Tuesday, September 30, 2014

فبهداهم اقتده : الربيع بن زياد الحارثي رضي الله عنه

فبهداهم اقتده : الربيع بن زياد الحارثي رضي الله عنه

مجلة الوعي: السنة التاسعة والعشرون العدد 334 ذو القعدة1435هـ، أيلول 2014م
عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
وما صدقني أحد منذ استُخلفت كــمــا صــدقــــني الربــــيــع بــــن زيـــــــاد
هذه مدينَةُ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ما تَزالُ تُكَفِكفُ أَحزَانَها على فَقدِ الصِّدّيق... وها هي ذي وُفُودُ الأَمصارِ تَقدمُ كُلَّ يومٍ على المدينة مُبايعةً خَليفتَه عُمَرَ بنَ الخَطابِ على السَّمعِ والطاعةِ في المنشطِ والمَكرَه (في اليسر والعسر) وفي ذات صباح قدم على أمير المؤمنين وفد البحرين مع طائفة أخرى من الوفود.
وكانَ الفاروقُ رِضوانُ اللهِ عليه شَديدَ الحِرصِ على أَن يَسمَعَ كلامَ الوافدين عليه؛ لَعَلَّه يَجِدُ فيما يقولونه مَوعِظةً بالِغَةً، أو فِكرَة نافِعةً، أو نصيحةً للهِ ولِكتابِهِ ولِعامةِ المسلمين. فَنَدبَ عَدداً من الحاضرين لِلكَلام فَلَم يقولوا شَيئاً ذا بالٍ. فالتَفَتَ إلى رَجُلٍ تَوَسم فيه الخيرَ، وأَومأ إليهِ وقالَ: هاتِ ما عِندكَ.
فَحَمِدَ الرَّجُلُ اللهَ وأثنى عليهِ ثم قال: إنكَ يا أميرَ المُؤمِنينَ ما ولِّيتَ أمرَ هذه الأمةِ إلا ابتِلاءً مِنَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ ابتلاكَ به. فاتِّقِ الله فيما وُليتَ، واعلَم أنَّهُ لَو ضَلَّت شاةٌ بِشاطِئِ الفُراتِ لَسئِلتَ عَنها يَومَ القِيامَةِ.
فَأجهَشَ عُمَرُ بالبُكاءِ وقال: ما صدقني أحَدٌ مُنذُ استُخلِفتُ كما صدقتني، فمن أنتَ؟! فقال: الرَّبيعُ بنُ زيادٍ الحارِثيُّ. فقال: أخو المهاجِرِ بنِ زيادٍ؟ فقال: نعم. فلما انفَضَّ المَجلِسُ دَعَا عُمَرُ بنُ الخطّابِ أَبَا مُوسى الأَشعَرِيَّ وقال: تَحَرَّ أمر الرَّبيعِ بنِ زيادٍ، فإن يَكُ صادِقاً فإنَّ فيه خَيراً كثيراً وعَوناً لنا على هذا الأمرِ. واستَعمِلهُ واكْتُبْ لي بِخَبَرِه. ثم لَم يَمضِ على ذلك اليومِ غَيرُ قليلٍ حتى أعدَّ أبو مُوسى الأشعرِيُّ جَيشاً لِفتحِ «مناذر» مِن أَرضِ الأهوَازِ بِناءً على أمرِ الخَليفةِ، وجَعَلَ في الجيشِ الربيعَ بنَ زيادٍ وأخاهُ المهاجِرَ.
حاصَر أبو موسى الأشعريُّ «مناذر» وخَاضَ مَعَ أهلِهَا مَعَارِكَ طاحِنَةً قَلَما شَهِدَت لها الحُرُوبُ نَظِيراً.
فقد أبدَى المشرِكونَ مِن شِدَّةِ البأسِ وقُوَّةِ الشَّكِيمةِ ما لَم يَخطُر على بالٍ، وكَثُرَ القَتلُ في المسلمين كَثرَةً فاقَت كُلَّ تَقديرٍ. فلما رأى « المهاجِرُ « أخو الرَّبيعِ بنِ زياد أَنَّ القَتلَ قَد كَثُرَ في صُفوفِ المسلِمينَ عَزَمَ على أن يبيع نَفسَهُ ابتِغاءَ مَرضَاةِ الله، فَتَحَنَّطَ (الحنوط: نوع من الطيب يوضع على جسد الميت) وتكفّنَ وَأَوصَى أخاه... فَمَضَى الرَّبيعُ إلى أبي مُوسى وقال: إنَّ المهاجِر قَد أَزمَعَ أن يَبيع نَفسَهُ وهُوَ صائِمٌ، والمسلِمُونَ قَدِ اجتَمَعَ عَلَيهِم مِن وَطأَةِ الحَربِ وشِدَّةِ الصَّومِ ما أوهَنَ عَزَائِمهُمُ، وَهُم يَأبَونَ الإفطَارَ فَافعَل ما تَرَى. فَوَقَفَ أبو موسى الأشعَريُّ، ونَادى الجَيشِ: يا مَعشَرَ المسلمين، عَزَمتُ (أقسمت) على كُلَّ صائِمٍ أن يُفطِر أو يَكُفَّ عَنِ القِتالِ، وشَرِبَ من إبريقٍ كان معهُ لِيَشربَ النَّاسُ بِشُربِهِ.
فَلَما سَمِعَ المهاجِرُ مَقالَتَهُ جَرَعَ جُرعَةً من الماءِ وقال: والله ما شَرِبتُها من عَطَشٍ ولكنني أَبَررتُ عَزمَةَ أَمِيرِي، ثُمَّ امتَشَقَ حُسامَهُ وَطَفِقَ يَشُقُّ به الصفُوف، ويُجندِلُ الرِّجالَ غَيرَ وَجلٍ ولا هَيابٍ. فَلما أَوغَلَ في جيشِ الأعدَاءِ أَطبقوا عَلَيهِ مِن كُلِّ جانِبٍ، وَتَعَاوَرَتهُ (تداولته) سُيُوفُهُم من أمامِه ومن خَلفِه حَتى خَرَّ صريعاً... ثم إنَّهم احتَزُّوا رَأسَهُ ونُصبوهُ على شُرفَةٍ مُطِلَّةٍ على ساحةِ القِتالِ. فَنظَرَ إليهِ الرَّبيع وقال طُوبَى لك وَحُسنُ مآب... واللهِ لأَنتقِمَنَّ لك ولِقَتلى المُسلمينَ إن شَاءَ اللهُ. فَلما رَأى أبو موسى ما نَزل بالربيعِ منَ الجَزَعِ على أخيهِ، وأَدركَ ما ثَارَ مِنَ الحَفِيظَةِ في صَدرِهِ على أعدَاءِ اللهِ، تَخَلَّى لَهُ عن قِيادَةِ الجيشِ، ومَضَى إلى «السُّوسِ» لفتحِها.
هَبَّ الرَّبيعُ وجُندُه على المشركينَ هُبُوبَ الإعصارِ، وانْصبُّوا على مَعَاقلهِمُ انصِبابَ الصُّخورِ إذا حطَّها السَّيلُ؛ فمزَّقُوا صُفوفهُم وأَوهنُوا بَأسَهم فَفَتحَ الله «مَنَاذِرَ» للرَّبيعِ بنِ زيادٍ عَنوَةً... فَقَتلَ المقاتلةَ، وسَبَى الذُّرِّيةَ، وغَنِمَ ما شاءَ اللهُ أن يَغنمَ.
لمعَ نجمُ الربيعِ بن زيادٍ بعد معركةِ «مناذرَ» وذاع اسُمه على كلِّ لسان، وأصبح أحدَ القادةِ المَرموقين الذين يُرجَّون لجلائِلِ الأعمال. فلما عزَمَ المسلمون على فتحِ «سِجِستَانَ» عهدوا إليه بقيادةِ الجيش وأمَّلوا على يديه النَّصر.
مَضى الرَّبيعُ بن زيادٍ بِجيشهِ الغازِي في سبيلِ الله إلى سِجِستانَ عَبرَ مَفازَةٍ طُولُها خَمسَةٌ وسَبعُونَ فَرسَخاً، تَعيا عَن قطعِها الوحوشُ الكاسِرةُ من بناتِ الصَّحراءِ. فكان أوَّل ما عَرضَ لهُ «رُستاقُ زالِقَ» وهي مدينة كبيرة حصينة على حُدُود سجستان، وهو رُستاقٌ عامرٌ بالقُصورِ الفخمةِ مَحوطٌ بالحُصونِ الشامخةِ وافرُ الخيراتِ كثيرُ الثِّمارِ. بثَّ القائدُ الأرِيبُ عُيُونَهُ في « رستاق زالق « قَبل أن يَصِلَ إليه، فَعلِم أنَّ القومَ سيحتفلونَ قريباً بمِهرجانٍ لهم، فتربَّصَ بِهم حتى بَغَتَهُمْ في ليلةِ المِهرجانِ على حِينِ غِرَّة، وأعمَلَ في رقابِهمُ السَّيفَ وأخذَهَم عنوةً. فَسبَى مِنهم عشرين ألفاً، ووقَعَ دُهقَانُهُم (كلمة فارسية معناها رئيس الإقليم) في يَدِهِ أسِيراً. وكان بينَ السَّبيِ مملوكٌ للدُّهقان، فوجدَوهُ قد جَمعَ ثلاثَمائةِ ألفٍ ليَحمِلها إلى سَيدهِ، فقال له الربيع: مِن أينَ هذهِ الأموالُ؟! فقال: مِن إحدَى قُرى مَولاي. فقال له: وهَل تُعطيهِ قريةٌ واحدةٌ مِثل هذا المَالِ كلَّ سَنةٍ؟! قال: نعم. فقال: وكيف؟! قال: بفُؤُوسِنَا، ومَنَاجِلنَا، وعَرقِنَا. ولمَّا وضَعتِ المَعركةُ أَوزَارهَا تَقدَّمَ الدُّهْقانُ إلى الرَّبيع يعرِضُ عَليهِ افتِداءَ نَفسِهِ وأهلهِ. فقال له: أفديَكَ إذا أجزَلتَ لِلمسلِمينَ الفِدية. فقال: وكمْ تَبغِي؟ فقال: أَرْكُزُ هذا الرُّمحَ في الأرضِ ثُم تَصبُّ عليهِ الذهَبَ والفضَّةَ حتى تَغمُره غَمراً. فقال: رَضيتُ، واستخرَج ما في كُنُوزهِ من الأصْفرِ والأبيَضِ وطَفِقَ يَصُبها على الرُّمحِ حتى غَطاه.
تَوغَّلَ الربيعُ بن زيادٍ بجيشهِ المنتصرِ في أرضِ سجستَانَ، فَطفَقت تَتَساقطُ الحُصونُ تحتَ سَنَابِكِ خَيلهِ كما تَتَساقطُ أوراقُ الشَّجرِ تحتَ عصفِ رياحِ الخريفِ. وهبَّ أهلُ المدُن والقُرى يستقِبلونَهُ مُستَأمِنِينَ خاضِعِينَ قبلَ أن يُشهرَ في وجُوههمُ السَّيفَ حتى بَلغَ مدينة «زَرَنجَ» عاصمة سجستان. فإذا بِالعدو قد أَعَدَّ لِحربهِ العُدَّةَ، وَكَتبَ (أعد قطع الجيش ونظمها ونسقها) لِلقائهِ الكتائِبَ، واستَقدمَ لمُواجهتِهِ النَّجداتِ، وعَقد العَزمَ على أن يَذُودَهُ (يدفعه) عن المدينة الكبيرةِ، وأن يوقف زَحفَه على سِجِستانَ مهما كان الثمن غالياً. ثم دارتْ بينَ الربيع وأعدائِهِ رحَى حربٍ طحونٍ لم يَضِنَّ عليها أيِّ من الفريقين بما تَطلبته من الضحايا. فلما بَدرَت أولُ بادِرةٍ من بوادِرِ النصرِ للمسلمين رأى مرزبان (رئيس القوم وهي كلمة فارسية) القومِ المدُعو «بَرويز» أن يسعَى لمصالحةِ الربيع، وهو ما تزال فيه بَقيَّةٌ من قُوةٍ، لعلَّه يحظى لنفسِه ولقومه بشروطٍ أفضلَ. فبعث إلى الربيع بن زيادٍ رسولاً من عنِده يسأله أن يَضربَ له موعداً للقائه ليفاوضَه على الصُّلحِ فأجابه إلى طلبِه.
أمَرَ الربيع رجالَه أن يُعدُّوا المكانَ لاستقبالِ «برويزُ» وطلب منهم أن يكدِّسوا حَولَ المجلسِ أكوِاماً من جُثثِ قتلى الفُرسِ، وأن يطرَحوا على جانبي الطريق الذي سيمر به «برويز» جُثثاً أُخرى منثورةً في غيرِ نظامٍ.
وكان الربيعُ طَويلَ القامةِ، عظيمَ الهامةِ، شديدَ السُّمرةِ، ضخمِ الجُثَّةِ، يبعثُ الروع في نفسِ من يرَاهُ. فَلمَّا دَخلَ عليه «برويز» ارتَعدتْ فرائِصُهُ جَزعَاً منهُ، وانخَلعَ فُؤادُهُ هَلعاً من مَنظر القَتلى، فَلم يَجرُؤ على الدُّنوِّ وخافَ فلم يَتقدم لمُصافحتِهِ. وكلمَهُ بلِسانٍ مُتلجِلجٍ مُلتاثٍ، وصَالحَهُ على أن يُقدمَ لهُ ألفَ وَصيفٍ (غلام) وعلى رأسِ كُلِّ وصيفٍ جامٌ (كأس) من الذهب، فَقَبلَ الربيعُ وصَالحَ «برويز» على ذلك. وفي اليومِ التالي دخلَ الربيعُ بن زيادٍ المدينَةَ يَحُفُّ بهِ هذا الموكبُ من الوُصفَاءِ بين تَهليلِ المسلمين وتكبيِرهم، فكان يوماً مَشهوداً من أيَّام الله.
ظلَّ الربيعُ بنُ زيادٍ سيفاً مُصلتاً في يدِ المسلمينَ يَصُولون به على أعداءِ الله؛ ففَتحَ لهُمُ المدُنَ، وولي لهم الوِلايَاتِ حتى آل الأمرُ إلى بني أُميةَ فَوَلاهُ معاويةُ بنُ أبي سُفيان خراسَانَ. بيد أنَّه لم يكن مُنشَرح الصدرِ لهذه الولاية. وقد زادَه انقِباضاً منها وكُرهاً لها أنَّ زياد بن أبيه أحَدَ كبارِ وُلاة بني أمية بعث إليه كتاباً فيه: «إن أميرَ المؤمنين معاويةَ بنَ أبي سفيان يأمرك أن تَستَبقِيَ الأصفَرَ والأبيضَ (كناية عن الذهب والفضة) من غنائمِ الحرب لبيتِ مالِ المسلمين، وتقسم ما سِوى ذلك بين المجاهدين». فكتب إليه يقول: «إني وَجدتُ كتابَ الله عَزَّ وجلَّ يَأمُرُ بغير ما أمرتني على لسان أمير المؤمنين». ثم نادى في النَّاسِ: أن اغدوا على غنائِمِكم فخذوها. ثم أرسلَ الخُمُسَ (القرآن الكريم يجعل خمس غنائم الحرب لبيت مال المسلمين والأخماس الأربعة الباقية تقسم على المقاتلين) إلى دارِ الخلافةِ في دمشق.
ولما كان يومُ الجمعةِ الذي تلا وصولَ هذا الكتابِ، خرجَ الربيعُ بنُ زيادٍ إلى الصلاة في ثيابٍ بيضٍ، وخَطبَ النَّاسَ خطبةَ الجمعةِ، ثم قال: أيُّها الناسُ إني قد مَلَلْتُ الحياةَ، وإني داعٍ بدعوةٍ، فأمِّنوا على دعائي.
ثُم قال: اللًّهُمَّ إن كُنتَ تريدُ بي خيراً فاقبِضني إلَيكَ عاجِلاً غير آجلٍ. فأمَّنَ النَّاسُ على دُعائِهِ. فلم تغِب شمسُ ذلك اليومِ حتى لحق الربيعُ بنُ زيادٍ بجوار رَبِّه.

النموذج الأردوغاني أمل بالخلاص أم بارقة أمل مزيفة!

النموذج الأردوغاني أمل بالخلاص أم بارقة أمل مزيفة!

مجلة الوعي: السنة التاسعة والعشرون العدد 334 ذو القعدة1435هـ، أيلول 2014م
احتفل كثير من العرب والمسلمين بفوز أردوغان برئاسة تركيا، وهو إحساس تلقائي ينم عن مشاعر صادقة من قبل هؤلاء تجاه قضايا الأمة وحرقتهم على مُصاب المسلمين. ويرجع هذا في جله إلى وحشية ممارسات وسياسات شياطين الإنس من حكام العرب بحقها، ما جعل أية مقارنة بهم لصالح أردوغان قطعاً، لا سيما أن شعوب أمتنا تشعر بحال من اليتم، تحتاج معه إلى من يحنو عليها. لذلك، فإنه كلما برقت بارقة أمل ظنت أن القدر يبتسم لها وأنها على موعد مع الخلاص. وكأن خياراتها تنحصر في أن يحكمها طاغية يشردها ويجوعها ويضطهدها ويذيقها الأمرين أو أن يحكمها سياسي وصولي انتهازي يمثل عليها ويستغلها في معاركه الانتخابية وصراعاته مع خصومه على السلطة.
إن المتابع لظاهرة أردوغان بعمق يجد أنها ليست نموذجا أخلاقيا يحتذى، فهو سياسي براغماتي همه الأول حيازة السلطة والمحافظة عليها، وغاية نموذجه ترسيخ النظام العلماني بمسحة مشاعر دينية، بل وتعميمه على المنطقة إن أمكن، بدليل ذهابه إلى مصر غداة تحررها من حكم مبارك «مبشراً» أهلها بأن العلمانية هي الحل، وأنه يجب عليهم أن لا يعادوها أو يخافوها. كما عقد لقاءات وصفقات واتفاقيات مع إيران التي دعمت الأسد وشاركته اقتراف أبشع الجرائم بحق أهل الشام، بعد أن غرر بهم بوعود عرقوبية (إبان انطلاق ثورتهم)، وذلك بتعهده بعدم سماح تركيا للنظام السوري بارتكاب مجازر بحقهم مرة أخرى بعد جرائم الأسد الأب في الثمانينات، ثم خذلهم بكل بساطة وتركهم للنظام يذبحهم ويعتقلهم ويشردهم. كما كان يفترض به خلال 4 سنوات من معاناة الأهالي أن يقدم للمدافعين عنهم صواريخ (ولو عدداً قليلاً منها) مضادة لطائرات الأسد التي حولت ببراميلها المتفجرة مدن سوريا خراباً، عوضاً عن ذلك باعهم شتائم لبشار وذرف لهم الدموع، ونصب لهم مخيمات اللجوء والتشريد (التي يتباهى بها)، غافلاً أن ما قدمه لهم لا يصل إلى مستوى أقل دول الاتحاد الأوروبي (التي يسعى بكل قوة للانضمام لها). ناهيك عن موقفه من غزة، فهو يسكب الدموع على أطفالها ولا ينسى شتم حكومة الإجرام (الإٍسرائيلية)، فيما العلاقات الدبلوماسية مع (إسرائيل) كاملة، بل ويُباح لـ(الإسرائيليين) الدخول إلى تركيا من غير داعٍ لأي تأشيرة مسبقة فيما تفرض على أهل فلسطين اليتيمة. فيما تتفاعل دول أميركا اللاتينية مع غزة بحس إنساني رفيع مع أنها في أقصى الدنيا مقارنة بتركيا الجارة المسلمة التي يرأسها أردوغان. إن غزة بحاجة من تركيا أكثر بكثير من دموع أردوغان وتصريحاته، التي يتخللها بين الفينة والأخرى محاولات ذميمة لدفع عملية بيع فلسطين باسم التسوية الأممية التي تقودها أميركا والتي ترسخ كيان يهود فيها.
كما لا بد من التذكير بموقفه إبان ثورة الناس على طاغية ليبيا، حيث سارع أردوغان إلى ممالأته وإلى تهدئتهم والدعوة إلى إجراء تسوية مع القذافي خشية على استثمارات الشركات التركية في ليبيا! غير عابئ بليبيا ولا بمعاناة أهلها ولا بطغيان القذافي ووحشيته ودمويته. فأين الإٍسلام من كل هذا وغيره، بل أين أردوغان من الحكم بالإسلام وتحكيمه وجعله أساساً للنظام السياسي والاجتماعي والتعليمي والاقتصادي والأخلاقي للدولة والمجتمع والأفراد والأمة!؟ ما يؤكد أن هم أردوغان الحقيقي منصب على ما يخدم أجندته الخاصة، وعلى ما يرسخ علمانية الدولة أكثر ويجعل تجربته «الناجحة اقتصادياً» ذريعة لتعميمها بين المسلمين، كأنهم أمة عابرة أو شاردة ليس عندهم رسول ولا رسالة تحدد لهم طريقة عيشهم ونظام حكمهم!.

بعد كل جرائمه، الشيطان الأميركي يقدم نفسه في ثوب ملاك مخلِّص!

بعد كل جرائمه، الشيطان الأميركي يقدم نفسه في ثوب ملاك مخلِّص!

مجلة الوعي: السنة التاسعة والعشرون العدد 334 ذو القعدة1435هـ، أيلول 2014م
ذاكرة الناس في بلادنا ليست قصيرة، إنما همومهم كثيرة، وأحمالهم ثقيلة، وخيباتهم متكررة، وهذا هو الذي تعول عليه أميركا لفرض حلولها الاستسلامية عليهم ولطي صفحات سجلها الإجرامي وتبييض صفحات تاريخها الأسود بحق الإسلام والمسلمين.
لقد كانت أميركا وما زالت الداعم الأول لـ(إسرائيل) وشريكة كاملة في كل جرائمها، كذلك فإنها هي التي تركت النظام السوري يبطش بالناس من غير رقيب ولا حسيب بتواطؤ مفضوح مع روسيا والصين لمنع أهل الشام من الخروج على هيمنتها ونفوذها، كما أنها هي من دمر أفغانستان وحول العراق إلى كيان مسخ بعد أن احتلته 8 سنوات بذرائع باطلة، فشردت الملايين من أهله في الداخل والخارج، وقتلت مئات الآلاف، ودمرت بنيته التحتية والفوقية، وقضت على كيان الدولة فيه، واستبدلته بنظام سياسي هجين شاذ تفوح منه روح الطائفية المقيتة والقومية النتنة، مع دستور يرسخ الكراهية والانقسام (دستور الأقاليم الاتحادية!)، صانعة بذلك بيئة خصبة لصراعات متنوعة وحروب مستديمة.
وعندما فشلت في اعتماد العراق كنقطة ارتكاز لمشروعها الجهنمي في بناء شرق أوسط جديد سحبت جيوشها منه (2011م)، مع إبقاء هيمنتها الاستخباراتية والأمنية والسياسية عليه.
لقد أفسحت أميركا المجال منذ بدء احتلالها الغاشم للعراق إلى يومنا هذا بإجراء عمليات تصفية وتطهير عرقي وطائفي واسع النطاق في كافة أنحائه، فضلاً عن ممارستها أبشع أساليب القتل والتعذيب الذي فضح زيف حضارتها وديمقراطيتها المزعومة.
وبعد أن اشتعل الصراع في الشام، وتمدد في العراق، وكثر الهرج والمرج والعبث الدموي وعمت الفوضى المدمرة التي غضت أميركا الطرف عنها طويلاً، عادت من جديد بأسراب طائراتها وأسلحتها المدمرة تقصف من تريد لتشكيل الخارطة السياسية في العراق وسوريا بذريعة حماية الأقليات الدينية، بل واستصدرت قراراً من مجلس الأمن بسرعة البرق يبرر تدخلها! لكن لماذا تسمح أميركا بحصول هذا، ولماذا تظهر تردداً وسلبية بل و «عدم مبالاة» ثم تتدخل بشكل حاسم ومباشر لضبط الأوضاع وتحجيم قوى بعينها فيما تدعم أخرى!؟
إنّ أميركا دولة براغماتية، ولها مصالح استراتيجية في المنطقة، ولن تتخلى عنها إلا مرغمة؛ لهذا فإنّ سماحها بحدوث كل تلك الفوضى أمر مقصود، تهدف منه إلى خلق بيئة تجعل تدخلها ضرورة وحلها مقبولاً؛ فتعيد بذلك صياغة الأوضاع بحسب مصالحها، مقدمةً نفسها بوجه «إنساني» يحرص على إنقاذ المنطقة من «التطرف والإرهاب» الذي تمثله «دولة البغدادي»، التي يتم تقديمها للرأي العام العالمي على أنها دولة ظلامية، تريد استئصال الأقليات، وتقمع وتفجر وتسفك الدماء بلا رحمة، مع تشويه كل ما تمثله من نظام سياسي باسم الخلافة، وتشويه تحكيم الشريعة باسم تطبيق الإسلام، وتشويه فكرة توحيد البلاد باسم كسر حدود الاستعمار بصورة مروعة يصاحبها سفك الدماء واستثارة العداء بين مختلف شعوب الأمة الإسلامية الواحدة!