندن، أولهم الأمير – تركي بن ناصر- وهو المسؤول العسكري البارز. [عربي21، 11/11/2017م].
      واعتبرت صحيفة (الإندبندنت) البريطانية أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ما كان يجرؤ على القيام بما قام به، سواء داخل السعودية أم خارجها، لولا الدعم الذي وجده من طرف الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وصهره غاريد كوشنر؛ رغم معارضة مؤسستي الخارجية والدفاع الأميركيتين لسياسات ترامب تجاه السعودية ودعمه اللامحدود لما يقوم به ابن سلمان. وقالت الصحيفة : إن هذا الدعم من طرف الرئيس الأميركي لمحمد بن سلمان،  ليس بلا ثمن، فهو يريد شركة أرامكو، دُرة التاج السعودي، التي يعتزم ابن سلمان طرحها للاكتتاب العام، وعرض ترامب أن يتم ذلك في بورصة نيويورك” وترى أنه في حال نجح ترامب في إقناع بن سلمان بطرح أسهم  أرامكو في نيويورك- حسب قول الصحيفة – فإن بريطانيا ستكون خاسرة، وهي التي كانت تعتقد أنها المكان المناسب لهذا الاكتتاب، وهي المحتاجة له، خاصة عقب خروجها من الاتحاد الأوروبي. [الإندبندنت 8/11/2017م].
    وفي ألمانيا، عَبَّر وزير خارجيتها (زيغمار غابرييل) هو الآخر عن انزعاجه وصدمته من الحدث، متهمًا الرئيس (ترمب) بالتسبب فيما وصفه باضطراب هائل عبر سياسة الصفقات التي يتبعها. وقال غابرييل في تصريحات للقناة الثانية في التلفزيون الألماني (زد دي إف): ليس لدى ترمب برنامج عمل معتبر للسياسة الخارجية، وهو يخلف فراغًا جيوسياسيًا تستفيد منه دول أخرى مثل الصين وروسيا. وذكر الوزير الألماني أن العالم لا يضع الآن القواعد، ولكن الرئيس الأميركي منْ يضعها بناء على تقييمه الخاص ، وأضاف أن أوروبا وحدها غير قادرة على المحافظة على النظام العالمي الليبرالي الذي تشكك فيه الولايات المتحدة [ الجزيرة نت 10/11/2017م].
      إن ردات الفعل هذه تكشف عن المستوى الهابط الذي وصل إليه المبدأ الرأسمالي الغربي بقيادة أميركا التي تنصب نفسها حاميةً وحاملةً لهذا المبدأ. كما تكشف عن حالة من الاحتقان لدى الدول الرأسمالية الكبرى آخذةً بالتوقُّدِ نتيجة لسياسات (ترمب) المتحللة من قيم المبدأ نفسه والأعراف الدولية التي توافقت عليها هذه الدول من قبل. وفي ذلك نذيرٌ بقرب سقوط الرأسمالية، وبشير بدُنوِّ ظهورِ الإسلام ودولته إن شاء الله.
      لا جرم أن تحركات سلمان وابنه الأخيرة والمدعومة أميركيًا تفتقد إلى فن المناورة والدهاء الدبلوماسي، ويغلب عليها الاستعجال في قطف الثمر، والاندفاع المهووس الذي ينسجم تمامًا مع شخصيتي (ترمب وابن سلمان) على حد سواء. فالأول رجل احترف في مجال المال والأعمال؛ حيث عَقدُ الصفقات وإبرامُ المضاربات المالية الوهمية في البورصات. فقد نشأ نشأة اقتصادية بحتة؛ حيث كان أبوه تاجر عقارات، ثم تخرج ترامب من كلية (وارلتون) بجامعة (بنسلفانيا) الأميركية، التي تحتل مركزًا متقدمًا بين الجامعات بالبلاد في مجال الاقتصاد وإدارة الأعمال. وأما الثاني – ابن سلمان – فهو شاب يافع لا خبرة له في مجال السياسة ودسائسها، كل ما هنالك أنه وجد نفسه ابن أبيه الهرم الذي توج ملكًا بعد وفاة ملك هرم آخر أكل الدهر منه وشرب، وهو ينافح عن النفوذ الإنجليزي الذي بسط نفوذه بأيدي آل سعود الأوائل في بلاد الحرمين. فما كان من أميركا إلا أن استغلت نشوة الشاب وطموحه بأن يحظى بمباركتها له، فينال ثقتها بلعب أدوار ذات تأثير في منطقة الشرق الأوسط. فما الدور الذي تريد أميركا من ابن العلقمي هذا أن يلعبه في منطقة ملتهبة اختلطت فيها الأوراق، وتزاحمت عليها ركبان المتآمرين في الشام والعراق واليمن وفلسطينحتى اتسع الخرق على الراتق؟
1– ولعل أول ما ينتظره رجل مثل (ترمب) من ابن العلقمي هذا وأبيه، أن يزيدا في ضخ عوائد النفط إلى خزانة أميركا، وقد بدأ تدفق المليارات بالفعل بـ (460 مليار دولار) في نفس الوقت الذي منحت فيه السعودية تراخيص للاستثمار لـ (23) من كبريات الشركات الأميركية. [الجزيرة نت 20/5/2017م]. ولن يكون طرح السعودية أسهم شركة ( أرامكو) للاكتتاب في (بورصة نيويورك) آخر كشكول يحلِبُهُ (ترمب) من ضرع البقرة الحلوب.
2– الحرب على الإرهاب، أي الإسلام، هذا الشعار الحاضر المتجدد دائمًا على طاولة الأسياد والأتباع جنبًا إلى جنب. بهدف وأد ململة المارد الإسلامي، وقطع الطريق على العاملين لاستئناف الحياة الإسلامية، ومنع أو تأخير قيام دولة الخلافة التي تراءى لصنَّاع القرار في الغرب وأميركا بوادر عودتها عن قرب .
      فقد نشر موقع [ سكاي نيوز عربي 26/11/2017م]: أكد ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، الأحد، خلال الجلسة الافتتاحية لاجتماع وزراء دفاع التحالف الإسلامي لمحاربة الإرهاب، أن أكبر خطر للإرهاب هو (تشويه عقيدتنا الإسلامية). وأضاف أن أكثر من 40 دولة أكدت في اجتماع وزراء دفاع التحالف الإسلامي العسكري أنها ستعمل معا عسكريًا وماليًا واستخباراتيًا وسياسيًا. وتناقش جلسات الاجتماع الاستراتيجية العامة للتحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب وآليات الحوكمة المنظمة لعملياته ونشاطاته ومبادراته المستقبلية في الحرب على الإرهاب ضمن مجالات عمله الرئيسية الفكرية والإعلامية والعسكرية. ويناقش الاجتماع أيضًا تحديد آليات وأطر العمل المستقبلية، التي ستقود مسيرة عمله لتوحيد جهود الدول الإسلامية للقضاء على الإرهاب، والتكامل مع جهود دولية أخرى في مجال حفظ الأمن والسلم الدوليين.
      هكذا تكون مملكة (آل سعود) الضرار قد اتخذت من بلاد الحرمين الشريفين وكرًا لاستقطاب وقيادة الدول المتحالفة ضد (الإسلام) بحجة الحرب على الإرهاب، هذا الشعار الذي وضعته أميركا ومعها الغرب الكافر لتثوير كل قوى الأتباع، صغيرها وكبيرها، لمحاربة الإسلام والمسلمين، والحيلولة دون يقظة الأمة الإسلامية التي يرى فيها الغرب بقيادة أميركا الخطر الذي يتهدده. في الوقت الذي ترعى فيه أميركا الإرهاب العالمي وتغذيه قتلًا وتدميرًا وفتكًا بالشعوب المستضعفة.
3- الانقلاب على النظام السياسي في البلاد، من نظام يتلفع ملكه العجوز بعباءة فاضت عليها بركات السلفيين الوهابيين، إلى ملك شاب متحرر رضع لبان الثقافة الغربية حتى جرت في عروقه مجرى الدم، فأعمت بصيرته قبل بصره. والانتقال بالمجتمع السعودي من مجتمع منغلق على نفسه يحبس المرأة في بيتها، ويحظر عليها خلع نقابها وقيادة سيارتها… إلى مجتمع منفتح يلهث خلف بريق الغرب الخادع على قاعدة (وُلوع المغلوب في تقليد الغالب). ومن مظاهر هذا التحول:
أ- دعا ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى دعم دولي لتحويل البلاد إلى مجتمع منفتح وجاذب للاستثمار. وقال ولي العهد السعودي في مقابلة أجرتها معه ( صحيفة الغارديان البريطانية ) إن الدولة المحافِـظة جدًا كانت غير طبيعية على مدى السنوات الثلاثين الماضية، وأنحى باللائمة على ما وصفها بالمذاهب الصارمة التي حكمت المجتمع، وأضاف ابن سلمان أن ما حدث في السنوات الثلاثين الماضية لا يمتُّ بصلة إلى السعودية، ورأى أن الوقت قد حان للتخلص منها، وأشار إلى أن 70% من أفراد المجتمع السعودي تقل أعمارهم عن ثلاثين عامًا، وأنهم لا يريدون أن يُهدروا ثلاثة عقود أخرى من حياتهم في مكافحة الأفكار المتطرفة، مشيرًا إلى ضرورة القضاء على هذه الأفكار فورًا. [الجزيرة نت 25/10/2017م].
ب- تقليص صلاحيات (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)؛ حيث نشرت (الواشنطن بوست) الأميركية تقريرًا جاء فيه: إنه يتم في المملكة العربية السعودية الآن رصد مناقشات السياسة الخارجية والآراء المعارضة والمناقشات الدينية بشكل أكثر انفتاحًا وعلى نطاق واسع. وتضيف أن (الشرطة الدينية) تكاد تكون “بلا أسنان” أو حتى ألغيت؟ فلم يعد لرجالها صلاحيات الشرطة. وتتابع الصحيفة أنه منذ العقود الأولى من الدولة السعودية، فرضت “الهيئة، التي يترجم اسمها الكامل إلى (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) تفسيرها للضوابط الإسلامية على السلوك العام، ويعرف أفرادها أحيانًا باسم (مطوِّعين) وقد راقبت على مر السنين التجمعات المختلطة بين الجنسين، وأغلقت أماكن العمل خلال أوقات الصلاة في الأسواق العامة. [Sputnik عربي 16/8/2017م].
ت- السماح للمرأة السعودية بقيادة السيارة ومزاولة بعض الأعمال التي كانت محظورة عليها (ونستطرد هنا قليلًا بالقول: إن الإسلام لا يحظر على المرأة المسلمة قيادة السيارة، أو مزاولة أعمال معينة كالتجارة والتطبيب والتعليمما دام ذلك منضبطًا بأحكام النظام الاجتماعي في الإسلام؛ حيث ضرورة الفصل بين الجنسين متى وجب الفصل، وجواز اختلاطهما متى أبيح الاختلاط – وكل ذلك مفصل في كتاب النظام الاجتماعي في الإسلام للشيخ تقي الدين النبهاني مؤسس حزب التحرير رحمه الله – فلا حاجة لنا بفكر رعوي من عند الغرب الكافر يتباهى به علينا، وعندنا من الإسلام وأحكامه ما نعالج به مشاكل الدنيا بأسرها. ونحن إنما نورد هذا الأمر هنا في معرض الحديث عن التغييرات التي طالت المجتمع السعودي على أيدي النظام الجديد… ومثل هذا الأمر وجد رواجًا واسعًا لدى الأوساط الإعلامية الغربية. فقد تناولت [بي بي سي عربي] هذا الموضوع باهتمام بارز يبرز معه اهتمام الغرب بالتغييرات التي تطرأ على المجتمعات في بلاد المسلمين، خصوصًا عندما تكون هذه التغييرات منسجمة مع ثقافة الغرب وحضارته. حيث جاء فيه: قرار المملكة العربية السعودية السماح للنساء بقيادة السيارة، يمثل خبرًا جيدًا نادرًا في منطقة الشرق الأوسط حاليًا. وقد جاء هذا التغير من أعلى إلى أسفل، خاصة مع وجود ولي العهد الجديد الأمير محمد بن سلمان، الذي يدشن نمطًا جديدًا من السياسة [بي بي سي عربي 28/9/2017م].
4– الانقضاض على عملاء الإنجليز من أبناء الأسرة الحاكمة، والمتنفذين من أرباب المال وأصحاب القرار، بل ومحو وجودهم وتأثيرهم في الدولة، وفرض هيمنة رجال أميركا على أنقاضهم. وكذلك الحد من تأثير عملاء الإنجليز في دويلات الخليج والأردن، واضطرارهم إلى أضيق المواقع، وإضعاف تحركاتهم المزعجة لأميركا في المنطقة. ونورد هنا ما جاء في جواب سؤال أصدره (العالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشتة أمير حزب التحرير – حفظه الله – بتاريخ 2 ربيع أول 1439ه – 20/11/2017م): “وهكذا فإن ما يجري في السعودية تحت ما يسمى مكافحة الفساد هو لقطع دابر الإنجليز ووقاية من أن يدبروا محاولة انقلابية أو غير ذلك ضد الملك سلمان وابنه ولي العهد، وكذلك لتحقيق انتقال آمن للسلطة إلى يد ولي العهد حتى لا يعارضه أحد؛ حيث إن هذا الابن قد أخذ على عاتقه خدمة مصالح أميركا دون منازع داخلي حتى وإن كان من أخص أرحامه! ولا من منازع خارجي وبخاصة بريطانيا؛ ليبقى النفوذ في الجزيرة خالصًا لأميركا… هكذا هي الخيانة لا تتجزأ }وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ{.
      وما حدث ويحدث في الداخل السعودي يحمل رسائل مبطنة إلى عملاء بريطانيا خارج السعودية، في دويلات الخليج العربي والأردن، أن أخلوا الساحة لأميركا وتيار (ترمب) العاصف، القادم من وراء المحيطات، وإلا سيصيبكم ما أصاب غيركم؛ لذلك فإن عملاء بريطانيا اليوم يتوجسون توجس الليل والنهار خيفةً من هذه التغييرات المدعومة من أميركا، والتي أتتهم خلافًا للمألوف. ولا ننسى الحملة التي قادتها السعودية ضد قطر مؤخرًا.
5– مواصلة الاصطفاف مع القوى اللاعبة في سوريا – روسيا وإيران وتركيا والأكراد ومن ورائهم جميعا أميركا – لوأد ثورة الشام، وفرض الحل السياسي بمقاسه العلماني الأميركي. وفي هذا السياق الخطير جاء الاجتماع الذي جمع قوى المعارضة السورية للمفاوضات في الرياض سعيًا لتشكيل هيئة مفاوضات ينبثق عنها وفد جديد إلى محادثات جنيف، وسط أنباء عن ضغوط تمارس للقبول بتسوية تستثني مصير الرئيس بشار الأسد. [ الجزيرة نت 22/11/2017م ].
6- المضي قدمًا للاعتراف بكيان يهود، وتحريك عملية السلام تفعيلًا للمبادرة العربية التي كانت أميركا قد ألزمت الملك – عبد الله بن عبد العزيزبتبنيها في مؤتمر القمة العربي، والذي كان انعقد في بيروت 2003م، فيما بات يعرف اليوم بصفقة القرن، والتي اتضحت ملامحها في الأيام الماضية. فقد نشر موقع [هاف بوست عربي 22/11/ 2017م]: اتضحت ملامح ما يسمى “صفقة القرن” أو الصفقة النهائية التي يطرحها الرئيس الأميركي دونالد ترامب على الفلسطينيين، كما اتضحت معها ملامح الضغوط التي تمارَس بمشاركة رسمية عربية على السلطة الفلسطينية لقبولها. وقال دبلوماسي طلب عدم ذكر اسمه؛ لأنه  غير مخول له مناقشة الموضوع مع وسائل الإعلام، إنَّ الاتفاق سيتضمن ما يلي: إقامة دولة فلسطينية تشمل حدودها قطاع غزة، والمناطق A، وB، وأجزاء من المنطقة C في الضفة الغربية، وأن توفر الدول المانحة 10 مليارات دولار لإقامة الدولة وبنيتها التحتية؛ بما في ذلك المطار، والميناء البحري بغزة، والمناطق الإسكانية والزراعية والصناعية والمدن الجديدة، وتأجيل البتّ في وضع القدس وقضية اللاجئين العائدين حتى مفاوضاتٍ لاحقة. وإقامة مفاوضات نهائية تشمل محادثات السلام الإقليمية بين إسرائيل والدول العربية، بقيادة السعودية. وقال الدبلوماسي إنَّ غاريد كوشنر، المستشار الخاص لترامب وقائد فريقه لعملية السلام، زار السعودية مؤخرًا، وأطلع ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، على الخطة. وقال الدبلوماسي المقرب بشدة من الفريق الأميركي، إنَّ بن سلمان التقى عباس في مطلع نوفمبر/تشرين الثاني 2017؛ ليطلعه على الاقتراح. وطلب ولي العهد من الرئيس الفلسطيني قبول الخطة وإبداء رأيٍ إيجابي بشأنها
7-  شطر المسلمين إلى فسطاطين – محورين – لا إيمان فيهما : سني تتزعمه السعودية، وآخر شيعي تتزعمه إيران، ورفع وتيرة الشحن الطائفية بينهما، لما في ذلك من اختلاق خطورة وهمية تثير مخاوف دول الخليج، ولما في ذلك أيضًا من شق لعصا المسلمين، وتفريغ لطاقات الأمة في ركوب الموجة الطائفية، ومن ثم ضياعهم بين محورين عميلين لأميركا: محور يدعي الممانعة والوقوف في وجه أميركا وكيان يهود تتزعمه إيران، وآخر معتدل منفتح تتزعمه السعودية يسير بالبلاد والعباد ناحية تمكين أميركا في كل شيء.
وقد بدأت مشاكسات الصبيان أو قُل إن شئت : مخامشات القطط السِّمان بالفعل بموازاة عمليات الإقالة والاعتقال والتوقيف بحق أبناء العمومة والمقربين والمتنفذين وأرباب المال في السعودية… بين القطبين الأميركيين – السعودية وإيرانفاستقالة رئيس الوزراء اللبناني – سعد الحريري – التي أعلنها من الرياض، والصاروخ الذي أطلقه الحوثيون على السعودية – كما قيل – وما تبع ذلك من مؤتمرات وتصريحات هجومية بين الطرفين كلها تصب في تثوير المنطقة طائفيًا . ومن ذلك ما جاء على لسان الجامعة العربية إن صواريخ إيران باتت تهدد عواصم عربية؛ وذلك خلال المؤتمر الصحافي في ختام المؤتمر الطارئ لاجتماع وزراء الخارجية العرب الذي عقد الأحد 19/11 بالقاهرة وأكد أحمد أبو الغيط، الأمين العام لجامعة الدول العربية، أن إيران تسعى لتكون خنجرًا في خاصرة المملكة العربية السعودية ودول الخليج، وقال إن الصاروخ الذي أطلقه الحوثي واستهدف السعودية هو الحلقة الأخطر في سلسلة من التجاوزات والتخريب ونشر الفتنة التي تقوم بها إيران في المنطقة، وليس أمامنا إزاء ذلك سوى أن نسمي الأشياء بمسمياتها ونقول: إن الصاروخ هو رسالة واضحة من إيران أنها تسعى لنشر التخريب والفتنة والكراهية ورسالة عدائية للمملكة والدول العربية بأسرها [العربية نت 19/11/2017م].
  وبالمقابل جاء الردُّ الإيراني على الفور على لسان وزير خارجيتها– محمد جواد ظريف: إن المملكة العربية السعودية تموِّل الإرهاب وتحارب اليمن وتحاصر قطر وتعمل على تأزيم الوضع في لبنان. واعتبر ظريف أنه من السخرية أن تتهم السعودية إيران بالعمل على زعزعة  الاستقرار في المنطقة في وقت تعمل فيه بلاده مع روسيا وتركيا لتعزيز وقف إطلاق النار وتهيئة الأجواء لحوار شامل في سوريا.[ الجزيرة نت 19/11/2017م ].
 هذا مكر أميركا، وهذا غدر عملائها بالمسلمين، ولكن مكرهم وغدرهم سوف يبور بإذن الله، قال تعالى: {وَالَّذينَ يَمْكُرونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَديدٌ؛ وَمَكْرُ أولَئِكَ هُوَ يَبورُ} [فاطر:10].
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

سقطةُ العلمانيين العرب وإفلاسُهم الفكري

سقطةُ العلمانيين العرب وإفلاسُهم الفكري

أشرف أبو خديجة – الجزائر
مجلة الوعي: العدد 374 - السنة الثانية والثلاثون، ربيع الأول 1439هـ، كانون الأول 2017
    يتزايد الحديثُ والجدلُ من حين لآخر عن “العلمانية” في البلاد الإسلامية، وفي البلاد العربية منها تحديدًا. وأنها من وجهة نظر مناصريها الأسلوبُ الأمثل للحكم ولتسيير الشأن العام في المجتمعات، ولوضع حد للصراعات والنزاعاتِ الطائفية والمذهبية والعرقية. إذ هي، من بين نظم الحكم، ما يسمح بوجود مساحة للعيش المشترك بين جميع الناس (المواطنين) على اختلاف معتقداتهم الدينية وتوجهاتهم السياسية والفكرية، وما يحقق المساواة بينهم في الحقوق والواجبات، وما إلى ذلك من الجمل الرنانة والمصطلحات والعبارات البراقة التي تُطرب مَن يسمعها. ويعتقد هؤلاء أنه قد آن الأوان للعيش في وئامٍ وسلام ومودةٍ بين الجميع، وأن العلمانيةَ هي الحل الوحيد لكل الصراعات ولكل مشاكل المنطقة. وهذا اعتقاد غير صحيح البتة.
تعريف العلمانية:
    إن العلمانية تختلف تعريفاتـُها وقواعدها من مجتمع لآخر ومن دولة لأخرى، بل ومن زمن لآخر.  وبحسب دائرة المعارف البريطانية فإن العلمانية هي “حركة اجتماعية تتجه نحو الاهتمام بالشؤون الأرضيةِ (الدنيوية) بدلًا من الاهتمام بالشؤون الأخروية (حياة ما بعد الموت). وهي تعتبر جزءًا من النزعة الإنسانيةِ التي سادت منذ عصر النهضة الداعيةِ لإعلاء شأن الإنسانِ والأمور المرتبطة به بدلًا من الإفراط في الاهتمام بالعزوف عن شؤون الحياة والتأمل في الله واليوم الآخر”.  وهو تعريف قريب الشبه بما طرحه الفيلسوف الإنجليزي “جون لوك” الذي كتب في موضوع العلمانية قائلًا: “من أجل الوصول إلى دين صحيح، ينبغي على الدولة أن تتسامح مع جميع أشكال الاعتقاد دينيًا أو فكريًا أو اجتماعيًا، ويجب أن تنشغل في الإدارة العملية وحكم المجتمع فقط، لا أن تُنهِكَ نفسها في فرض هذا الاعتقاد ومنع ذلك التصرف. فيجب أن تكون الدولةُ منفصلة عن الكنيسة، وألا يتدخل أي منهما في شؤون الآخر.  هكذا يكون العصر هو عصرَ العقل، ولأول مرةٍ في التاريخ البشري سيكون الناس أحرارًا، وبالتالي قادرين على إدراك الحقيقة”!.
    إن التعريف الشائع للعلمانية في الكتب الإسلامية المعاصرة هو “فصل الدين عن الدولة”، وهو في الحقيقة لا يعطي المدلول الكاملَ للعلمانية الذي ينطبق على الأفراد وعلى السلوك الذي قد لا يكون له صلة مباشرة بالدولة، ولو قيل إنها فصل الدين عن الحياة” لكان أصوب؛ ولذلك فإن المدلول الصحيح للعلمانية هو إقامة الحياة على غير أساس الدين، سواء بالنسبة للأمة أم للفرد، ثم يختلف الأفرادُ وتختلف الدولُ في موقفها من الدين بمفهومه الضيِّق المحدود، فبعضها يسمح به، كالمجتمعات الديمقراطية الليبرالية، وتسمي منهجَها (العلمانية المعتدلة)، أي أنها مجتمعات لا دينية ولكنها غير معادية للدين، وذلك مقابل ما يسمى (العلمانية المتطرفة) أي المضادة للدين، ويعنون بها المجتمعاتِ الشيوعيةَ وما شاكلها. وبَدَهي أنه بالنسبة للإسلام لا فرق بين المسمَّييـْن (كونها متطرفة أو معتدلة)، فكلاهما في حقيقته مضاد للدين. و المقصود بالدين هنا الإسلام، فالإسلام والعلمانية نقيضان لا يجتمعان، ولا واسطة بينهما مطلقًا.
نشأةُ العلمانية:
    نشأت العلمانيةُ في أوروبا إثر صراع مرير بين الكنيسة ورجال الدين فيها وبين جماهير الناس في أوروبا؛ ذلك أن رجال الدين في البلاد الأوروبية تحولوا إلى طواغيت مجرمين وسياسيين محترفين ونفعيين مستبدين تحت ستار الدين، فقد كان عيش القساوسة ونعيمُهم يفوق ترف الملوك والأمراء والأغنياء، واستحوذ عليهم الجشع وحب المال! بل كانوا يبيعون المناصبَ والوظائف كالسلع، ويؤجرون أرضَ الجنة بالوثائق والصكوك وتذاكر الغفران. كما ودخلت الكنيسةُ أيضًا في نزاع طويل وحاد مع الأباطرة والملوك لا على القيم والدين والأخلاق، ولكن على السلطة والنفوذ والمال. كما وقفت الكنيسةُ ضد العلم وهيمنت على الفكر وصادرت عقولَ الناس وتفكيرهم، وشكلت محاكم التفتيش، وقتلت العلماء من أمثال كوبرنيكوس الذي ألف كتاب “حركات الأجرام السماوية”، بل وحرمت الكنيسةُ أمثال هذه الكتب… إلى غير ذلك من الجرائم. كل ذلك وغيرُه حدا بالناس إلى الثورة على هذا الدين المحرَّف، وإلى ازدرائه والمناداة بفصله عن حياتهم.
    وعليه، فإن العلمانية هي ردُّ فعلٍ خاطئ على دين محرفٍ وأوضاع خاطئةٍ كذلك، ونباتٌ خرج من تربة خبيثةٍ، وهي نتاج سيئ لظروف غيرِ طبيعية. ولا شك أنه كان من المفتَرض على أوروبا التي ابتليت بهذا الدين المحرف أن تبحثَ عن الدين الصحيح لا أن تكون مجتمعًا لا دينيًا.
    إذًا فالعلمانية نشأت في ملابسات أوروبيةٍ بحتة، وليست ملابسات إنسانيةً عالمية، ومتعلقة بنوع معين من الدين لا بمطلق “الدين”، فكانت بذلك العلمانيةُ حلًا لمشكلة خاصة بتلك البيئة الأوروبية، وكانت بحق حلًا فاشلًا مناقضًا للفطرة البشرية، وحلًا مخفقًا بكل المقاييس في معالجة مشاكل الحياة الإنسانية، فقد جرَّت الويلات على الشعوب التي اعتنقتها، بل وعلى جميع الناس. فيجب دومًا أن لا نَغفل عن كون العلمانية نشأت حلًا تاريخيًا في سياق تاريخي لأمة معينة ليست الأمة الإسلامية.
موقف عموم المسلمين من العلمانية:
    لو توجهنا بسؤال بسيط إلى عموم المسلمين حول ما يتبادر في أذهانهم فيما يخص العلمانية وماهيتها، لأجابت الكثرةُ الكاثرة وبدون تردد بأن العلمانية هي فصل الدين عن الدولة”، وهي إجابة صحيحة نظريًا، لكن كلمة “فصل” هنا يعني بها الكثيرون “إنهاء واستئصال” الدين، أي إبقاءه بعيدًا عن الدولة. ولعل السبب الأكبر والعامل الأهم في ترسيخ هذا المفهوم لدى القاعدة العريضة هو تصرفات وطريقة خطاب “العلمانيين العرب” أنفسهم، حيث حصروا أنفسَهم في مهاجمة الإسلام بطريقة مباشرة عبر الدخول في عداء واضحٍ وصريح ومباشر مع أحكام الإسلام وأعلامه ومع الحركات الإسلامية، ولو كانت بعض هذه الأخيرة في بعض الأحيان تتبنى نفس أفكارها ولكنها مزينة برداء الإسلام!
الواقع السياسي للعلمانيين في البلاد الإسلامية:
    يعيش العلمانيون العرب بالفعل، بحكم نشأتهم وطبيعة معتقَدهم، حالةً قريبةً من الانفصام والازدواجية، حيث قادهم الافتتانُ بالنموذج العلماني في الغرب لمحاولة نقله إلى البلاد الإسلامية كما هو، وتناسَوا نقطةً في غاية الأهمية، وهي أن القاعدةَ الأساسية في حقيقة العلمانية هي وجوب إبعاد السلطة الدينية المتمثلة في الكنيسة عن أمور الحكم (كما أسلفنا)،  وهو الأمر الذي كان سائدًا في الغرب، في أوروبا تحديدًا، لا في بلاد المسلمين.
    يدعي العلمانيون العرب دومًا مواجهة الأنظمةِ الديكتاتورية القمعية في المنطقة (إذ هم ديمقراطيون!)، ولكنهم في الحقيقة هم حلفاء وثيقو الصلة بهذه الأنظمة القمعية على أرض الواقع، إذ إن النخبة العلمانية والطغمة العسكرية المرتبطة بالغرب في معظم الدول الكرتونية القائمة في البلاد الإسلامية هي المسيطرة على زمام الأمور، وهي التي تتولى الحكمَ فيها، وهي الضامن لاستمرار الأنظمة العميلة. كما تقوم هذه الأخيرة دومًا باستغلال المعممين (مَن يسمَّون علماء) في كل قطر للقيام بدور “السَّنيد” للنظام واستعمال سلطتهم الروحية” للتأثير على الجماهير للخضوع للنظام والتسبيح بحمد الحاكم (إلا من رحم الله)؛ لذا نجد العلمانيين العرب يهاجمون الإسلامَ عبر تركيز الصراع مع “السَّنيد” وإبراز كيف أن هؤلاء يوظفون الدينَ لأغراض سياسية، في حين يتحاشَون مواجهةَ الأنظمة نفسها.
    تولى حكامُ ما بعد زوال الخلافة (العملاء) وضعَ الصروح العلمانية وتنشئة الأوساط السياسية في البلاد المستعمَرة وفق رؤية المستعمِر، ثم تولت التنظيماتُ المنبثقة عن مؤسسات الحكم، كالأحزاب والمنظمات الشبابية والجمعيات المرتبطة بالأنظمة، عمليةَ الترويج والتبشير بالنموذج الحداثي التقدمي ومهمةَ غرس بذوره. ولكن رغم كل الجهود المبذولة ظل المشروع العلماني يعاني الغربةَ الوجودية داخل المجتمعات في البلاد الإسلامية، وارتبط بقاؤه ببقاء الأنظمة العميلة. وكان واضحًا أنه، عاجلًا أم آجلًا، سيواجه هذا المشروع مقاومةً شرسةً ورفضًا قاطعًا من عموم المسلمين، وقد سرعت بهذا الرفض الهزائمُ المذلة التي جلبتها العلمانيةُ على الأمة. فأظهرت جميعُ التجارب في كل مرة يُخلى فيها بين الناس وبين مَن يختارون مِن الحكام أو مَن يمثلهم في البرلمانات (فيما يحلو للبعض تسميتُها بالتجارب الديمقراطية) أظهرت عصفًا بكل أحلام النخبة العلمانية المتغربة، كما وأفرزت تمسكًا واضحًا بكل ما هو نابع من رحم الإسلام ومن صلب العقيدة الإسلامية (ولو بشكل عام مفتوح). وهو الأمر الذي دفع سريعًا بالأقلية العلمانية للارتماء في أحضان الطغاة الديكتاتوريين والتحالف معهم، متنكرين لكل ما ظلوا طوال عقود يتشدقون به من ديمقراطية وحرية وتعددية! بل إنها لم تمانع أيضًا في إدخال البلاد في كل مرةٍ في دوامة عنفٍ جنوني من أجل إحداث أكبر قدرٍ من حالة الترويع والترهيب بغرض صناعة صدمةٍ اجتماعية تنحو بالجموع نحو التقوقع والنأي عن أية محاولة لتغيير الوضع السياسي القائم. ولعل ما أقدم عليه حزب “التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية” (RCD) في فترة التسعينيات في الجزائر (عقب فوز جبهة الإنقاذ الإسلامية في الانتخابات التشريعية) من رِدَّةٍ وانقلابٍ على كل قيم الديمقراطية (الزائفة) التي كان يدعو لها ومباركته ما قام به الانقلابيون، هو خير دليل على ما نقول؛ لذا فإن المشروع العلماني الذي يحمله هؤلاء العلمانيون لأبناء الأمة الإسلامية هو إذًا في حقيقته مشروع قمعي استبدادي خلافًا لما يدعون، إذ هم لم ولن يتمكنوا من حكم الناس في البلاد الإسلامية إلا بالحديد والنار وسطوة العسكر، كونه يناقض في الأصول والفروع ما يحمله المسلمون من قيم وأفكار ومشاعر، وما يرتضونه في حياتهم من قوانين وأنظمة. وعليه فإن وجود العلمانيين في البلاد الإسلامية وجود غير طبيعي، خصوصًا ممن كانوا مسلمين بالأصل، ما كان ليكون لولا الغزو الثقافي الغربي للبلاد الإسلامية، الذي تلاه الغزوُ السياسي – العسكري الذي مكَّن لهؤلاء فيما بعد، وجعلهم مكونًا من مكونات المجتمع يحملون هذه السموم في أنفسهم، ويدعون لها على مرأى ومسمع من الجميع.
العلمانيون العرب والإسلام:
    لا يخفى على أحد أنه في كل مرة يواجَه العلمانيون العربُ في نقاشاتهم وأطروحاتهم، فأنت تراهم لا يتقنون سوى السباب والشتائم ومعاداة الإسلام بشكل سافر، كقولهم مثلًا إن الإسلام هو سبب التخلف!! بينما في حقيقة الأمر لا يملك هؤلاء العلمانيون العرب حصيلةً فكريةً ولا نموذجًا أو مشروعًا ذاتيًا للمجتمع، بل هم دومًا يقلدون الغربَ فيما يقول ويقوم به، إذ هم يتخذونه مثلًا أعلى ويتقربون إليه زلفى. وكل ما يقدمونه يناقض عقيدةَ الأمة وشريعتَها وحضارتها ومفاهيمَها وتاريخها وعراقتَها ومطالبها. كما وتجدهم في كل مرة قد وجَّهوا، عند كل تحرك شعبي، كل جهدهم وقوتهم لمساندة الأنظمة في قمع الشعوب، بل ودأبوا بشكل ممنهج ومستمر على ربط تخلف الأمة وتراجعها بتمسكها بالدين الإسلامي وما في التراث من أعراف وتقاليد متوارَثة عبر العصور. كل ذلك نكايةً في تيارات “الإسلام السياسي” (عدوها اللدود)، وبأسلوب خبيث متعمد، كأن أنظمة الحكم القائمةِ في البلاد الإسلامية اليومَ هي أنظمة إسلامية تطبق الشريعةَ الإسلامية!!.
    كما يتعمد العلمانيون العرب الخلطَ الدائم والمقصود بين الدين الكَنسي والدين الإسلامي، ويتناسون باستمرار أنه بينما كانت سيطرةُ الكنيسة الكاثوليكية على مقاليد الأمور في أوروبا سببًا رئيسيًا في تقهقرها وغرقها فيما يُعرف بقرون الظلام، كان الالتزام بالشريعة الإسلامية وتطبيقُها السببَ الرئيسي في استمرار نهضة الأمة ورقيها وتفوقها، بل وفي اتساع رقعة دولة الخلافة وتقدمها وسيطرتها على أراضٍ شاسعةٍ امتدت عبر قارات ثلاث، كما أثرت حضارةُ الإسلام الشامخ على البشرية كافة، وأمدت العالـَمَ بما لا يمكن حصره من النتاج المادي والعلمي والفكري والثقافي في كافة المجالات.
العلمانيون العرب وثورات الربيع العربي:
    لم تنجح ثوراتُ (لربيع العربي)، والحراك الشعبي الذي رافقها، في تعرية شيء كما فعلت بالنخب العلمانية ودورها اللئيم في البلاد الإسلامية، فقد عجلت بإحداث حالة الطوارئ في صف هذه الأقلية الحانقة على مبدأ الأمة ودينها وحضارتها، وأجبرتها على مغادرة جحورها ولعب آخر أوراق البقاء. ثم جاءت أحداثُ مصر الأخيرة لتسلط الأضواء بشكل لافت على التشابه مع ما جرى قبل ذلك في الجزائر في أجواء رهيبة من التعتيم الشامل والظلام الدامس، جراء غياب ترسانة الإعلام الحالي في تسعينات القرن الماضي (أي في حالة الجزائر).
إن ما يبعث على التساؤل والدهشة حقيقةً هو هذه القدرة الرهيبة من النخبة العلمانية، في الحالتين، على الاجتراء على دماء المسلمين والاستخفاف بهم وبما يريدون، أي بما تريد الشعوبُ الإسلامية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، ساند غالبيةُ العلمانيين الانقلابَ العسكري في مصر، وباركوا ما ارتكبته قواتُ الأمن المصرية بدعم من الجيش المصري من مجازر فظيعة بحق العزل المعتصمين في ميداني رابعة والنهضة وبقية أنحاء مصر، فأيدوا سفكَ الدم الحرام وقتلَ المئات من المعتصمين وقمعَ المحتجين على ارتكاب تلك الجرائم واقتحام المساجد والتعدي على حرماتها وعلى العزل المحتمين فيها؛ ما يدل على أنها أقلية منبوذة تحمل حقدًا أعمى على كل ما ينبع من الموروث الإسلامي، ويدل أيضًا على ارتباطها دومًا كما أسلفنا بمنبعها الغربي، وهو ما دفع إلى أن تتولد لديها حالة نفسيةٌ رهيبة تغالي في استباحة الآخر المتمسك بالإسلام كنظام حكمٍ تحديدًا!!.
الخلاصة:
    لن يبذل المتتبع لتاريخ العلمانيين في البلاد الإسلامية، وخاصة العربية منها، كبيرَ جهد ليربط بينهم وبين الاستعمار، وإن حاول بعضُ أساطينهم بعث جسور خيالية مصطنعة لهم في التاريخ الإسلامي من خلال البحث في التراث الفكري عن أدلة واهية يسندون إليها فكرتهم، لكن الواقع والحقيقة والتاريخ يدل على عكس ذلك. فالمسلمون، عبر قرون، قد حكموا بشريعتهم واحتكموا إليها دومًا قبل الاستعمار.  وحتى إبان الاستعمار فقد رفض المسلمون إجمالًا كل النظم والقوانين والتشريعات الوافدة من الغرب.  وفي الفترة التي أعقبت ما يسمى الاستقلال تسلمت النخبةُ العلمانية العميلةُ مقاليد الحكم والتسيير في البلاد العربية والإسلامية، وهي التي كانت قبل ذلك صُنعت منها الأوساطُ السياسية في جميع الأقطار، مدعومةً في ذلك من طرف الأجنبي المستعمِر البغيض ومستفيدةً من وضع الشعوب الرازح تحت وطأة الجهل وغياب الوعي السياسي. فجاء هؤلاء الحكام الجدد مطبقين النظم الأجنبية الدخيلةَ في عملية تهدف إلى إحلال نظم اجتماعيةٍ واقتصادية وثقافيةٍ جديدة، بعضها يساري اشتراكي، وبعضها ليبرالي رأسمالي، فكانت كلها في جميع الأحوال تناقض العقيدةَ الإسلامية، اعتُمد في تثبيتها وترسيخها على سلطان الدولة وبطش الجند وأجهزةِ المخابرات.
    والحقيقة هي أن النخب العلمانيةَ في البلاد الإسلامية تطبعت بكل طبائع المدرسة التي نهلت منها، فالشعوب الأوروبية التي أصمت آذان العالم بتغنيها بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان هي نفسها التي اقترفت أبشعَ الجرائم والمجازر خلال القرنين الماضيين، ومارست القتلَ والعنصرية والاستعباد في جميع القارات، وفي كل مكان وطئته دفعت بالسكان ليصبحوا مجرد أهالٍ (بشر من الدرجة الثانية!) محرومين من أبسط حقوق الحياة، واعتبرت نفسها طبقةً متحضرةً، ومَن دونها مجرد متوحشين متخلفين. وعلى نفس النهج سار العلمانيون العرب بعدها.
    بقيت مسألة، وهي هل سيكون لهؤلاء العلمانيين تأثير في ظل دولة الخلافة القادمة؟ وهل سيكونون حجرَ عثرة في طريق نهضة المسلمين؟. إن المدقق في واقع هؤلاء الشواذ يجد أنهم صنيعة الاستعمار وربائبه. فهم حتمًا سينكفئ تأثيرهم ويزول شرهم وستخفت أصواتهم بمجرد قيام كيان حقيقي للمسلمين.  إذ في ظل دولة الإسلام سيفك ارتباطهم بالأجنبي، وتنقطع حبالهم معه ووسوستُه لهم، فلربما يبصرون حينئذ نورَ الحق المبين، ويؤوبون إلى حضن أبناء الأمة المسلمين، ويكونون إن شاء الله من المهتدين. ولنا في بعض علمانيي سوريا خير مثال في ثورة الشام، إذ بمجرد تصاعد وتعالي الأصوات المنادية بتحكيم الإسلام وشريعته أصيب هؤلاء بالبكم، بل أصبحوا يجارون الناس في مطالبهم ويتمسحون بالإسلام ويقولون “إن الإسلام هو تاريخ هذه الأمة، ولا يمكننا الاستغناء أو التخلي عنه”!!!
     قال الله تعالى مخبرًا عن أمثال هؤلاء ﴿لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى...[آل عمران111]. وفي الختام، نرجو من الله جل شأنه أن يعزنا بالإسلام، إذ لا عز لنا إلا به، وأن يُكرمنا بعودة دولة الخلافة التي ستعيد للمسلمين عزَّهم ومجدهم. قال تعالى: (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُوْنَ).