Thursday, May 27, 2021

واقع الأمَّة بين دوافع التغيير ومقومات النجاح

 واقع الأمَّة بين دوافع التغيير ومقومات النجاح

 

محمد شريف – ولاية العراق

مجلة الوعي: العدد 417 - السنة السادسة والثلاثون، شوال 1442هـ،الموافق أيار 2021م

إنَّ وجود عوامل تدفع الإنسان نحو تغيير واقعه أمر لازم له قبل التفكير بالتغيير والعمل عليه، ولا يمكن للتفكير والعمل أن يكون منتجًا من دون وجود دراسة لمقوِّمات نجاحه، فبدون مقوِّمات حقيقية وكافية يصبح الحديث عن التغيير ضربًا من الخيال ومضيعة للوقت والجهد، وإذا نظرنا إلى واقع أمتنا الإسلامية نرى أنها تمتلك هذين الأمرين: دوافع التغيير، ومقومات النجاح.

أمَّا دوافع التغيير، فإنَّها تتمثل في أمور ثلاثة: فكرية، واقتصادية، واجتماعية.

فالدافع الفكري، وهو الأهم، يتمثل بالحاجة إلى إحلال أفكار الإسلام ومعالجاته بدل أفكار العلمانية الضحلة، وهذا ينطلق من العقيدة التي يعتنقها المسلمون، والتي أساسها أنَّ الكون والإنسان والحياة مخلوقة لخالق، وهو المدبر لشؤون خلقه؛ ما يقتضي وجوب الانقياد لأوامر هذا الخالق، واتِّباع رسالته التي أنزلها على نبيه صلى الله عليه وسلم، والتي تتضمن حلولًا ربانيةً محكمةً لمختلف مشاكل الحياة البشرية، وتكون كفيلة بإنتاج طراز عيش فريد من نوعه، وهو ما كان واقعًا ملموسًا لدى المسلمين – وغيرهم – لقرون عدة، وتؤدي إلى عيش الناس في مجتمع منضبط غير مضطرب، يأخذ الحلول من محتوى فكري يؤمن بصحته وقدرته على المعالجات، مهما اختلف الزمان والمكان، ويكون بعيدًا عن الاضطراب الفكري والسلوكي الذي ينتجه تبنِّي الحلول بخلاف المحتوى الفكري الذي يؤمن به المجتمع.

قد يقول قائل: هل بقيت هذه المسألة دافعًا قويًا في ظل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي عصفت بالأمَّة الإسلامية، فضلًا عمَّا نراه من سطحية تفكير غالب الجيل الحالي الذي تأثر في طريقة تفكيره وسلوكه، بل حتى في مظهره، بأفكار العلمانية النتنة؟

نقول إنَّ الربط بين ما نعانيه من أزمات بالإعراض عن شرع الله وبين تغييبه عن واقع الحياة هو حجر الزاوية في إنجاح أي مشروع دعوي يهدف إلى إحداث تغيير جذري على أساس مبدئي، قال تعالى: (فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشۡقَىٰ ١٢٣ وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِي فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةٗ ضَنكٗا وَنَحۡشُرُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ أَعۡمَىٰ ١٢٤) ونفهم من الآية الكريمة أن اتِّباع هدى الله هو شرط السعادة، والإعراض عنه يجلب ضنك العيش وخسارة الآخرة؛ ليكون ذلك ركيزة أساسية في عمل الكتلة من خلال إذكاء هذه الفكرة في مجتمعات المسلمين لتكون سيادة أحكام الشريعة مطلبًا جماهيريًا أو رأيًا عامًّا على الأقل يسهل من خلاله الوصول للهدف المنشود.

 ثم بعد ذلك يأتي العامل الاقتصادي وما تعانيه بلاد المسلمين من تدهور الوضع المعيشي في الترتيب الثاني من حيث الأهمية كدافع نحو التغيير، لا سيما إذا علمنا أنَّ ٣٧٪ من سكان البلاد الإسلامية يعيشون تحت خط الفقر، ويمثلون حوالى ربع سكان العالم، في حين إن بلدانهم تنعم غالبها بثروات كثيرة وبمقومات نهوض اقتصادي كبيرة. ونسبة الفقر هذه لا تعكس مقدار غنى أو فقر البلدان التي ينتمي إليها هؤلاء الفقراء، فقد تكون مرتفعة في بلد ينعم بالثروة، فأفريقيا على سبيل المثال تنتج ٩٥٪ من الألماس في العالم، في حين يقبع أكثر من نصف سكان هذه البلاد تحت خط الفقر، وهل يعقل أنَّ بلدًا مثل السودان بما يمتلك من أراضٍ صالحة للزراعة يعاني من أزمة خبز مثلًا؟! وهذا يعكس فشل إدارة هذه البلدان من الأنظمة الرأسمالية الحاكمة، وهذا يكشف حقيقة النظام الرأسمالي، فهو يجعل تركُّز الثروة بيد عدد قليل من مجموع الشعوب، فبحسب تقرير لمنظمة أوكسفام البريطانية غير الحكومية فإن ثروة 10% من سكان العالم تعادل ثروة بقية سكان العالم جميعًا!

ولا ريب أن هناك ارتباطًا بين نسبة الفقر والبطالة، فبحسب ما نشره المكتب الإقليمي الخاص بالدول العربية لمنظمة العمل الدولية عام ٢٠١٦م، فإنَّ نسبة البطالة بين الشباب في الدول العربية تصل إلى ٣٠٪ وهذه المشكلة موجودة حتى في الدول الصناعية المتقدمة، ولو بنسب أقل. وهذا إن دلَّ فإنه يدلُّ على أن النظام الرأسمالي هو نظام سيِّئ لكل الشعوب بما فيها شعوبه.

أمَّا ما يخص الغذاء فبحسب الإحصاءات الرسمية يبلغ عدد الجياع في العالم ٨٢١ مليون جائع، ويعاني ١٥٠ مليون طفل في العالم من تقزُّم بسبب سوء التغذية، وأمَّا الأمن الغذائي،((1)) فبحسب التقارير الرسمية لعام 2019م، يعاني أكثر من ملياري شخص حول العالم من انعدام الأمن الغذائي، ولا ريب أنَّ انعدام الأمن الغذائي والسكن الصحي الملائم كفيل بإحداث مشاكل صحية عديدة في مجتمعات تعاني أصلًا من أنظمة صحية مهترئة.

إنَّ العيش تحت خط الفقر يعني المساس بشكل مباشر بحياة الشعوب، وجعل أساسيات العيش الكريم من مأكل وملبس ومسكن مناسب في مهب الريح، أفلا يكون ذلك كله دافعًا للبحث عن التغيير؟!

أمَّا المشاكل والأزمات الاجتماعية فلا تقلُّ أهمية عن سابقتها كدافع نحو التغيير، وهي في الغالب نتاج الأزمات الفكرية والاقتصادية آنفة الذكر، وسنضرب أمثلة على المشاكل الاجتماعية الأكثر أهمية وتأثيرًا في المجتمع، فمشكلة الإدمان على المواد المخدرة أصبحت مشكلة عالمية تعاني منها غالبية مجتمعات دول العالم، ففي عام ٢٠١٧م تحدَّث التقرير العالمي للمخدرات عن وجود ٢٧١ مليون مدمن حول العالم، وهو ما يمثل 5.5% من سكان العالم، منهم ٣٠ مليونًا يعانون من اضطرابات نفسية.

أمَّا عن جرائم الاغتصاب، فإنَّ ارتفاع عددها متوقع في ظل غياب الرادع؛ إلا أنَّ الغريب أن تكون السويد في المرتبة الرابعة، والولايات المتحدة في المرتبة الحادية عشرة، من بين أعلى الدول تسجيلًا لحالات الاغتصاب، ولم تكن بلاد المسلمين بمنأى عن هذه المشكلة أبدًا، مع أن هذا الأمر بعيد عن أن يكون من مشاكل المسلمين لو كان الإسلام هو المطبق؛ على أنَّ المستغرب في هذه الإحصائيات أنَّ هذه الدول تتمتع بأنظمة تدَّعي أنها  أنظمة ديمقراطية رصينة، وليست مجموعات عائلية رأسمالية تحكم البلد، وتتسلَّط على رقاب الناس دون حسيب أو رقيب كما في الأنظمة التي تحكم بلاد المسلمين.

ومن المشكلات المجتمعية الأخرى التي تعصف بمجتمعات المسلمين ازدياد حالات الطلاق بشكل مضطرد وعزوف الشباب عن الزواج، فبحسب إحصائية صادرة عن مجلس القضاء الأعلى العراقي عام ٢٠٢٠م شكلت نسبة الطلاق ٢٣٪ من حالات الزواج، أمَّا في مصر فقد كشف الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء عام ٢٠١٩م أنَّ حالات الطلاق وصلت إلى ٢٣٧.7 حالة طلاق بمعدل حالة كل دقيقتين، ولا تختلف دول مجلس التعاون الخليجي عن هذه الإحصاءات كثيرًا، ولا يخفى أنَّ هذه المشكلة تولِّد آثارًا وخيمة على المجتمع من فقدان الأطفال للأسرة الحاضنة السليمة، والآثار النفسية المترتِّبة عليهم، وعلى النساء المطلَّقات بشكل خاص، وتُدخل المجتمع في دائرة مغلقة من الأزمات.

هذا غيض من فيض مشاكل المجتمع، وهناك مشاكل عديدة أخرى لا يتَّسع المقام لذكرها، بل نكتفي بالإشارة إليها كعقوق الوالدين، والأمية، وقطيعة الأرحام، والعنف الأسري، وسوء الخلق، وغيرها، وهذه نماذج من مشاكل المجتمع وليست كلها، فاستبدال أنظمة من وضع البشر بنظام الله تعالى نتيجته الشقاء حتمًا.

إنَّ تصدِّي أي كتلة للعمل على تغيير هذا الواقع المرير يجب أن يتضمن دراسة موضوعية واعية للعوامل الكفيلة بإنتاج التغيير. فإيجاد حلول لمشاكل اقتصادية واجتماعية لمجتمع ما لا بُدَّ أن يسبقه عامل فكري، يتمثل في فكرة عميقة شاملة ومستنيرة حول الحياة التي يعيشها البشر، وهذه هي العقيدة الإسلامية، التي تقوم على أنَّ لهذا الكون خالقًا مدبرًا لشؤونه، وهذه هي الفكرة الكلية التي يعتنقها أكثر من مليار وثمانمائة مليون مسلم على وجه الكرة الأرضية، وهي كفيلة بترسيخ قاعدة أنَّ حل جميع هذه المشاكل عند ربِّ البشر، العالمِ بخلقه المدبرِ لشؤونهم، إضافة إلى أنَّ سر نجاح هذه الفكرة في إنجاز التغيير هو أنَّها عقيدة مقنعة للعقل موافقة للفطرة، فلم تأتِ حلًا وسطًا، بل نتاج عملية تفكير تنتج قناعة محكمة بالفكرة، ودافعًا للعمل على إيجادها في واقع الحياة.

لكن هذا الحل أو الفكرة يفتقر إيجادها في واقع الحياة إلى عمل كتلوي جماعي وليس فرديًا، وقد ظهرت طلائع هذه المحاولات عندما انبرى الرائد الذي لا يكذب أهله، حزب التحرير، لهذه المهمة منذ خمسينات القرن الماضي رافعًا غايته، وهي استئناف الحياة الإسلامية بإقامة الخلافة الراشدة شعارًا لمسيرة عمله.

إنَّ العامل الفكري لا بُدَّ له من عامل بشري يتمثل في جماعة مفكِّرة مؤثرة في المجتمع، تلتفُّ حول القيادة الأولى، وتتقبَّل مشروعها، وتعمل معها على وضع لمسات التطبيق وآلياته، وفئة أخرى مقودة تتَّقِد في داخلها جذوة الإسلام، وتتوق إلى تطبيقه، وتبذل الغالي والنفيس في سبيل ذلك، وتتولَّى جعل الفكرة موضع التطبيق، وتمثِّل هذه الطبقة الحجر الأساس في ديمومة الإنتاج، وكذلك تمثِّل خط الدفاع عن المنجَز في حالة الاعتداء.

أمَّا حلول الأزمات الاقتصادية، فتحتاج إلى عوامل مادية تجعل الأفكار قابلة للتطبيق، ومنتجة في الوقت نفسه. فبلاد المسلمين تزخر بالثروات مما يسيل لعاب أعدائها في السيطرة عليها، من نفط وغاز ومعادن مختلفة، منها ما هو مكتشف ومنها ما هو في طور الاكتشاف، ما يجعل الدولة الإسلامية دولة غنية لديها الموارد المهمة التي تجعلها من الدول التي لا مناص للدول الأخرى من التعامل التجاري معها، ممَّا يزيد من دخلها ويجعلها قوة اقتصادية مؤثرة في الساحة السياسية العالمية، فضلًا عن وفرة الأراضي الصالحة للزراعة، والمياه العذبة اللازمة للسقي… إلخ، كل هذه العوامل تجعل تأمين غذاء الناس أمرًا يسيرًا.

إنَّ ما ذكرناه من ثروات طبيعية من معادن تدخل في أحكام الملكية العامة، وأراضٍ زراعية، إضافة إلى تطبيق أحكام الزكاة، كفيلة بالقضاء على مشكلة الفقر، ولا شكَّ في ذلك، كما أنَّ عوائد الدولة من التصدير والإنتاج كفيلة بتوفير السيولة النقدية اللازمة للتنمية المستدامة والتطور التكنولوجي. هذا وقد أصدر حزب التحرير كتابه المتبنى في هذا الصدد (النظام الاقتصادي في الإسلام) وأتبعه بـ (السياسة الاقتصادية المثلى) ليكون المرتكز الفكري لتطبيق الأحكام الشرعية المتعلقة بالاقتصاد، والتي لا تمتُّ بصلة إلى ما نعرفه من أنظمة الاقتصاد الرأسمالية المتغوِّلة.

أمَّا ما يخص الأزمات الاجتماعية، فالشريعة الإسلامية فيها معالجات وافية لما تمَّ ذكره في هذا الصدد، وقد أصدر حزب التحرير كتابًا بهذا الخصوص عنوانه: (النظام الاجتماعي في الإسلام) فيه أحكام الإسلام لمختلف المشاكل الاجتماعية بشيء من التفصيل، والقائم على أحكام ربَّانية توجد الطمأنينة والاستقرار الأسري القائم على العفة والطهارة، والذي يقف على طرف نقيض من النظام الرأسمالي المتهتِّك الساقط الجدران.

إنَّ ما تم توضيحه من عوامل نجاح مشروع التغيير من العامل الفكري العقدي الربَّاني، والثروة البشرية الاستراتيجية، والخصائص الاقتصادية لبلاد المسلمين… فإنه موجَّه لعموم المسلمين الذين اعتادوا على وجود هذه الدول القائمة الفاشلة، والمستمِدة شرايين حياتها من النظام الرأسمالي الفاسد؛ ولكن المسلمين اليوم باتوا على اطلاع عام على هذه المقومات المتينة، وعلى تاريخهم المجيد؛ وذلك من خلال ما يطلعون عليه من حياة عز المسلمين يوم كانت لهم دولة إسلامية، كانت هي الدولة الأولى في العالم لقرون طويلة، ومن خلال ما يروى لهم من مآثر الخلفاء الراشدين وغير الراشدين ممن طبقت عدالتهم وقوتهم وحنكتهم الآفاق حتى خضع لها حكام الغرب أنفسهم

إن مما يقوي توجُّه المسلمين نحو إقامة حياتهم على أساس دينهم هو أن التاريخ الإسلامي كان في معظمه ترجمة لتعاليم الإسلام في الجهاد والحكم والرعاية وقيام كل حياة المسلمين عليه… فالدولة الإسلامية هي جزء من الإسلام، ومهما حاول الغرب أن يغيَّر هذه الفكرة ويحاربها فإنه قد فشل وسيستمر فشله، وستقوم للإسلام خلافته الراشدة التي بشَّر الصادق المصدوق سيد ربع سكان الكرة الأرضية سيدنا محمد أنها تكون في آخر الزمان بقوله: «ثم تكون خلافة على منهاج النبوة».

قال تعالى: (وَقُلِ ٱعۡمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ١٠٥).

(1) هو الحالة التي يتحقق فيها الحصول على الغذاء الكافي والآمن والمغذي لكل الافراد، وفي كل الأوقات، بشكل يلبي احتياجاتهم الغذائية، كما يناسب أذواقهم الغذائية المختلفة بما يدعم حياة نشطة وصحية.

خطة الغرب الدائمة في استعمار بلاد المسلمين

 خطة الغرب الدائمة في استعمار بلاد المسلمين

 

نبيل عبد الكريم

مجلة الوعي: العدد 417 - السنة السادسة والثلاثون، شوال 1442هـ،الموافق أيار 2021م

إن إلغاء منصب الخلافة، وإعلان انتهاء حكم الإسلام على أرض الواقع بسقوط آخر خلافة، وهي الخلافة العثمانية عام 1924م، لم يكن نتاج عمل في مرحلة السقوط فحسب، بل طالت وتشعبت عبر تركة الرجل المريض (الدولة العثمانية) التي نخرت عظامها مفاهيم الحضارة الأوروبية عبر البعثات العسكرية والدبلوماسية، والطلابية، والتبشيريةالمنظَّمة والمدروسة بعناية فائقة من قبل الأوروبيين، وخاصة بريطانيا، حتى أصبح سقوط الخلافة نتيجة منطقية، تقبَّلها الشارع أو لم يتقبَّلها، فهو حدث وقع أمام أعينهم، وأصبح ميزان القوى يميل إلى صالح أوروبا، وقد ظهر ذلك بتطوُّرها الصناعي والعسكري الذي أفضى إلى توسيع السيطرة الغربية باقتطاع أجزاء كبيرة من أطراف الدولة العثمانية التي كانت سمعتها ترهب الدول لمجرد ذكر اسمها؛ حيث خرجت الجزائر عام 1835م، وأصبحت تحت يد فرنسا، وتبعتها مصر بيد بريطانيا 1882م، ثم ما نتج عن حرب البلقان الأولى 1912م ضد اتحاد البلقان (بلغاريا- صربيا- اليونان- الجبل الأسود) فقد انتهى، بمساعدة لندن، إلى خسارة الدولة العثمانية لغالبية أراضيها في القارة الأوروبية.

وسنتطرق هنا، وفي عجالة، إلى بعض الأسباب التي أدَّت إلى مرض الدولة حتى السقوط، منها:

ضعف الالتزام بالدين الإسلامي وتعاليمه، وتفكك الرابطة المبدئية رويدًا رويدًا بسبب عدم الترابط الحقيقي بين أقاليمها مما ساعد الغزو الفكري في نخر عظام الدولة، وقد ساعد في ذلك ضعف اللغة العربية، واستخدام لغات مختلفة معها، وهو الذي عمَّق ضعف فهم الإسلام وتعاليمه.

الغزو التبشيري والثقافي ممَّا ساهم في تسرُّب النعرات القومية والنزاعات الوطنية. ولم يقتصر هذا الغزو على الدول الأوروبية وحسب، بل شاركت أمريكا وروسيا وأغلب دول الكفر آنذاك، وقد ساعد في ذلك إدخال بعض الأحكام الدستورية الغربية؛ حيث كانت هناك محاولات كثيرة لاستبدال الأحكام الشرعية بالقوانين الغربية، ومنها محاولة عبد الحميد الأول، وكان حديث السن! وبعدها محاولة مدحت باشا التي وقف عبد الحميد الثاني في وجهها، وبعدها أصبح إدخال بعض القوانين الغربية بقرار من شيخ الإسلام (مفتي الديار) الذي كان ينظر لهذه القوانين من ثلاثة نقاط فقط هي: (ما لا يخالف الإسلام يجوز أخذه) (المباح لا حرج فيه، فيكون أخذ ما لم يرد نهي عنه مباح) (الديمقراطية من الإسلام لأنها قائمة على الشورى، والعدل، والمساواة) وبناء على هذا كله أعطيت الفتاوى بجواز الأخذ من الدستور الديمقراطي الغربي مع بقاء الدولة سائرة على نظام الخلافة؛ ومن هنا بدأ يزيد الخلل والانحراف.

انتشار الفرق الدينية الضالة التي تحمل العداء لدولة الخلافة وللمسلمين فأخذت تبث الفرقة والفتن، وساعد في ذلك وصول بعض شخصيات منهم إلى مناصب في الدولة.

الجيش الانكشاري بالرغم من كل ما قدَّمه هذا الجيش الذي أنشأه السلطان أورخان، إلا أنه عندما وثب هذا الجيش إلى مركز القيادة في الدولة، فأصبحوا هم الآمرين الناهين والسلطان ألعوبة بأيديهم، ظهر الفساد، وضاعت البلاد وأدخلت في معارك ما كان لها أن تدخلها.

تآمر الدول الأوروبية على الدولة الإسلامية، وقد سلكوا لذلك عدة طرق، فقد أثاروا النعرات القومية والوطنية والاستقلالية، وحرَّكوا أهل البلاد على الدولة الإسلامية، ودعموها بالمال والسلاح. وقد ركزت بريطانيا جهودها في مسألة العرب والترك، ووعدت العرب بخلافة عربية، ومراسلات الحسين مكماهون، وتأكيد بريطانيا أنها تعترف باستقلال الدول العربية وقبولها للخلافة العربية.

ولأن الغرب كان ينظر للدولة العثمانية بأنها عائق كبير أمام مصالحها، وحتى أمام وجودها كمبدأ في هذا العالم، وتطبيق مشاريعها؛ لذلك عُقد مؤتمر كامبل بانرمان عام 1905م، واستمرت جلساته حتى 14/5/1907م بدعوة سرية من حزب المحافظين البريطانيين، وقد ضمَّ هذا المؤتمر عدة دول (بريطانيا- فرنسا- هولندا- بلجيكا- إسبانيا- إيطاليا) حيث افتتح رئيس الوزراء البريطاني هنري كامبل بانرمان بكلمة مطوَّلة قال فيها مخاطبًا الحضور «إن الإمبراطوريات تتكوَّن وتتَّسع وتقوى ثم تستقرُّ إلى حد ما، ثم تنحلُّ رويدًا رويدًا، ثم تزول، والتاريخ مليء بمثل هذه التطورات، وهو لا يتغير بالنسبة لكل نهضة ولكل أمة، فهناك إمبراطوريات كروما، والهند، والصين وغيرهم- فهل لديكم أسباب أو وسائل يمكن أن تحول دون سقوط الاستعمار الأوروبي، وانهياره أو تأخر مصيره؟»

وفي آخر هذا المؤتمر الذي يعتبر أخطر مؤتمر حصل لتدمير الأمة الإسلامية ومنع نهضتها، هو العمل على عدم الاستقرار فيها؛ حيث قالوا إن البحر الأبيض المتوسط هو الشريان الحيوي للاستعمار لأنه الجسر الذي يصل الشرق بالغرب، والممر الطبيعي إلى القارتين الآسيوية والأفريقية، وملتقى طرق العالم. ولعلَّ أبرز ما جاء في توصياته نقطتان:

إبقاء شعوب هذه المنطقة مفككة جاهلة متأخرة، وهذا ما طبَّقوه علينا إلى هذا اليوم، فقد منعوا العلوم والمعارف والتقنيات أن تصل إليها، أو أن نحصل عليها، وكلما حاولنا نجد نواطيرهم يمنعون ذلك! بكل ما لديهم من قوة.

محاربة أي توجُّه وحدوي؛ لذلك هم دعوا إلى قيام كيان غريب في فلسطين لأنها هي نقطة الوصل بين قارتي أسيا وأفريقيا، وعلى أن يعمل هذا الجسم الغريب على تفرقة وجعل المنطقة برمتها في حالة عدم الاتِّزان، وقد حقَّق الكيان الصهيوني لهم هذه المطالب، بل وذهب إلى أبعد مما كانوا يتوقعون، وحالنا اليوم يشرح نفسه، ويظهر مدى المكر الذي كُبِّلنا فيه.

وقد بدأت عملية تقاسم تركة دولة الخلافة العثمانية مع بداية الحرب العالمية الأولى من عام 1914م، أي بدأت مع بداية الحرب، وقد كانت هناك لقاءات سرية بين المملكة المتحدة وفرنسا بعلم من الإمبراطورية الروسية، لأجل تقسيم منطقة الهلال الخصيب لأنهم كانوا متأكدين من الفوز في الحرب لما زرعوا من خونة وشقاق داخل نسيج الدولة العثمانية، وقد تم الاتفاق على جميع البنود بين الطرفين بمصادقة الإمبراطورية الروسية بما عرف باتفاقية (سايكس بيكو) في 16/09/1916م؛ ولكن مع وصول الشيوعيين إلى سدة الحكم في روسيا عام 1917م، تمَّ فضح هذه الاتفاقية، ومع ذلك لم يكن هناك عوائق تذكر أمام تنفيذها. وبعد الاتفاق على الحصص وتقاسمها بينهم، انتقل الصراع إلى صراع غربي غربي، أي أصبح الصراع: من يستطيع أن يأخذ من حصص بعضهم البعض أكثر، وبدأت حقبة الاستعمار المباشر.

 وبعد الحرب العالمية الثانية، ظهرت قوة جديدة على الساحة الدولية، هي الولايات المتحدة الأمريكية، وهذه الدولة لم يكن لها حصص من تركة الخلافة العثمانية؛ لذلك ومع بدء ظهورها على الساحة الدولية، رفعت شعار حق الشعوب في التحرُّر، وبدأت تدعم الثورات العربية ضد وجود الاحتلال؛ وهذا ليس بسبب حسها النبيل، بل طمعًا منها بأخذ هذه الحصص إلى صالحها.

وبسبب رغبة الشعوب القوية بالاستقلال ورفضها للمحتل وتقديمها الشهداء في سبيل ذلك، ومع أن جميع الثورات كانت تنحرف لتأخذ طابعًا وطنيًّا، إلا أنَّ ذلك أجبر الاستعمار على الانتقال إلى حقبة جديدة ألا وهي الاستعمار غير المباشر، وذلك للالتفاف على الثورات، وتجلَّى ذلك في مغادرة المستعمر بعد أن نصَّب عملاء له يديرون البلاد نيابة عنه، ويضمن حقوقهم ومصالحهم، وتخطيطهم هو أن يقضوا على كل مخلص، ومحاربة الإسلام، والسيطرة على رموز الثورة الحقيقيين، والتخلُّص منهم ونهب ثروات البلاد، والعمل على إبقاء هذا البلاد متخلِّفة وعاجزة عن أي نهضة في أي مجال، وجعل شعوب هذه البلاد تعاني في الحصول على لقمة العيش، وبثِّ شروش الفساد في كل المجالات على الإطلاق.

هذا وقد وضع الغرب خطوطًا أساسية تكاد أن تكون واحدة في كل بلد نال الاستقلال، وهي الركائز التي اعتمد عليها للحيلولة دون وحدة الأمة ودون عودة الإسلام إلى سدَّة الحكم؛ ولذلك كان الصراع بين الدول الغربية على استقطاب عميل مكان آخر، هي الحرب التي كانوا يمارسونها بين بعضهم على أراضينا ووقودها شعبنا، وضمن هذا الصراع لا يخافون من صحوة الأمة بسبب وجود هذه الركائز التي سوف نعرج على بعضها:

تعيين طاغوت يحكم البلاد:

الطاغوت هو الذي يشرِّع التشريعات ويقنن القوانين ويقدم كلامه على كلام الله تعالى، فهو يشعر أن له الحقَّ في أن يشرِّع للناس شرائع يسنُّها مجلس الشعب أو النواب أو الرئيس… فكلُّها تتبع لصاحب الصلاحية، وهو الطاغوت، سواء أكان حاكمًا للدولة أم من عمل على تنصيبه من طواغيت. فتعيين الطواغيت الذين يحكمون بغير ما أنزل الله جعله الغرب من الخطوط الحمراء التي يجب أن لا تمسَّ، ولا يطمئن الغرب إلا أن تكون الأمة بعيدة عن مسِّها. ولما تحركت الأمة في ثوراتها تريد التغيير تحرك معها الغرب وركب الموجة وأبعدهم عن هذا الخط الأحمر بأن سمح لهم بتغيير طاغوت بطاغوت آخر، مع تحسين في الشكل فقط. ومع هذا التغيير، نرى أن الغرب يحرص ويصرُّ على إبقاء الدستور مستمَدَّة أحكامه من الديمقراطية وترك سن القوانين للناس عبر المجالس التمثيلية.

سن القوانين:

لقد حاول الغرب بوجود الخلافة تغيير القوانين فلم يستطع، فأدخل بعضًا منها وقام بفصل المحاكم، فأصبحت محاكم أحوال شخصية، ومحاكم مدنية، وكان هذا تهيئة لإدخال وجهة نظره (فصل الدين عن الحياة). وبعد سقوط الدولة تمَّ ترك محاكم الأحوال الشخصية وفق أحكام الإسلام، وتم تغيير جميع القوانين المدنية باستبعاد الشريعة الإسلامية كليًّا، وبدأ بسنِّ القوانين أو أخذها من الدول المستعمرة التي طبقت قانونها على البلاد التي استعمرتها. وبخديعة ما يسمَّى بالاستقلال، تم تشكيل هيئات ولجان محلية حتى يوهم أهل البلاد أن أبناءهم هم من وضع الدستور، وكانوا يرفعون شعار (يُعدُّ الفقه الإسلامي مصدرًا للتشريع) وهذا الشعار لم يكن له في الحقيقة سوى مجرد ذكره ضمن دفتي الدستور، أما في الواقع العملي فلم يكن له أي أثر تشريعي، وهذه قد تم إلغاؤها من أغلب الدساتير الحديثة.

ومعلوم أن خطر الدستور الوضعي هو أنه تشريع من دون الله، وهو أول دلالات بعد الأمة عن الشرع، وهذا من أهم المؤشرات لدى الغرب أنهم ما داموا يضعون لنا الدساتير فهم بألف خير؛ لأننا حينها أبعد ما نكون عن الإسلام السياسي، وعن أي وحدة أو عودة لحياتنا الإسلامية التي ترضي رب العباد.

ومعلوم كذلك أن الدستور هو وسيلة هامة ترسم صورة الحياة في الدولة وتحدِّد حركتها ونظرتها لحياتها وترسم على ضوئه مستقبلها، وبما أن الدساتير وضعها الغرب ابتداء وفرضها على المسلمين في بلادهم التي قسمها إلى دول، فإننا نرى أن هذا الغرب الماكر يسهِّل إجراء تغييرات في هذه الدساتير لتبقى تخدم مخططاته ومصالحه وأهدافه المستقبلية، لا  مصالح وأهداف أهل المنطقة، ومن ذلك وعلى سبيل المثال أصرَّ في التغييرات الحديثة على إلغاء أن يكون التشريع الإسلامي مصدرًا للتشريعات، وخاصة بعدما رأى من توجُّه قوي لدى الأمة ورغبة جامحة بالعودة إلى الحياة الإسلامية الكاملة،  وسنَّ فيها ما يراعي وجود الطوائفية والمذهبية والعرقية ليبقي بلاد المسلمين عرضة لتدخله في إثارة النعرات وإيجاد المنازعات الداخلية التي يعمل على تغذيتها بالتوقيت الذي يريد، ويجعل حدود الدم تشتعل والتفرقة تسود حتى داخل البلد الواحد.

القبضة الأمنية:

منذ إنشاء الدول القومية كبديل عن الاستعمار المباشر، وتنصيب طواغيت وسنِّ قوانين، كان لا بدَّ من وجود قبضة أمنية محكمة الصنع تفضي لحماية هذا الطاغوت، وتبقي الأمة بعيدة كل البعد عن التغيير، وتبعدها عن قضاياها الأساسية. وباعتبار أن كل الحكومات هي حكومات دكتاتورية كان لا بد من إقامة أجهزة مخابرات تساعد على تثبيت الحكم، وتعمل على درء أي خطر داهم من الأمة على هؤلاء الطواغيت؛ فتقوم بمراقبة نبض الشارع وإحصاء الأنفاس على الناس، واستعمال سياسة القمع والتخويف كسبيل وحيد لاستقرار الحكم لهؤلاء الطواغيت. ولأهمية هذه القبضة الأمنية في بلاد المسلمين، نرى أنه غالبًا ما يكون المسؤولون عن إدارة هذه المخابرات موصولين مباشرة برئيس الدولة، بل وبالمخابرات الخارجية التابعة لها هذه الدولة.

ولأن هذه القبضة تؤمِّن أمن الحاكم، وتؤمِّن له التخلُّص من المخلصين، فإن المسؤولين في هذا الجهاز يتغيَّرون مع تغيُّر الحاكم، وعليه فهم جسم لصيق به، وكل حاكم له جهازه الأمني الخاص به، ويعتبر صمام أمان له وللدولة التي هو عميل لها، ويبقى عمل هذا الجهاز الأساسي هو إبعاد الناس من الاقتراب من الخطوط الحمراء التي وضعها الغرب، ومهما تبدَّلت الأنظمة الطاغوتية تبقى القبضة الأمنية هي يدها التي تبطش ولا يستغنى عنها، ويبقى من أهم أعمالها الاتصال المباشر والتعاون المشترك مع المخابرات الدولية الراعية بشكل خاص.

المؤسسة العسكرية:

توضع المؤسسة العسكرية تحت سيطرة الحاكم، وهي تصنع بعناية شديدة ومراقبة دائمة، وتُسلَّط على الداخل،  وهي إذا سلِّطت على الخارج فلخدمة الدولة الغربية الراعية لها فقط. وتُجعل التراتبية العسكرية حسب الولاء للحاكم، وبتزكية من الدولة الراعية، فهي مؤسسة قمعية بامتياز، وعملها الأساسي حماية الحكم والحاكم، وتنفيذ مخططات الدولة الغربية. وفي خضم الحَراك الشعبي الحالي، فقد كانت المؤسسة العسكرية هي صمَّام الأمان لانتقال الحكم إلى اليد الأخرى، وعدم خروجها عن النفوذ، وهي من أهم الأوراق التي استهلكت للالتفاف على الثورات، ولا يطمئن الغرب إلى بقاء الحاكم العميل له إلا إلى هذه المؤسسة، إلى جانب القبضة الأمنية المخابراتية. وهذا ما دفع الغرب إلى فرض موادَّ جديدة في الدساتير لمنع حدوث أي تغيير للنظام عبر هذه المؤسسة يقوم به المخلصون فيها، ومنها أن الانقلاب العسكري عبر الجيش غير معترف به قانونيًا ولا دوليًا.

مصادرة المؤسسة الدينية ودار الإفتاء:

قام الغرب بوضع الإسلام تحت وصاية النظام السياسي القائم، وتمَّ إيجاد وزارات للشؤون الدينية ومراكز للفتوى من أجل توظيفها في خدمة النظام الحاكم، وتمَّ اصطناع رجال دين يخدمونهم، وتمَّ التلاعب في المناهج التي تخرِّج ما يسمى برجال الدين التي تولَّت كبر الدعاية إلى طاعة ولي الأمر! حتى لو خالف الدين نفسه، ووضع كلامه أعلى من كلام الله! والتي راحت تلوي عنق النصوص لتكون في خدمة سياسته وسياسة أسياده الكفار، وراحت هذه المعاهد والجامعات الشرعية تضمن تخريج رجال دين متشرِّبين لأفكار الحاكم وخاضعين له، ومصالح هؤلاء (رجال الدين) مجابة، ويتم اختيارهم وانتقاؤهم ليكونوا رجال دين مخلصين للدولة وليس للدين! وعملوا عن طريق هؤلاء على إبعاد الناس عن الإسلام السياسي،  ومحاربة الداعين له، وعملوا على تكريس فكرة أن الإسلام هو دين تعبدي مثله مثل الدين النصراني والدين اليهودي. فهؤلاء كانوا كما رسم الغرب لهم: أداة بيد النظام لإصدار الفتاوى التي تخدم مصالح الحاكم والغرب على حد سواء، وهذا ما جعلهم مِعول هدم لهذه الأمة بينما عملهم الأساسي والحقيقي هو بناء النهضة الصحيحة لهذه الأمة؛ وعليه كان وجودهم هو من ضمانات الخطوط الحمراء التي وضعها الغرب. وإذا ما شذَّ أحدهم فالقبضة الأمنية حاضرة.

إيجاد عدو مصطنع يستنزف الدولة:

لقد خطَّط الغرب من أجل إدامة سيطرته على بلاد المسلمين أن يكونوا في مواجهة عدوٍّ مصطنع بشكل دائمي؛ وذلك من أجل أن يستنزف جهود الأمة وإمكاناتها، وليكون ذريعة لنهب خيرات الأمة وبثِّ الرعب في داخلها، وهذا العدو على نوعين: عدو داخلي، وعدو خارجي.

أما العدو الخارجي: فكان هو الكيان الصهيوني بشكل رئيسي الذي أنشأه الغرب ليكون خنجرًا مغروزًا في صدرها يستنذف إمكانات الأمة وطاقاتها في مواجهته من قبل أنظمة طاغوتية مصطنعة مثله تدعي كذبًا ونفاقًا أنها تعاديه، فيتم استنزاف موارد الأمة بحجة التسلح من أجل القضاء عليه، والتجهُّز للمعركة القادمة معه، وتجعل من القضية الفلسطينية وتحرير الأقصى شماعتها التي تلهي بها الشعوب، وتقيم عداواتها وصداقاتها مع الدول الأخرى عبر تحالفات تتزيَّن بشعارات كاذبة خاطئة (الصمود والتصدي) و(الممانعة والمقاومة) فلا هي حرَّرت شبرًا من أرض، بل شكلت في الحقيقة سياج حماية لهذا الكيان الغاصب؛ حيث أصبحت الحدود المشتركة معه هي الدرع الحصين الذي يحصِّن وجوده ويؤمِّن حدوده… وبمجرد أن تبدَّلت سياسة الأسياد الغربيين وتحولت من العداء لـ(إسرائيل) إلى إيران فسرعان ما تحول هذا (العدو الكبير) إلى أعزِّ صديق لهذه الأنظمة، وانكشف (التعاون الكبير) المستتر معه في المجال الأمني والسياسي الذي كان يجري من تحت الطاولة. ولكم أن تتصوروا كم استهلك هذا العداء الخادع من جهود وإمكانات، تارة تحت ذرائع وطنية، وتارة تحت ذرائع دينية زائفة

أما العدو الداخلي: فقد قاموا بإنشاء جماعات باسم الدين لتقوم بأعمال تخريبية باسم الدين، ضمن أجندة داخلية للنظام أو خارجية لدول الكفر، والهدف منها إبعاد المسلمين عن تبنِّي قضاياهم المصيرية على أساس دينهم، وإبعادهم عن التعامل مع دينهم على أنه مشروع حياة فيه شريعة ونظام حكم، وتوسيع الفجوة بين الأمة وبين أي حركة أو جماعة أو حزب يعمل أو يحاول أن يعمل على إعادة الإسلام إلى الحكم، ومقابل ما تقوم به هذه الجماعات من أعمال تخريبية باسم الدين تقوم بسن قوانين جديدة تعطي الغرب، وبالتالي الأنظمة العميلة له، تسمح بضربه والتهجم عليه، وتسمح للغرب بالتدخل بحجة مكافحة الإرهاب، كل ذلك في إطار ما يسمَّى بالحرب على الإهاب الذي يقصد به الإسلام السياسي أو إسلام الحكم.

هذه الركائز تكاد تكون واحدة في كل دول المسلمين مهما اختلفت وجوه العمالة فيها، وهي ركائز وضعها الغرب منذ إنشاء الدول القومية ذات الاستقلال المزيَّف؛ ليضمن استمرار استعماره وسيطرته عليها، وهذه الركائز جعل منها الغرب خطوطًا حمراء يمنع تجاوزها

 لذلك، عندما تحركت الشعوب ضد أنظمة الظلم والقهر بما يسمى بـ(الربيع العربي) نجد أن الغرب وأدواته من الحكام تحركوا بسرعة شديدة، وقاموا باستيعاب الوضع بحركات مدروسة عرفت بـ(الثورة المضادة) والتي استخدموا فيها أنظمة عربية ادَّعت أنها مع هذه الثورات، وراحت تمدُّها بالمال السياسي القذر وتدعمها إعلاميًا وإنسانيًا، فتمَّ بها خداع الشعوب الثائرة، وكان من أبرز هذه الدول المجرمة المخادعة والتي قامت بأدوار قذرة هي قطر والسعودية وتركيا… وكل هذا كان يحدث بتخطيط من الغرب، فالجزَّار هو الغرب، والسكين هي هذه الأنظمة الخائنة، والضحية هي الأمة.

إن الأمة عندما قامت على الأنظمة إنما قامت على كل من هو مسؤول عن مآسيه من الغرب إلى الحكام الطواغيت العملاء له، إلى الأنظمة الدستورية الطاغوتية التي تحكم بغير ما أنزل الله، ومخطئ من يظن أن الامة فشلت أو هي في طور الاستسلام نتيجة هذا التآمر الدولي الخبيث والعميق؛ إذ ما زالت الأسباب التي دفعتها للثورة قائمة بل وتأكَّدت أكثر، وظهر للأمة أكثر أن الغرب وعلى رأسه أمريكا يشنُّ حربًا عالمية لا تهدأ على إسلام الحكم، وأن مآسي المسلمين اليوم تنتشر في كل أصقاع العالم، وشعار هذا الإجرام بحق الأمة إنما هو شعار أصحاب الأخدود (وَمَا نَقَمُواْ مِنۡهُمۡ إِلَّآ أَن يُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ ٨). وبما أنه لا شيء تغيَّر للأحسن بعد كل ما نراه من إجرام، إذًا فإن الأمة لن تستسلم بل ستمضي بهدي من الله نحو التغيير الذي يرضي الله سبحانه، لقد ذهبت الأوضاع إلى الأسوأ؛ وذلك ليس بفعل الثورات بل بفعل الغرب وعملائه الذين مضوا في التعامل مع هذه الثورات بسياسة الأرض المحروقة، سواء في سوريا أم في اليمن أم في العراق، أم في مصر… فكان الموت والقتل والتشريد والتجويع للناس من هذه الأنظمة ومن وراءها، وهذا لا يخفى على المسلمين، ومهما حاول الإعلام المأجور أن يطمس هذه الحقائق ويصوِّر الضحية بمظهر الجلاد والجلاد بمظهر الضحية، فإن الأمة باتت واعية وستفاجئ الجميع وأولهم الغرب، بأنها إن كانت قصيرة اليد فإنها لم تكن عامية عن تآمره وإجرامه، بل كانت بصيرة العين، ولا بد أن يشق فجر الإسلام نوره عما قريب إن شاء الله تعالى.

إذا كان الغرب قد استطاع إلى حد ما ركوب ظهر الثورات، فإن الأمة سرعان ما ستوقعه عنها، وتناجزه حقَّها، وإن الأمة ليست بعيدة عن ذلك، ففي دينها خلاصها، وهي لا تحتاج إلَّا إلى أن يقوم أهل نصرة لهذا الدين من أبنائها ويقلبوا الأوضاع على رأس أعدائها ويعطوا قيادة الأمة إلى الثلة الواعية المخلصة التي تمسَّكت بكتاب الله وسنَّة رسوله وجعلت إقامة الخلافة نصب عينيها، فتقوم الدولة التي تقف في وجوه الدول قاطبة ومعها إيمانها بالله الذي تغلب به كل من يواجهها ويعاديها، فتقوم بهدم الخطوط الحمراء، وترفع يد الغرب عن التدخل في أمور حياتنا وديننا. فهل هذا ممكن الحدوث؟ إنه لممكن، بل إنه لواجب، ومن ضمن التكليف، وإنه للحل الوحيد، وفيه المخرج الوحيد، وإنه لأقرب من رد الطرف، بعون الله وحده. فقط مفتاحه أن يهدي الله ثلة الخير من أهل القوة لتقوم مع ثلة الخير من أهل الدعوة التي تدعو وتعمل لإقامة الخلافة؛ ليكونا معًا كما كان حال المهاجرين مع الأنصار في إقامة الدولة الإسلامية الأولى زمن الرسول، فتقوم الدولة الإسلامية الثانية في زماننا وتتحقق بشرى رسول الله: «ثم تكون خلافة راشدة».

 وقال الله سبحانه وتعالى عن المهاجرين والأنصار:(وَٱلسَّٰبِقُونَ ٱلۡأَوَّلُونَ مِنَ ٱلۡمُهَٰجِرِينَ وَٱلۡأَنصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحۡسَٰنٖ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُ وَأَعَدَّ لَهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي تَحۡتَهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ ١٠٠).

غربة الإسلام وتجديده وحزب التحرير (3)

 غربة الإسلام وتجديده وحزب التحرير (3)

 

حامد عبد العزيز

مجلة الوعي: العدد 417 - السنة السادسة والثلاثون، شوال 1442هـ،الموافق أيار 2021م

إن عملية تجديد الدين هي من أهم المواضيع المطروحة اليوم في واقع حياة المسلمين، يطرحه أعداء المسلمين، ومن الغرب خاصة، عبر أدواته من الحكام العملاء له، وهؤلاء يحركون هذا الموضوع عبر العلماء التابعين لهم، ويريدون به قصر الإسلام على الناحية الفردية، وإبعاده عن الحكم فيما بات يعرف اليوم بالإسلام السياسي (الإسلاموية)، ويطالبون من خلاله بتعديل الخطاب الديني بما يضمن لهم ذلك. ومن أجل فرض ذلك، يقيم الغرب حربه العالمية على الإسلام تحت شعار (الحرب على الإرهاب)… وفي المقابل يطرحه المسلمون الواعون المخلصون يريدون بذلك إرجاع الدين إلى مضائه ونقائه وصفائه تمامًا على الذي أنزل عليه، معتمدين على حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الصحيح: «بَدَأَ الإِسْلامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاء» معتبرين أن إقامة الخلافة الراشدة هي الطريقة الوحيدة التي يتم فيها تجديد الدين وبشكل عملي يعيد الإسلام مطبقًا في واقع الحياة… وفي هذا المقال، والذي كنا قد عرضنا من قبل ما يتعلق بالتجديد على صعيد الحكم، وصعيد النظام الاقتصادي، والنظام الاجتماعي، وسياسة التعليم… وفي هذا العدد سنطرح ما يتعلق بالسياسة الخارجية، وعلى صعيد تحرير المصطلحات والتعريفات الشرعية، وهذا ضروري لأنه بها ينضبط الفهم الصحيح، كتعريف العقل والنهضة والمجتمع، والعقيدة، ودار الكفر ودار الإسلام.

على صعيد السياسة الخارجية:

1-حكم الشرع في المنظمات والهيئات الدولية:

   بعد هدم الخلافة الإسلامية، هيمن الغرب على الحياة السياسية في العالم وفرض وجهة نظره على الحياة، وأخرج للعالم مجموعة من المنظمات والهيئات الدولية بهدف السيطرة على أي حراك دولي يهدد وجوده، كعصبة الأمم المتحدة التي صارت بعد ذلك هيئة الأمم المتحدة، وهي ليست في الواقع أممًا متحدة، بل هي منظمة غربية تمسك الدول الكبرى بتلابيبها وتكبِّل الشعوب والأمم الأخرى التي تسعى للانعتاق من تبعية الغرب وسيطرته بمجموعة من القوانين والقرارات تصبُّ في صالح تلك الدول. وبرغم أن كل الدول التي تشكَّلت على أنقاض الخلافة قد انضوت تحت لواء تلك المنظمة وما تفرَّع عنها من هيئات، ورضيت بقرارتها وحرصت على تنفيذها، وتعهَّدت باحترام القوانين الدولية التي فرضها المنتصرون، وبرغم أن الكثير من أبناء الأمة اعتبر تلك المنظمات واقعًا محتومًا لا فكاك منه، وإذا تعرضوا لمصيبة أو بلاء يستهدف وجودهم وكيانهم تراهم يلهثون وراء المنظمات الدولية والدول الكبرى لحلِّ مشكلتهم، وخير مثال على ذلك قضية فلسطين وكشمير والبوسنة والهرسك وغيرها الكثير. إلا أن حالة الغربة تلك واستبعاد الإسلام من العلاقات الدولية بعد غياب دولته، تصدَّى لها حزب التحرير، وأعلن بكل وضوح أن للإسلام رأيًا في تلك المنظمات الدولية، وهو التحريم قطعًا، وعدم جواز التحاكم لها ولقوانينها؛ لأن هذه المنظمات تقوم على أساس يتناقض مع أحكام الإسلام، ولأنها أداة بيد الدول الكبرى، خاصة أمريكا، تسخِّرها لتحقيق مصالحها الخاصة، وهي وسيلة لإيجاد نفوذ الكفار على المسلمين وبلادهم، وذلك لا يجوز شرعًا؛ لأن الوسيلة إلى الحرام محرمة، وأن للإسلام أحكامه الخاصة فيما يتعلق بالعلاقات الدولية.

  هذا وقد بيَّن الحزب بشكل قاطع أن ما يسمى بالقانون الدولي قد أنشئ وأوجد ضد الدولة الإسلامية التي كانت تتمثل بالدولة العثمانية، فالأسرة الدولية أو العائلة الدولية هي في أصلها مبنية على أساس العائلة الدولية النصرانية الأوروبية، والقانون الدولي هو في أصله المعاهدات المعقودة بين الدول النصرانية والعرف السائد في المجموعات النصرانية الأوروبية. فإطلاق اسم العائلة الدولية على الدول النصرانية الأوروبية وحدها يعتبر تزويرًا وتضليلًا؛ لأن العالم ليس الأسرة الدولية النصرانية الأوروبية فحسب، وإطلاق اسم القانون الدولي على معاهدات وأعراف الدول النصرانية وحدها كذب وتزوير؛ لأن الأفكار التي تصلح أن تكون قانونًا دوليًا ليس معاهدات وأعراف الدول النصرانية الأوروبية فحسب، بل الأفكار التي تصلح لذلك هي مجموعة الأعراف الموجودة بين المجموعات الموجودة في العالم كله، والاتفاقات والمعاهدات التي تعقد بين مجموعات البشر في العالم كله، كما وبيَّن للأمة أن الدول كلها عدوة للإسلام؛ لأنها تعتنق ديانات ومبادئ تناقض الإسلام، ولها وجهة نظر في الحياة تخالف بل تناقض وجهة النظر الإسلامية، والدول الكبرى بنوع خاص تزيد على ذلك بأنها تطمع في البلاد الإسلامية، ولذلك قضت على الدولة الإسلامية للقضاء على الأمّة الإسلامية، ورسمت الخطط البعيدة المدى للحيلولة دون عودة الدولة الإسلامية إلى الحياة، وبالتالي لتَحول دون عودة الأمّة الإسلامية أمّة عظيمة بين الأمم، وبالطبع ترسم الخطط وتبذل الجهود لوأد الدولة الإسلامية في مهدها، وقبل أن تتحرك الأمّة الإسلامية لمؤازرتها وحمايتها، وستظلُّ دائبة على مقاومة الأمّة الإسلامية، ومقاومة قيام الدولة الإسلامية قائمة. وإذا كانت معرفة السياسة الخارجية لكل دولة في العالم أمرًا لا يستغني عنه كل سياسي مسلم، فإن إدراك كُنه، وخفايا، وخطط، وأساليب، ووسائل الدول الكبرى أمر بالغ الأهمية لكل مسلم بشكل إجمالي، ولكل سياسي بل مفكر مسلم بشكل تفصيلي واقعي سائرًا مع الأحداث اليومية المتغيِّرة، والمتجدِّدة، مع بقاء التصوُّر الكامل للأسس والقواعد التي تقوم عليها سياسة أي دولة كبرى، من أجل إدراك الأخطار، ودوام العمل لأمن البلاد، أي لأمن الدولة والأمّة الإسلامية.

2-الجهاد والسياسة الخارجية للدولة:

   لم يتعرض حكم شرعي للهجوم من قبل أعداء الأمة كما تعرض حكم الجهاد؛ ذلك لكونه السبب الرئيس الذي بسببه تعرض أعداء الأمة للقهر والذل فيهِ وبالدعوة إلى الإسلام امتدَّ العالم الإسلامي شرقًا وغربًا. وتلك الضربات القاصمة التي تلقَّاها الكفار دفعتهم للهجوم على فكرة الجهاد بعد أن يئسوا من قدرتهم على التصدي لقوة الجيوش الإسلامية وقوة العقيدة القتالية التي يحملها أبناء الأمة في مواجهة أعدائها. وطوال التاريخ الإسلامي لم تضعف فكرة الجهاد في نفوس المسلمين أبدًا، حتى بعد ذهاب دولتهم وغياب الراعي والحامي الذي يقاتل من ورائه ويتَّقى به، فقد استمرَّ المسلمون في رفع لواء الجهاد، ولكن هذه المرة ليس لنشر الإسلام بل للدفاع عن أراضيهم وأعراضهم، ولم يهنأ المستعمرون يومًا في بلادنا، فقد ظهر مجاهدون عظام تصدَّوا لهم بكل قوة وبما هو متاح في أيديهم ولو كان أقلَّ القليل، كعمر المختار وعبد القادر الجزائري والحركة المهدية في السودان وغيرهم الكثير، حتى بعد أن استقر الوضع في بلادنا للكفار لم تتوقف عجلة الجهاد والمقاومة أبداً؛ ولذا حرص الغرب على أن يُخرِّج من بيننا عملاء فكريين ومشايخ باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم، فحملوا لواء الهجوم على فكرة الجهاد، وبدأنا نسمع عن أن الجهاد شرع في الماضي لإزالة الحواجز المادية، والآن الحواجز المادية مزالة، وبالتالي فلا حاجة له. أو أن الجهاد إنما شرع للدفاع فقط، بل تطوَّر الأمر عندهم حتى أصبح القتال من أجل الدفاع إرهابًا.

   حرص الحزب في ثقافته على إعادة البهاء والصفاء والنقاء لفكرة الجهاد، وبيَّن أنه هو الطريقة العملية لنشر الإسلام، وقرَّر أن السياسة الخارجية في الدولة الإسلامية تقوم على أساس فكرة ثابتة لا تتغير، وهذه الفكرة هي نشر الإسلام في العالم، في كل أمة وكل شعب. فقد حدَّد الإسلام علاقة المسلمين بغيرهم من الكفار خارج حدود الدولة الإسلامية بأحكام نشر الرسالة الإسلامية بالتبليغ وإقامة الحجة والجهاد، وهذه هي طريقة حمل الدعوة الإسلامية رسالة إلى العالم أجمع. فلم يعترف المسلمون في أي وقت من الأوقات بالأطر السياسية التي كانت تنظم علاقات الدول التي وجدت في عهودها المتعاقبة، ولم يكونوا في يوم من الأيام جزءًا من أية منظومة سياسية عالمية أو إقليمية، بل كانوا دومًا ينتهجون سياسة مستقلة تمامًا، ترتكز على الأحكام الشرعية الجهادية.

3-التأصيل لمفهوم السياسة:

   بعد أن كانت السياسة هي طعام وشراب المسلمين، ليس فقط للخليفة والولاة والعمال والوسط السياسي، بل كانت كذلك عند العلماء وحتى العامة، أصبحت السياسة في زمن الغربة الأخير عند الكثيرين يستعاذ بالله منها،  كما قال أحدهم، بل إن الكلام فيها ينقض الوضوء ويوجب الغسل كما قال آخر؛ إذ تم الترويج على أن السياسة هي فن الكذب والخداع والمؤامرات. ولقد أعاد الحزب للسياسة من جديد مفهومها الشرعي الذي هو رعاية شؤون الأمة داخليًا وخارجيًا، وتكون من قبل الدولة والأمة، فالدولة هي التي تباشر هذه الرعاية عمليًا، والأمة هي التي تحاسب عليها الدولة. ورعاية شؤون الأمة داخليًا من قبل الدولة تكون بتنفيذ المبدأ في الداخل، وهذه هي السياسة الداخلية. وأما رعاية شؤون الأمة خارجيًا من قبل الدولة فهي علاقتها بغيرها من الدول والشعوب والأمم، ونشر المبدأ في العالم، وهذه هي السياسة الخارجية.

   ولقد وضع الحزب كتابي (مفاهيم سياسية) و(نظرات سياسية) ليؤصِّل لمعنى جديد للسياسة في هذا العصر يختلف عما يسود العالم من كذب ونفاق، وكان تأسيس الحزب كحزب سياسي يتعاطى السياسة بمفهومها الشرعي أكبر تحدٍّ قام به الحزب للغرب، ليواجه من خلاله الخطط والألاعيب السياسية لدول الغرب الكافر المستعمر في بلادنا، وليكشف عملاءه في بلادنا وتأمُّرهم على البلاد والعباد، ولم تتوقف أبدًا معارك الحزب السياسية التي خاضها طوال ما يقارب الستة عقود، ومما يذكر للحزب في هذا المجال كشفه لعمالة جمال عبد الناصر والخميني والملك حسين وغيرهم، وفضحه لمخططاتهم، كمخطط فصل جنوب السودان والضفة الغربية، وتعريته للنظام الرأسمالي ومن قبله النظام الشيوعي الذي عرَّاه الحزب تمامًا وبيَّن تهافته.

6- على صعيد التعريفات:

    تميَّز حزب التحرير بتحرير المصطلحات والتعريفات، قال تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقُولُواْ رَٰعِنَا وَقُولُواْ ٱنظُرۡنَا وَٱسۡمَعُواْۗ وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٞ ١٠٤)، وإن أيَّ تعريف أو مصطلح يجب أن يكون جامعًا مانعًا، واستطاع الحزب أن يقوم بتحرير مجموعة من التعاريف والمصطلحات بشكل لم يسبقه إليه أحد كما سنبيِّن الآن. ومثل هذه التحرير ضروري جدًا؛ لأنه يشكل مناط حكم لأفكار إسلامية وأحكام شرعية هي أشد ما يحتاج إليها المسلمون اليوم في مثل هذه الأيام الصعبة التي تمرُّ بها الأمة وتحتاج فيها إلى التجديد.

1-تعريف العقل:

   صحيح أنه قد وجد من يحاول إدراك واقع العقل من علماء المسلمين،  ومن علماء غير مسلمين في القديم والحديث، ولكنهم أخفقوا في إدراك واقعه. ووجد من يحاول رسم طريقة للتفكير، ولكنهم وقد نجحوا في نواحٍ من ثمرات هذه الطريقة بالمنجزات العلمية ولكنهم ضُلِّلوا عن معرفة التفكير من حيث هو تفكير، وضَلَّلوا غيرهم من المقلدين الذين بهرهم هذا النجاح العلمي. ومن قبل، منذ أيام اليونان ومَن بعدهم، اندفعوا في الوصول إلى التفكير فوصلوا إلى ما يسمى بالمنطق، ونجحوا في الوصول إلى بعض الأفكار؛  ولكنهم أفسدوا المعرفة من حيث هي معرفة،  فكان المنطق وبالًا على المعرفة بدل أن يكون _ كما أريد له _ سبيلًا للوصول إليها ومقياسًا لصحتها.

   سلك الحزب الطريق المستقيم الذي يؤدي إلى معرفة معنى العقل معرفة يقينية جازمة، وهو أنه لا بد من وجود أربعة أشياء حتى تتم العملية العقلية، أي حتى يوجد العقل أو الفكر.  فلا بد من وجود واقع. ولا بد من وجود دماغ صالح، ولا بد من وجود حسٍّ، ولا بد من وجود معلومات سابقة. فهذه الأربعة مجتمعة لا بد من تحقُّقها جميعها وتحقق اجتماعها، حتى تتمَّ العملية العقلية، أي حتى يوجد عقل أو فكر أو إدراك. وعليه فالعقل أو الفكر أو الإدراك هو: نقل الحسِّ بالواقع بواسطة الحواس إلى الدماغ، ووجود معلومات سابقة يفسر بواسطتها هذا الواقع.

   ورأى الحزب أن هذا التعريف هو وحده التعريف الصحيح، ولا تعريف غيره مطلقًا، وهذا حق فهو تعريف مطابق لواقع العقل، وهذا التعريف مُلزِم لجميع الناس في جميع العصور، لأنه وحده الوصف الصادق لواقع العقل، وهو وحده الذي ينطبق على واقع العقل.

   ومن خلال هذا التعريف استطاع الحزب ضبط عملية التفكير وبالتالي بيَّن دور العقل؛ إذ العقل بهذا التعريف لا يمكنه أبدًا البحث فيما وراءه، ولا فيما لا يقع عليه الحس، وبالتالي كانت الأبحاث التي أنتجها المتكلمون في المغيَّبات لا قيمة لها، وهي مجرد أبحاث لا طائل من ورائها ولم تستفد منها الأمة بل كانت وبالًا عليها، ومدعاة لتفرُّق الأمة لفرق كثيرة يكفِّر بعضها البعض، بل وتصدَّى الحزب، من خلال هذا التعريف والالتزام بما يترتب عليه، لتلك الفئة التي أرادت أن تجعل العقل حكمًا على النص، مع أن دور العقل هو فقط فهم النص، وأما دور العقل في إثبات العقيدة فهو دور كبير، وكان هذا التحديد لدور العقل المنضبط بضوابط الشرع سببًا مهمًا جدًا في صحة الاجتهادات التي قام بها الحزب في شتى المجالات؛ إذ كانت اجتهادات الحزب كلها مستنبطة من الكتاب والسنة وما دلَّا عليه من أدلة كإجماع الصحابة والقياس المبني على علة شرعية؛ ولهذا تصدى الحزب وبقوة لفكرة المصالح التي تنبني على التشهّي المتسربل بلباس العقل.

2-تعريف النهضة:

كانت حالة الانحطاط التي وصلت إليها الأمة بعد هدم الخلافة قد وصلت إلى الحضيض، فهذا الانحطاط لم يكن فجائيًا، بل كانت له تراكمات كثيرة منذ أن تم فصل الطاقة العربية عن الطاقة الإسلامية نتيجة إهمال أمر اللغة العربية، مرورًا بالغزو الثقافي والتبشيري الذي تعرَّضت له الأمة. وبعد أن استطاع الغرب أن يحقق نهضته على أساس فكرة فصل الدين عن الدولة وحقَّق ذلك التقدم العلمي والتقني والحربي، انبهر الكثير من أبناء الأمة بذلك التقدُّم، وانتشرت بين المسلمين تلك الدعوات الداعية لتقفِّي أثر الغرب حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب دخلناه وراءهم، كما أسس لهذا زعيمهم طه حسين فيما زعموا في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» الذي قال فيه: «إن سبيل النهضة واضحة بيِّنة مستقيمة، ليس فيها عوج ولا التواء، وهي أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم؛ لنكون لهم أندادًا ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها، حلوها ومُرّها، وما يُحَبُّ منها وما يُكره، وما يُحمد منها وما يُعاب».

   ولقد ظن البعض أن النهضة تكون بالتقدم العلمي أو الاقتصادي أو من خلال إهمال أمر الدين مطلقًا، فجاء حزب التحرير ليحرِّر للأمة المفهوم الصحيح للنهضة، ويبيِّن أنها الارتفاع الفكري، وأن الأفكار في أية أمة من الأمم هي أعظم ثروة تنالها الأمة في حياتها إن كانت أمة ناشئة، وأعظم هبة يتسلمها الجيل من سلفه إذا كانت الأمة عريقة في الفكر المستنير. أما الثروة المادية، والاكتشافات العلمية، والمخترعات الصناعية، وما شاكل ذلك فإن مكانها دون الأفكار بكثير، بل إنه يتوقف الوصول إليها على الأفكار، ويتوقف الاحتفاظ بها على الأفكار. فإذا دُمِّرت ثروة الأمة المادية فسرعان ما يعاد تجديدها، ما دامت الأمة محتفظة بثروتها الفكرية. أما إذا تداعت الثروة الفكرية، وظلت الأمة محتفظة بثروتها المادية فسرعان ما تتضاءل هذه الثروة، وترتدّ الأمّة إلى حالة الفقر. كما أن معظم الحقائق العلمية التي اكتشفتها الأمة يمكن أن تهتدي إليها مرة أخرى إذا فقدتها دون أن تفقد طريقة تفكيرها. أما إذا فقدت طريقة التفكير المنتجة فسرعان ما ترتد إلى الوراء وتفقد ما لديها من مكتشفات ومخترعات.

   ولإدراك الحزب لمفهوم النهضة كانت هذه الجملة التي صدَّر بها الحزب أول كتاب له في منظومته الفكرية: «ينهض الإنسان بما عنده من فكر عن الحياة والكون والإنسان، وعن علاقتها جميعها بما قبل الحياة الدنيا وما بعدها؛ فكان لا بد من تغيير فكر الإنسان الحاضر تغييرًا أساسيًا شاملًا، وإيجاد فكر آخر له حتى ينهض؛ لأن الفكر هو الذي يوجد المفاهيم عن الأشياء، ويركِّز هذه المفاهيم».

ثم انتقل الحزب لتعريف المبدأ بأنه عقيدة عقلية ينبثق عنها نظام، ليصل من خلال بحث عقلي إلى أن الإسلام هو المبدأ الصحيح الذي يجب أن تنهض الأمة على أساسه، وهو من ثَم المبدأ الذي سيقود البشرية بعد ذلك للطريق والنهضة الصحيحة التي تخرجه من البؤس والظلم والشقاء الذي تتخبط فيه البشرية منذ غاب الإسلام عن الوجود بغياب الدولة الإسلامية.

3-تعريف المجتمع:

    نتيجة الهيمنة العالمية للمبدأ الرأسمالي الذي يقوم على الفردية، هيمن التعريف المغلوط للمجتمع بأنه هو مجموعة الناس، أي أنه مكوَّن من أفراد، فإذا صلح الفرد صلح المجتمع؛ لكن الحزب لم يقنع بهكذا تعريف، بل عرَّفه الحزب بأنه أناس وأفكار ومشاعر وأنظمة. وهذا التعريف عام، وهو نتيجة لدراسة واقع المجتمع من حيث هو مجتمع، ولكن على اعتبار أن المجتمع الذي نريده هو مجتمع معين متميز عن غيره من المجتمعات. فمجموعة الناس هي جماعة وليست مجتمعًا، والذي يكوِّن المجتمع هو العلاقات، وتتميز المجتمعات عن بعضها بحسب هه العلاقات، وإلا فالناس في كل بلد هم الناس،  أي هم أشخاص من بني الإنسان لا تتميَّز جماعة عن جماعة إلا بالعلاقات.

ومن هنا أدرك الحزب أن الدول تنشأ بنشوء أفكار جديدة تقوم عليها ويتحول السلطان فيها بتحول هذه الأفكار؛ لأن الأفكار إذا أصبحت مفاهيم أثَّرت على سلوك الإنسان، وجعلت سلوكه يسير حسب هذه المفاهيم، فتتغير نظرته إلى الحياة. وتبعًا لتغيُّرها تتغيَّر نظرته إلى المصالح. والسلطة إنما هي رعاية هذه المصالح والإشراف على تسييرها. ولا تكون إلا للفئة الأقوى من غيرها من باقي الفئات في المجتمع، فإذا كان الناس في منطقة متفقين في نظرتهم إلى المصالح أقاموا هم من يتولى رعاية شؤونهم، أي أقاموا هم السلطة التي تسيِّر مصالحهم، أو سكتوا لمن أقاموا أنفسهم في السلطة لتسيير مصالحهم. ومن هنا يأتي الحكم من الأمة قطعًا، إما باختيارها الفعلي، أو بسكوتها عن قيامه. والسكوت هو نوع من أنواع الاختيار. وعليه فلا بد من وجود أفكار معينة عن الحياة، ولا بد من وجود فئة قوية تحمل هذه الأفكار عن قناعة وتتقبلها برضا وحماس حتى تؤخذ السلطة.

فكان تعريف المجتمع وإدراك كيف تقوم الدول، تجديدًا مهمًّا توصل إليه الحزب، وقام يسعى لتغيير الأفكار والمفاهيم في المجتمعات في البلاد التي يعمل فيها الحزب، ويحارب الأعراف الفاسدة والتقاليد البالية، ويعمل على إيجاد رأي عام للإسلام منبثق عن وعي عام، يمكِّنه بعد استلام السلطة من أهل القوة والمنعة من تطبيق الإسلام وبناء المحتمع الإسلامي على أسس صحيحة.

4-تعريف العقيدة:

وبما أن النهضة لا تكون إلا بالارتفاع الفكري، والفكر الصحيح الثابت القويم هو الذي يرقى به الإنسان، وتنهض به الأمم، وعليه تبنى المجتمعات وتقوم الدول؛ فلا بد من أن يكون هذا الفكر ناشئًا عن أساس روحي (العقيدة) تنبثق عنه كافة الأنظمة والمعالجات وتقاس به جميع المفاهيم عن الحياة، وتثبت عليه الحقائق وتقعَّد به القواعد.

والملاحظ أن العقيدة الإسلامية في عصر الغربة هذا لم تعد لدى المسلمين عقيدة سياسية؛ ولكنها ظلَّت عقيدة روحية. ووجهة النظر التي تشكلها لم يعد لها وجود في واقع الحياة، وإن كانت موجودة فرديًا. فأساس موطن الداء كامن في هذين الأمرين؛ في الخلل الذي طرأ على أساس المفاهيم عن الحياة وهي العقيدة السياسية، وفي الخلل الذي طرأ على تصوير الحياة الذي تشكله العقيدة السياسية، فبعد أن كان تصوير الحياة بأنه الحلال والحرام صار تصوير الحياة بأنها المنفعة.

    وطريقة العلاج لا بد أن تبدأ بالعقيدة ببيان أنها عقيدة سياسية والتركيز على ذلك بشكل مؤثر من الناحية الروحية التي فيها، فهي معروفة عند الجميع، وكذلك بربطها بالأفكار عن الحياة وبرعاية شؤون الدنيا بربط الإيمان بالله تعالى بالإيمان بالقرآن، وربط الإيمان برسالة محمد ونبوته بالسنة، ثم بعد ذلك الانتقال إلى وجهة النظر التي تشكلها هذه العقيدة، أي الانتقال إلى أن مقياس الحياة هو الحلال والحرام وأن تصوير الحياة في نظر الإسلام هو الحلال والحرام، وليس النفعية ولا التطور أو ما يسمى بالتقدمية.

   ولهذا حرص الحزب على الاهتمام بالعقيدة وعرَّفها بشكل صحيح حتى لا تقع الأمة مرة أخرى فيما وقعت فيه من قبل من اختلاف وتكفير طائفة لطوائف أخرى بناء على الخلاف في مسائل ظنية، فعرَّف العقيدة بأنها هي التصديق الجازم، بينما التصديق غير الجازم ليس بعقيدة، والتصديق الجازم يوجب بل يحتم عدم قبول الظن في العقيدة، يعني إذا قال يجوز هذا فإن ذلك ليس عقيدة لأنه ليس تصديقًا جازمًا بل تصديقًا فقط، فالاعتقاد بأن القرآن كلام الله يعني التصديق الجازم بأن القرآن وحده هو الصالح لأنه وحي من الله، فالقول بأنه صالح وأن غيره صالح ليس تصديقًا جازمًا به بل تصديقًا فقط. والاعتقاد بأن الحديث إذا صح عن رسول الله هو وحده الصالح لأنه وحي من الله، فالقول بأنه صالح وأن غيره صالح ليس تصديقًا جازمًا بل تصديقًا فقط، فالعقيدة تحتِّم وجود الجزم في التصديق، فإذا فقد الجزم خرجت عنها صفة الاعتقاد. ووجهة النظر مرتبطة بالعقيدة، فإذا قيل إن الحكم الشرعي جاء للمنفعة وهذه منفعة، فإن هناك خللًا في ربط وجهة النظر بالعقيدة، فيصحح هذا الخلل بأن الحكم الشرعي دليله الشرع، أي ما جاء وحيًا من الله وليس دليله المنفعة، وإذا قيل إن الحكم الشرعي لا يصلح في هذا العصر بل كان صالحًا في العصور السابقة، والآن الصالح هو المنفعة أو القوانين الحديثة فإن هناك خللًا في العقيدة وفي ربط وجهة النظر بها، فيصحح هذا الخلل بأن الاعتقاد بوجود الله ونبوة محمد يناقض ذلك، فالخطاب في القرآن والحديث للناس في كل عصر. ثم بعد التسلم ينتقل إلى تصحيح الربط، وإذا قيل إن تصوير الحياة بالحلال والحرام لا يعارض تصويرها بالنفعية، فإن هناك خللًا في الربط، فيصحَّح هذا الخلل بأن الحلال والحرام دليله الشرع وليس المنفعة، فالمطلوب هو الشرع وليس المصلحة أو المنفعة. وإذا قيل إن تصوير الحياة بالحلال والحرام لا يناسب العصر بل الذي يناسبه المصلحة أو المنفعة، فإن هناك خللًا في العقيدة وفي الربط، فيصحَّح هذا الخلل بأن كتاب الله جاء للإنسان في كل عصر وليس في عصر معين، ثم بعد التسليم ينتقل إلى تصحيح الربط.

   فالعقيدة هي أس الحياة وأصل المجتمع ومنبع  النظام ومرجع للأول والآخر. وهذا ما حرص عليه حزب التحرير ونافح عنه، حتى أشاع البعض أن الحزب يردُّ خبر الآحاد لأنه ظني وما فهموا ما يرمي إليه الحزب، وما فرَّقوا بين العقيدة والحكم الشرعي، أو هكذا أرادوا التدليس على الأمة وحاولوا صرفها عن الالتفاف حول الحزب وفكره وثقافته.

   إن القول بأن العقيدة لا تؤخذ إلا بالدليل القطعي ولا يجوز أن تؤخذ بالدليل الظني هو قول يثبت العقيدة وينقيها من كل شائبة ويجعلها في مأمن من أن يتسرَّب إليها الفساد والتناقض والعبث، وليس قولًا يشكِّك في العقيدة أو يحطُّ من قيمتها بل هو يرفعها.

   فواقع العقيدة من حيث فهمها ووضوحها وأنها لا تكون إلا في العقليات المحضة أو المغيبات يقضي بأن تكون قطعية لا ظنية، لأنها أصل، والأصول لا يجوز أن يدخلها الاحتمال؛ لأن هذا يعني احتمال عدم نفي النقيض. كما أن المطلوب فيها هو التصديق  الجازم فقط، أي لا يطلب فيها العمل، وإن كانت في حقيقتها أصلًا للأعمال وأسًّا لأي مفهوم عن واقع الحياة. وإن دخول الاجتهاد فيها يفسدها وتتعدد الآراء وتكثر المذاهب والفرق العقدية، فيؤدي ذلك إلى الاشتطاط والخطأ الناجم عن الاجتهاد القائم على غلبة الظن خاصة في العقيدة.

5-تعريف دار الإسلام ودار الكفر:

   حاول البعض سلخ مفهوم دار الإسلام ودار الكفر عن أحكام الشريعة، ولم يكن الأمر عن حسن نية أبدًا، كما لم يكن أيضًا عن جهل بتلك الأحكام، بل كان خبثًا وانصياعًا لما يريده الغرب الكافر من تفريغ الإسلام من مضمونه، وتجريده من كل الأحكام السياسية التي هي أسُّه وأساسه، فقالوا إن هذا مفهوم تاريخي قديم لا يناسب العصر الذي تقوم العلاقات فيه بين الدول على الاحترام المتبادل وحسن الجوار، وإن هناك قوانين دولية يجب أن تُحترم، وإن الدول اليوم تقوم على أساس المواطنة وليس على أساس الكفر والإيمان.

   لم يأتِ حزب التحرير بجديد عندما عرَّف دار الإسلام بأنها هي الدار التي تطبق فيها أحكام الإسلام على جميع شؤون الحياة والحكم، ويكون أمانها بأمان الإسلام ولو كان أكثر أهلها من غير المسلمين. ودار الكفر بأنها هي الدار التي تطبَّق فيها أحكام الكفر على جميع شؤون الحياة، ويكون أمانها بأمان الكفر، ولو كان جميع أهلها من المسلمين. ولم يكن تأكيد الحزب بأن العبرة في الدار من كونها دار إسلام أو دار كفر، هي بالأحكام التي تطبَّق عليها، وبالأمان الذي تكون آمنة به، وليست العبرة بدين أهلها، لم يكن أيضًا تأكيدًا جديدًا، بل هو ما كان عليه كل علماء الأمة ولم يشذَّ منهم أحد، إلا أن الحزب نفض الغبار عن هذا المفهوم الذي تسبَّب به بعد الشقة بين الناس وبين الدولة الإسلامية، وساهم فيه بعض مشايخ السلطان الذين أصبحوا ألعوبة ومعاول هدم في يد أعداء الأمة.

   وتحرير هذا المفهوم كان من الأهمية بمكان؛ لأنه ينبني عليه تحديد كيفية العمل إزاء الواقع، فإن كان الواقع أن الدار دار إسلام، كان الواجب هو السمع والطاعة والإصلاح إن ظهر أي انحراف. وإن كان الواقع أن الدار دار كفر، فالواجب هو العمل على التغيير وتحويل الدار إلى دار إسلام بالطريقة الشرعية المستنبطة من طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة.  [يتبع]