Saturday, January 28, 2017

العقدة الكبرى والعقد الصغرى ح2

العقدة الكبرى والعقد الصغرى ح2

لكن المشاهد المحسوس أن لدى الإنسان عقدة كبرى، تنشأ لديه من غريزة التدين، تثير عليه عدداً من الأسئلة، تدفعه للإجابة عنها إجابة عقلية، مقنعة للعقل، مطمئنة للفطرة، وهذه الأسئلة هي:
- من أين جئت؟
- ولماذا؟
- وإلى أين؟
نجدها تبدأ مع الطفل الصغير، فيسأل أباه وأمه: من أين جئت؟ فيجيبونه إجابات تسكته مؤقتاً، ثم يعيد الكرة مرات ومرات، ولا يتوقف هذا السؤال إلا إذا حصل على إجابة مقنعة، فإن أجابوه بأنهم ولدوه، فسينتقل بالسؤال إليهم: وأنتم من أين جئتم؟ ويكون الجواب: كل منا من أب وأم، ولكن هذه السلسلة لا بد لها من نهاية، وإلا فإن السؤال يبقى قائماً، ذلك أن الإنسان مرتبط في وجوده بهذا الكون، وعندما يسأل فإنه لا يقتصر في سؤاله عن نفسه، وإنما يسأل عن جنسه البشري، بل يسأل عن الكون كله، وعن كل ما فيه، فإن أجيب بأننا قد خلقنا الله تعالى، والله تعالى خلق لنا هذا الكون، فإن سؤاله يتوقف، لأنه يشاهد كل شيء حوله مخلوقاً، عاجزاً ومحدوداً وناقصاً، ويشاهد كل شيء حوله محتاجاً لقصوره الذاتي.
ثم إن ذلك الطفل حين يسمع أن جده قد مات، أو أن قريباً أو جاراً قد مات، فإنه يعود إليهم بسؤال آخر: إلى أين؟ أين ذهب؟ فيبدأ مفهوم الموت بالتشكل لديه، ويريد معرفة حقيقة الموت، وماذا بعد الموت، حتى يحصل على الإجابة المقنعة لعقله والمطمئنة لقلبه بأنه ذهب إلى خالقه، فيتوقف السؤال عنده.
ولكنه يثور لديه سؤال ثالث: لماذا؟
لماذا نحن هنا؟ قلتم إن الله تعالى هو الذي خلقنا، وخلق لنا الكون، فماذا يريد منا؟ لماذا خلقنا؟ حتى يأتيه الجواب: وما خلقت الجنّ والإنسَ إلا ليعبدون، وأنه أرسل إلينا رسلاً يبينون لنا كيف نعبده، وكيف نسير في هذه الحياة الدنيا على هدى وعلى صراط مستقيم، فتهدأ لديه هذه الأسئلة.
هذه الأسئلة، من أين جئت؟ ولماذا؟ وإلى أين؟ هي أسئلة العقدة الكبرى عند كل إنسان، تدفعه ليجيب عنها، وتكون الإجابة عنها فكرةً كليةً عن الكون والإنسان والحياة، وعن علاقتها جميعها بما قبلها، وعن علاقتها جميعها بما بعدها، ويكفي فيها أن تكون كلية إجمالية غير تفصيلية، إذ التفصيل لا يلزم لمجرد الإجابة عن الأسئلة، وإن كان يلزم بعض الناس من العلماء الذين أخذوا على عاتقهم البحث والتنقيب عن نشأة هذا الكون، وكيف نشأ، ولكن التفصيل لا يلزم لتشكيل فكرة كلية إجمالية.....
قلنا إن هذه الأسئلة تثور على كل إنسان في مواقف حياته المختلفة، تدفعه للإجابة عنها، ولأنها مظهر من مظاهر الغريزة لديه، فإن عدم الإجابة عنها لا يؤدي إلى الموت، وإنما يوقع الإنسان في قلق واضطراب، يوقع الإنسان في شقاء، فلا يحسّ للحياة طعماً، ولا يهدأ باله، ولذلك فإنا نرى أكثر الناس ممن لم يجيبوا عن هذه الأسئلة إجابة عقلية صحيحة مقنعة، نجدهم يعيشون في شقاء دائم، لأن عدم الإجابة عن هذه الأسئلة شكل لديهم عقدة، لا تنحل إلا بالإجابة عن الأسئلة الثلاثة.
إن الإجابة عن الأسئلة الثلاثة إجابة عقلية صحيحة مقنعة تجعل الإنسان يحدد غايته من هذه الحياة، وتجعله يحدد قضيته المصيرية التي يعيش من أجلها، وتعطيه مَثَلَه الأعلى في الحياة، وغايةَ الغاياتِ عنده، وتعطيه مقاييس مختلفة لحياته، فتعطيه مقياساً للسعادة، وتعطيه مقياساً للسلوك، وتعطيه مقياساً للمشاعر، وتعطيه مقياساً للأفكار والمفاهيم، وتعطيه مقياساً للخير والشرّ، وتعطيه مقياساً للضرّ والنفع، وتجعله يحدد موقفه من أمور الحياة كلها، فتجعله يحدد موقفه من الماضي، ومن الحاضر، ومن المستقبل، ومما يمكن أن يصيبه في المستقبل، وتجعله يحدد موقفه من ضعفه وعجزه، وتجعله يحدد موقفه من القضايا التي تشكل أرقاً وقلقاً عند جميع الناس: كالأجل، والرزق، والتوكل، والقضاء والقدر، والهدى والضلال، والنصر، والضر والنفع، والخير والشر، والحلال والحرام، وتعطيه المفاهيم الراقية عن الحياة الدنيا، وتعطيه التصوير الصحيح للحياة، فلا يكون فيها عبداً لشهواته، لا فرق بينه وبين ذوات الأربع، أو اللواتي تمشي على بطونها، أو تسبح في الماء، أو تطير في الهواء، بل يبقى في مقام التكريم الإلهي الذي أراده له خالقه سبحانه وتعالى، الذي خلقه في أحسن تقويم، ليسير على طريق مستقيم، يحقق سعادته في الدنيا والفوز في الآخرة.
كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير
أبو محمد – خليفة محمد - الأردن
1 من جمادى الأولى 1438هـ   الموافق   الأحد, 29 كانون الثاني/يناير 2017مـ

No comments:

Post a Comment