Saturday, October 31, 2020

جواب سؤال: قاعدة "أهون الشرَّين أو أخف الضررين

 جواب سؤال: قاعدة "أهون الشرَّين أو أخف الضررين

 

سلسلة أجوبة العالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشتة أمير حزب التحرير على أسئلة رواد صفحته على الفيسبوك "فقهي"

جواب سؤال: قاعدة "أهون الشرَّين أو أخف الضررين"
إلى Walid Elmi
السؤال:
السلام عليكم شيخنا، لي سؤال يتعلق بقاعدتي "أخف الضررين" أو "أهون الشرين" التي يتذرع بها العديد من الدعاة والحركات الإسلامية للمشاركة في الانتخابات التشريعية والرئاسية. هل هما من القواعد الشرعية؟ وهل قال بها بعض الفقهاء؟ وما هي أدلتهم وما هو الرد عليها؟ بارك الله بك.

الجواب:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته،
بالنسبة لهذه القاعدة فقد أجبنا عليها في 2010/8/29، وأنقل لك ما جاء في جوابنا المشار إليه:
[القاعدة "أهون الشرَّين أو أخف الضررين".
هذه قاعدة شرعية عند عدد من الفقهاء، وهي عند العلماء الذين يأخذون بها، ترجع إلى معنى واحد، وهو جواز الإقدام على أحد الفعلين المحرّمين، وهو الفعل الأقل حرمة منهما إذا كان المكلَّف لا يسعه إلا القيام بأحد الحرامين، ولا يمكنه أن يترك الاثنين معاً؛ لأن ذلك متعذر أي خارج عن الوسع من كل وجه.
قال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾، وقال سبحانه: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾.
أي أن هذه القاعدة عند الذين قالوا بها لا تطبق إلا إذا تعذر الكف عن الحرامين، بحيث لا يمكن الانتهاء عن الحرامين معاً إلا بحدوث حرام أكبر، فعندها يؤخذ بأخف الضررين. كما أن هؤلاء العلماء لا يجعلون تعيين أخف الضررين وفق الهوى بل وفق الأحكام الشرعية، فحفظ نفسين أولى من حفظ نفسٍ واحدة والثلاثة أولى وهكذا، وحفظ النفس مقدم على حفظ المال، وحفظ دار الإسلام داخل في حفظ الدين وهو أَوْلى من حفظ النفس والمال، وكذلك الجهاد والإمامة العظمى فهما داخلان في حفظ الدين من أوَّل وأَوْلى الضرورات. قال العالم الشاطبي في الموافقات: "إن النفوس محترمة محفوظة ومطلوبة الإحياء بحيث إذا دار الأمر بين إحيائها وإتلاف المال عليها، أو إتلافها وإحياء المال، كان إحياؤها أَوْلى...".
ومن الأمثلة التي ذكرها هؤلاء العلماء تطبيقاً للقاعدة:
1- إذا تعسَّرت ولادة الأم ووقع العجز عن إنقاذ الأم والجنين معاً، واحتاج الأمر إلى قرار سريع: إما إنقاذ الأم وهذا يقتضي موت الجنين، وإما إنقاذ الجنين وهذا يقتضي موت الأم. وإذا تُرك الأمر ولم يُعمل على موت أحدهما لإنقاذ الآخر، أو إحياء أحدهما بموت الآخر، فقد يؤدي إلى موت الاثنين. ففي مثل هذه الحالة يُقال بأهون الشرين، أو أقل الحرامين، أو أخف المفسدتين، وهو أن يقدم على الفعل الذي ينقذ المطلوب إنقاذه وهو الأم، ولو كان هذا الفعل نفسه قتلاً للآخر.
2- أن يتعرض شخص للهلاك غرقاً أو قتلاً من قِبَلِ شخص آخر، أو للإصابة بأذىً بليغٍ في بدنه وأعضائه، أو أن يُعتدى على امرأة بالزنا، بحضور مكلَّف يستطيع منع هذه المنكرات وعليه صلاة مفروضة قد يفوت وقتها، فإما أن يمنع ذلك الحرام فيفوته أداء الواجب، وإما أن يؤدي الواجب في وقته فيقع ذلك الحرام، والوقت لا يتسع لفعل الأمرين معاً. فهنا يأتي تطبيق القاعدة، وتكون الموازنة أيضاً من قِبَلِ الشرع الذي جعل رفع تلك المحرمات المذكورة آكد من أداء الواجب المذكور، ولو أمكن فعل الواجبين معاً لوجبا.
3- وهذه أمثلة أخرى ذكرها الإمامان الغزالي وعز الدين بن عبد السلام، رحمهما الله، يظهر فيها كيفية إعمال قاعدة أهون الشرين عندهما، ويظهر فيها أيضاً موازنات بين الأحكام. قال العز في كتابه قواعد الأحكام في مصالح الأنام: "إذا اجتمعت المفاسد المحضة فإن أمكن درؤها درأنا، وإن تعذر درء الجميع درأنا الأفسد فالأفسد، والأرذل فالأرذل..." ثم ذكر أمثلة فقال: "أن يُكرَهَ على قتل مسلم بحيث لو امتنع منه قُتِلَ، فيلزمه أن يدرأ مفسدة القتل بالصبر على القتل؛ لأن صبره على القتل أقل مفسدة من إقدامه عليه..."، فهذا مثال واضح في أنه اختيار لأخف المفسدتين أو الحرامين لأنه لا فكاك له من أحدهما، ولو أمكنه منع المفسدتين لوجب عليه ذلك.
وقال في مثال آخر: "وكذلك لو أكره بالقتل على شهادة زور أو على حكم بباطل، فإن كان المكره على الشهادة به أو الحكم به قتلاً، أو قطع عضو، أو إحلال بضع محرم، لم تجز الشهادة ولا الحكم؛ لأن الاستسلام للقتل أولى من التسبب إلى قتل مسلم بغير ذنب، أو قطع عضو بغير جرم، أو إتيان بضع محرَّمٍ..."، أي إذا كان إما أن يقتل أو يشهد شهادة زور على آخر تؤدي إلى قتله أو قطع عضوٍ منه، أو الاعتداء على عرضه، فلا يجوز له أن يشهد بل يصبر على القتل، لأن الاستسلام لقتله أولى من قتل مسلم آخر...
أي أن الوضع الذي يُلجأ فيه إلى العمل بأخف الحرامين أو المفسدتين هو وضع العجز عن تجنب الحرامين جميعاً أو منعهما جميعاً.
هذه أمثلة على تطبيق قاعدة أخف الضررين وفق ما ذكره العلماء الذي يأخذون بها، ولكن ليس من أمثلتها ما يسوِّقه مشايخ السلاطين، أو الذين يريدون للمسلمين أن يميلوا عن الأحكام الشرعية بالتضليل والأباطيل.
إن الذين يستعملون القاعدة لفعل هذا الحرام دون ذلك الحرام مبررين فعلتهم بأنهم خافوا أن يسجنوا أو يطردوا من وظيفتهم فهذا ليس من هذه القاعدة.
وكذلك فإن الذين يقولون نشترك في حكم الكفر مع أنه حرام، حتى لا نترك مناصب الحكم كلها للفسقة، لأن ترك الحكم لهم حرام أكبر... فهذا ليس من تطبيقات القاعدة، بل هو كمن يقول نفتح خمارة ونكسب مادياً منها بدل أن يفتحها الكافر ويكسب هو المال...
وليس من تطبيقات القاعدة أن يعرض على الشخص أمران محرمان فيأتي أخفَّهما وهو قادر عن الامتناع عن كليهما كقول من يقول انتخبوا فلاناً وإن كان علمانياً كافراً أو فاسقاً، أو أيدوا فلاناً ولا تؤيدوا الآخر؛ لأن الأول يساعدنا والثاني لا يساعدنا، أو ما شاكل ذلك، وإنما الذي يقال هنا: إن الأمرين المعروضين أمامنا محرَّمان، فلا يجوز انتخاب العلماني ولا يجوز توكيله أو إنابته لتمثيل المسلم في الرأي، لأنه لا يلتزم بالإسلام، ولأنه يقوم بأعمال محرَّمة لا يجوز للموكِّل أن يقوم بها كالتشريع والمصادقة على مشاريع محرَّمة، وكالمطالبة بالمحرمات والقبول بها والسير فيها، وبالجملة فهو ينهى عن المعروف ويأمر بالمنكر؛ ولذلك فلا يجوز انتخاب أي منهما؛ لأن انتخاب هذا أو ذاك حرام. وترك انتخاب هذا أو انتخاب ذاك داخل في الوسع.
وليس من تطبيقات "أخف الضررين" أن يواجه المسلم فعلين مُحرَّمين وفي مقدوره الامتناع عن كليهما فيعمد لاختيار أخفهما وفق هواه فيفعله زاعماً أن في الانتهاء عن الحرامين صعوبة...! بل يجب الانتهاء عن جميع المحرمات ما دام ذلك مقدوراً عليه وفق الأحكام الشرعية.
هذه صورة موجزة عن "أخف الضررين" أو "أهون الشرين"] انتهى.
أخوكم عطاء بن خليل أبو الرشتة
10 ربيع الأول 1442هـ
الموافق 2020/10/27م

Thursday, October 22, 2020

جواب سؤال: الأحداث في قرغيزستان

 جواب سؤال: الأحداث في قرغيزستان

 

السؤال: (... في وقت سابق "من اليوم" الجمعة، وافق البرلمان القرغيزي على استقالة الرئيس سورنباي جينبيكوف، وألغى حالة الطوارئ، المعلنة منذ أسبوع في العاصمة بيشكيك... يني شفق عربي، 2020/10/16م). وكانت العاصمة القرغيزية قد شهدت احتجاجات عنيفة وسيطر المحتجون على مقار حكومية مطالبين بتنحية الرئيس سورنباي جينبيكوف الموالي لروسيا، وقد تحقق لهم ذلك... فما حقيقة ما يجري في قرغيزستان؟ وهل النفوذ الروسي قيد الإخراج من هذا البلد الإسلامي؟ وهل من دور لأمريكا في هذا الصراع؟ وجزاك الله خيراً.

الجواب: حتى يتضح الجواب وتنكشف حقيقة ما يجري في قرغيزستان لا بد من بيان ما يلي:

أولاً: الوضع العام في قرغيزيا:

1- قرغيزيا أو قرغيزستان هي إحدى البلدان الإسلامية في آسيا الوسطى وتتصل حدودها اليوم بالصين من جهة تركستان الشرقية بالإضافة إلى بلدان آسيا الوسطى الإسلامية الأخرى كازاخستان وأوزبيكستان وطاجيكستان... وقد خضعت قرغيزستان للاحتلال الروسي القيصري منذ سنة 1876م، وقد قامت فيها ثورات عدة ضد الاحتلال الروسي إلا أن روسيا تمكنت من إجهاضها، ثم أصبحت جمهورية داخل الاتحاد السوفييتي، أي أنها كانت تحكم مباشرة من موسكو منذ سنة 1876م وحتى سنة 1991م عندما تفكك الاتحاد السوفييتي وأعلنت قرغيزستان استقلالها، لكن الطبقة السياسية فيها قد تشربت الولاء لروسيا مع اللبن، فكان لروسيا فيها بعد استقلالها نفوذ كبير...

2- حكم قرغيزستان منذ استقلالها قادة الحزب الشيوعي فيها بعد أن غيروا أقنعتهم وأسسوا أحزاباً بمسميات متعددة، وهؤلاء كانوا يأتمرون بأوامر موسكو مباشرة، إلا أن فترة ضعف روسيا إبان التسعينات وانكفاءها على نفسها قد جعلت لأمريكا بعض السبيل على هؤلاء السياسيين، وأثناء اندفاعة المحافظين الجدد إبان حقبة جورج بوش الصغير وإعلان أمريكا الحرب على الإسلام وتدشينها للحروب الأمريكية على أفغانستان والعراق تمكنت أمريكا من النفاذ إلى آسيا الوسطى وأخذت تنسج العلاقات مع حكامها والقوى السياسية فيها، وفي إطار ذلك أنشأت قاعدة مناس العسكرية بالقرب من العاصمة بشكيك لمساعدة الجيش الأمريكي في حربه ضد أفغانستان...

3- لقد تزامن غرق أمريكا في المستنقع العراقي بين 2003 و2009 مع عودة بعض الحيوية للحكم في روسيا بعد أن تسلم فلاديمير بوتين مقاليد الحكم في موسكو، فاضطرت أمريكا سنة 2014 لتفكيك قاعدتها العسكرية "مناس" بالقرب من بشكيك، وفي المقابل عززت روسيا قاعدتها العسكرية في قرغيزستان التي كانت أنشأتها سنة 2003. وفي عام 2015 ألغت قرغيزستان اتفاقيتها مع أمريكا، (أمر رئيس الوزراء القرغيزي، تمير سارييف، حكومته بإلغاء الاتفاقية الثنائية المبرمة في عام 1993 مع الولايات المتحدة. وقالت الحكومة في بيان إن الاتفاقية لن تكون سارية اعتباراً من 20 آب/أغسطس المقبل. الجزيرة نت، 2015/7/22م)، وبذلك فإن روسيا تكون قد نجحت في إخراج نفوذ أمريكا تماماً من قرغيزستان. وكانت روسيا قد ضمت قرغيزستان لمعاهدة الأمن الجماعي التي أسستها على أنقاض الاتحاد السوفييتي منذ تأسيسها سنة 1992م، واستمرت قرغيزستان عضواً فيها حتى في الفترات التي كان يتخللها نفوذ لأمريكا في بشكيك، وضمتها كذلك إلى الاتحاد الاقتصادي الأوراسي منذ تأسيسه تقريباً سنة 2014م.

4- من الناحية المحلية فإن الطبقة السياسية في قرغيزستان كما في معظم البلدان التي استقلت نتيجة تفكك الاتحاد السوفييتي تتميز بشدة الفساد، فالتنافس على الحكم فيها سرعان ما يتحول إلى صراع شديد من أجل أن يرتع المتنافسون في خيرات الأمة، وتغيب مع ذلك أي مفاهيم رعوية، الأمر الذي يترك الشعب هائماً لا راعي له، ولأن عمق الفساد كبير فقد ثار الشعب في قرغيزستان سنة 2005م على الرئيس أكاييف الذي حكمه منذ الاستقلال فهرب إلى روسيا، وثار سنة 2010م على الرئيس باكييف في موجة غضب عارمة تخللتها أعمال عنف راح ضحيتها العشرات وانتهت بانقلاب قوات الأمن ضد الرئيس الذي هرب إلى جنوب البلاد، ومنها غادر بعد ذلك إلى كازاخستان، وتم تنصيب أتانبايفا رئيسةً مؤقتةً للبلاد...

5- ومع أن روسيا كانت تؤجج الأوضاع ضد الإسلام والمسلمين في آسيا الوسطى، وأدواتها في ذلك كانوا الحكام الذين ترعرعوا في الحقبة السوفييتية إلا أن الفكر الإسلامي عاد لينتشر من جديد في قرغيزستان قبيل استقلالها وبعد ذلك، وكان حزب التحرير ينشط بقوة داعياً للحكم بالإسلام وإقامة الخلافة الإسلامية، وكان نشاطه لافتاً لا سيما في المناطق الجنوبية التي تعتبر جغرافياً جزءاً من وادي فرغانة، هذا على الرغم من أن السلطات في قرغيزستان وبتوجيه من روسيا الحاقدة على الإسلام مثلها مثل طاغية أوزبيكستان وباقي بلدان آسيا الوسطى قد واجهت نشاط الحزب بقمع شديد، ومع ذلك فما زال الإسلام في قرغيزستان ذا تأثير لافت للنظر في كثير من المناطق رغم الهجمة الشديدة عليه من روسيا وأتباعها.

ثانياً: الاضطرابات الأخيرة التي تشهدها العاصمة بشكيك:

1- إن الرئيس سورنباي جينبيكوف الذي يحكم البلاد منذ سنة 2017م قد خطط للحصول على أغلبية في الانتخابات البرلمانية الأخيرة تمكنه من تعديل الدستور فيتسنى له الترشح مرة أخرى بعد انتهاء مدته الدستورية، إذ إن الدستور ينص على ولاية رئاسية واحدة فقط مدتها ست سنوات، لذلك تم الإعلان عن فوز ساحق للأحزاب الموالية والمقربة من الرئيس في انتخابات البرلمان 2020/10/4م فتمكنت أربعة أحزاب فقط من أصل 16 حزباً من تجاوز العتبة البرلمانية (7% من الأصوات)، أي أن البرلمان الجديد (120 عضواً) كان يفترض وفق خطة جينبيكوف أن تشكله الأحزاب الموالية والمقربة منه، (وأعلنت لجنة الانتخابات المركزية في قرغيزستان، أن 4 من 16 حزبا سياسيا مشاركا في الانتخابات، نجحت في دخول البرلمان الجديد المكون من 120 مقعدا، ليخرج أنصار الأحزاب الـ 12 غير الممثلة بالبرلمان في تظاهرات اعتراضاً على النتائج. ديلي صباح التركية، 2020/10/6م)، هذه الخطة التي هضمت الحقوق السياسية للأحزاب الأخرى التي لم تنجح، (وأصدرت الأحزاب الـ12 الخاسرة إعلاناً مشتركاً قالت فيه إنها لا تعترف بنتائج الانتخابات... TRT عربي، 2020/10/6م).

2- وهكذا تدفق أنصار الأحزاب السياسية الرافضة لنتائج الانتخابات منذ ساعات الصباح الأولى إلى ميدان "آلاتو" وفي محيط مقر رئاسة الوزراء، ثم أخذت هذه الجموع الغاضبة بالهجوم والاستيلاء على المقار الحكومية، وفعلاً استولت على مبنى البرلمان واستولت على الديوان الرئاسي، كما اقتحمت بعض الجموع سجوناً وأطلقت سراح معتقلين محددين، فتم الهجوم على مقر لجنة الأمن القومي بالعاصمة بشكيك وتم إطلاق سراح الرئيس السابق أتامبايف الذي كان يقبع بزنزانة فيها لقضاء حكم 11 سنة بتهم الفساد، وتم إطلاق سراح صدر جباروف والذي سارعت المحكمة إلى تبرئته من تهمة احتجاز رهائن عام 2013م، تلك التهمة التي كان يقبع في السجن لأجلها، وبموازاة العاصمة فقد انطلقت مسيرات شعبية عارمة في مراكز الأقاليم منددة بالحكومة ومطالبة الرئيس بالتنحي، وفي مناطق الجنوب التي ينحدر الرئيس منها انطلقت بعض المسيرات المؤيدة له لكنها لم تكن على مستوى تلك المطالبة بتنحيته.

3- لقد كانت موجة الاحتجاجات كاسحة لدرجة أرهبت الدولة، فقدم رئيس الوزراء ورئيس البرلمان استقالاتهما وكذلك فعل رؤساء بعض الأقاليم، واختفى الرئيس جينبيكوف واختفت معه الأجهزة الأمنية من الشارع وأصبح الرئيس يصدر تصريحاته من مكان خفي عبر الإنترنت، وأعلن بأنه طلب من الأجهزة الأمنية عدم التعرض للمحتجين، واتهم المعارضة بالانقلاب والاستيلاء على السلطة، وأعلن أنه مستعد للحل الوسط، وطالب لجنة الانتخابات المركزية بالتحقيق في المخالفات وإلغاء النتائج إذا تطلب الأمر، في مؤشر على شدة وقوة الاحتجاجات ضده، (ودعا جينبيكوف الأطراف السياسية إلى التحلي بالصبر، مخاطبا الشباب: "أنتم أظهرتم أن قيمة قرغيزستان أكبر من الصراع على الحكم، وذلك بالعمل لا بالكلام، هدفنا هو ضمان السلام والنظام في بلدنا، أنا واثق أننا سنخرج من هذه الأزمة بالجهود المشتركة". وأضاف: "أتقدم بالشكر للشباب الذي لم ينفك عن القيام بمسؤولياته في البلاد". AR Haberler.com 2020/10/7م)

4- ثم أعلنت اللجنة المركزية للانتخابات إلغاء نتيجة الانتخابات، وقامت أحزاب معارضة بتشكيل مجلس التنسيق لقوى المعارضة والذي قام بتعيين صدر جباروف رئيساً جديداً للوزراء خلال جلسة طارئة للبرلمان عقدت في فندق بالعاصمة بشكيك، وهو الذي قامت المعارضة بتحريره من السجن، (وعيّنت سادير جباروف رئيسا جديدا للحكومة بعد تصويت خلال جلسة طارئة، بدلا من رئيس الحكومة السابق كوباتبيك بورونوف الذي قدّم استقالته، وأضافت أن البرلمان الحالي سيستمر في العمل حتى انتخاب برلمان جديد. آر تي، 2020/10/7م) ... (واليوم الأربعاء، حضر أكثر من 80 نائباً من بين 120، جلسة استثنائية للبرلمان صوّت خلالها بالموافقة على تعيين جباروف في المنصب مع حكومته المقترحة. ثم وقّع جينبيكوف على مرسوم يؤكد تعيين جباروف رئيساً للوزراء إلى جانب حكومته، بحسب بيان للرئاسة... الميادين، 2020/10/14م).

5- ("... وفي وقت سابق "من اليوم" الجمعة، وافق البرلمان القرغيزي على استقالة الرئيس سورنباي جينبيكوف، وألغى حالة الطوارئ، المعلنة منذ أسبوع في العاصمة بيشكك. وشارك في الجلسة، التي تم خلالها الموافقة بالإجماع على استقالة الرئيس وإلغاء الطوارئ، كل من جينبيكوف، ورئيس الوزراء صادر جباروف، إلى جانب رئيس البرلمان كانات عيساييف. وقبل التصويت، ألقى جينبيكوف كلمته الأخيرة أمام أعضاء البرلمان، وذكر فيها أن تنازله عن منصبه جاء في سبيل ضمان السلام بالبلاد ومنع انقسام المجتمع... يني شفق عربي، 2020/10/16م)... وهكذا فقد (عزز رئيس وزراء قرغيزيا، صادير جباروف من سلطته، بعدما نقلت إليه صلاحيات رئيس البلاد بعد استقالة الرئيس سورنباي جينبيكوف، "التي قدمها" أمس، ووعد بالحفاظ على السياسة الخارجية للبلاد. وقال جباروف أمام البرلمان، اليوم الجمعة: "أحمد الله أن تغيير السلطة كان سلميا... سأبذل قصارى جهدي للحفاظ على السياسة الخارجية وغيرها من الاتجاهات المهمة"... سبوتنيك، 2020/10/16م).

ثالثاً: النفوذ الروسي في قرغيزستان:

1- يعتبر النفوذ الروسي في قرغيزستان قوياً ومتشعباً وقد بنت روسيا في قرغيزستان قاعدة عسكرية في تلك الفترة التي كانت فيها أمريكا تبني قاعدتها العسكرية، لذلك فإن النفوذ الروسي لم يغب عن قرغيزستان حتى في الفترة التي كانت أمريكا تستطيع فيها إدخال بعض نفوذها إليها، فقد بنت روسيا قاعدة عسكرية سنة 2003 (تم افتتاح قاعدة كانط الجوية الروسية في قرغيزستان في تشرين الأول/أكتوبر 2003، كعنصر للطيران في قوات النشر السريع الجماعية التابعة لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي. وتتمثل مهامها الرئيسية في الغطاء الجوي للعمليات الأرضية لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي. وهي مجهزة بطائرات "سو-25إس إم" ومروحيات "مي-8إم تي في"... آر تي، 2019/3/28م) وفي هذا اليوم نفسه، الخميس، وقعت موسكو وبشكيك خلال زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للعاصمة القرغيزية، بروتوكولا يُدخل تعديلات على الاتفاق بين البلدين بشأن القاعدة العسكرية الروسية في قرغيزستان. وقال مساعد الرئيس الروسي يوري أوشاكوف: ("لقد تم التوقيع على عدد من الاتفاقات، من بينها توقيع وثيقة تُعدل اتفاق عام 2012 بشأن وضع وشروط مرابطة القاعدة العسكرية الروسية في قرغيزستان"... من جانبه، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين "إن القاعدة العسكرية الروسية في قرغيزستان تعد عاملا هاما للأمن والاستقرار في آسيا الوسطى وتساهم في القدرة الدفاعية لقرغيزستان". وتضم هذه القاعدة طائرات هجومية من طراز "سوخوي-25" ومروحيات من طراز "مي-8"... جريدة الدستور، 2019/03/28م)... وهكذا فقد كان رئيس قرغيزستان جينبيكوف على ولاء تام لروسيا وينسق معها في معاهدة الأمن الجماعي ويطاوعها في كل ما تريده كتطوير القاعدة العسكرية.

2- ولكن روسيا تتخوف بشدة من أن تمسك بعض الأحزاب المعارضة التي لها اتصالات مع أمريكا بزمام الحكم في بشكيك فتكسر انفراد روسيا بالنفوذ فيها، وعلى الرغم من أن روسيا تقيم علاقات مع معظم أحزاب المعارضة في قرغيزستان لضمان عدم عدائها لروسيا وأن بعض هذه الأحزاب على ولاء لروسيا وليست خارجة عن دائرة نفوذها إلا أن روسيا تراقب هذا الصراع على الحكم محاولةً منع تدخل القوى الخارجية فيه وممسكة بزمام أجهزة الأمن التي يمكن أن تتدخل في اللحظات الحرجة، (قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اليوم الأربعاء، إن موسكو على اتصال بكل أطراف الصراع وتأمل في عودة العملية الديمقراطية قريبا، الجزيرة نت، 2020/10/7م)... والذي يزيد من خشية روسيا هو أن القوى الموالية لها تنشب بينها صراعات شديدة أحياناً كما يشاهد ذلك على فترات وخاصة مؤخراً بعد محاولة الرئيس سورنباي جينبيكوف الذي يحكم البلاد منذ سنة 2017م التلاعب في نتيجة الانتخابات ليتسنى له الترشح مرة أخرى بعد انتهاء مدته الدستورية، ومن ثم يحدث اضطراب وخاصة إذا انكشف التلاعب في الانتخابات ما يجعل إمكانية استغلاله من أتباع أمريكا، حتى وإن كانوا قلة نسبياً، يحرج روسيا...

3- والموقف الروسي في الأصل هو ضد الاحتجاجات على الرؤساء الموالين لها، هذا هو موقف روسيا في الأصل إلا إذا اضطرت خلافه حفاظاً على مصالحها، فهي لا تسمح بخروج الوضع عن سيطرتها، (اعتبر الكرملين اليوم أن هذا البلد يشهد حالة من الفوضى. وقال المتحدث باسم الرئاسة الروسية ديميتري بيسكوف إن روسيا لديها التزامات بمنع انهيار الوضع كليا في قرغيزستان. الجزيرة نت، 2020/10/8م). وروسيا التي تمسك بالأجهزة الأمنية في قرغيزستان لا تسمح للأحزاب التي لها اتصالات مع أمريكا وأشياعها بتصدر المشهد في بشكيك، وقد كانت تمسك بعصا الرئيس جينبيكوف الذي يلوح بالاستقالة دون أن يستقيل حتى تقرر روسيا ذلك بناء على مصالحها، ولهذا أرسلت روسيا نائب رئيس الإدارة الرئاسية في الكرملين ديمتري كوزاك، هذا الأسبوع، لإجراء محادثات مع جينبيكوف وجباروف، ودراسة الأمور عن كثب... (وقالت السفارة الروسية، أمس الثلاثاء: إن "الدور الأساسي لرئيس الدولة" في ضمان التنمية المستقبلية لقرغيزستان تم التأكيد عليه خلال زيارة كوزاك... الميادين، 2020/10/14م)، وكل ذلك لتتخذ ما يلزم من إجراءات... ومع ذلك فمن المستبعد أن تتدخل روسيا عسكرياً بشكل مباشر فهي ترى أن أتباعها قادرون على الإمساك بزمام الأمور في قرغيزستان، وأن قوات الأمن في قبضتها ورهن إشارتها إذا أرادت تغيير رئيس بآخر من أتباعها خاصة أن كثيراً من القوى السياسية من أتباعها!

4- والآن وقد زادت الاحتجاجات، فقد رأت روسيا "لتهدئة الأوضاع" أن يوافق رئيس قرغيزستان على تعيين صدر جباروف رئيساً للوزراء، بعد تصويت البرلمان لصالح إعادته إلى السلطة في 2020/10/14م، وذلك بعد خروجه مؤخراً من السجن على أيدي أنصاره، حيث كان يقضي عقوبة لأكثر من 11 عاماً... (واليوم الأربعاء، حضر أكثر من 80 نائباً من بين 120، جلسة استثنائية للبرلمان صوّت خلالها بالموافقة على تعيين جباروف في المنصب مع حكومته المقترحة. ثم وقّع جينبيكوف على مرسوم يؤكد تعيين جباروف رئيساً للوزراء إلى جانب حكومته، بحسب بيان للرئاسة... الميادين، 2020/10/14م).

5- ("... وفي وقت سابق "من اليوم" الجمعة، وافق البرلمان القرغيزي على استقالة الرئيس سورنباي جينبيكوف، وألغى حالة الطوارئ، المعلنة منذ أسبوع في العاصمة بيشكك. وشارك في الجلسة، التي تم خلالها الموافقة بالإجماع على استقالة الرئيس وإلغاء الطوارئ، كل من جينبيكوف، ورئيس الوزراء صادر جباروف، إلى جانب رئيس البرلمان كانات عيساييف. وقبل التصويت، ألقى جينبيكوف كلمته الأخيرة أمام أعضاء البرلمان، وذكر فيها أن تنازله عن منصبه جاء في سبيل ضمان السلام بالبلاد ومنع انقسام المجتمع... يني شفق عربي: 2020/10/16م)... وهكذا (عزز رئيس وزراء قرغيزيا، صادير جباروف من سلطته، بعدما نقلت إليه صلاحيات رئيس البلاد بعد استقالة الرئيس سورنباي جينبيكوف، "التي قدمها" أمس، ووعد بالحفاظ على السياسة الخارجية للبلاد. وقال جباروف أمام البرلمان، اليوم الجمعة: "أحمد الله أن تغيير السلطة كان سلميا... سأبذل قصارى جهدي للحفاظ على السياسة الخارجية وغيرها من الاتجاهات المهمة"... سبوتنيك، 2020/10/16م).

رابعاً: الدور الأمريكي:

1- وأما أمريكا فكان موقفها واضحاً باستغلال ما حدث في الانتخابات لإحراج روسيا والسلطة القرغيزية، فقد (حضت الولايات المتحدة كل الأطراف في قرغيزستان على ضبط النفس وإيجاد حلّ سلمي، مبدية قلقها حيال ممارسات شابت الانتخابات وأدت إلى احتجاجات كبرى. وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية لوكالة الصحافة الفرنسية "ندعو كل الأطراف إلى نبذ العنف وحل النزاع القائم حول الانتخابات بالوسائل السلمية". وأشارت الخارجية الأمريكية إلى أن بعثة مراقبة مدعومة من منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، "خلصت إلى معلومات ذات صدقية عن عمليات شراء أصوات شابت الانتخابات". الجزيرة نت، 2020/10/7م). وهذا يعني أن الظروف الجديدة التي تعيشها قرغيزستان والتي تتسم بالغموض السياسي توفر لأمريكا الأجواء المناسبة للنفاذ إلى هذا البلد، وهي لا شك تملك اتصالات ببعض أطراف المعارضة، وقد اتهمت مطلع هذا العام بإنفاق 60 مليون دولار "كاش" لدعم مرشحين للبرلمان وجمعيات ليكون لأتباعها بعض النفوذ بالإضافة إلى أموال أخرى تنفقها مؤسسة جورج سورس بغرض زعزعة الاستقرار في بلد يطغى عليه النفوذ الروسي، وكل تلك الأموال كانت تنفق بدون علم حكومة جينبيكوف بحسب موقع شركة الوقت، 2020/1/10م.

2- إن لأمريكا أتباعاً في المعارضة القرغيزية، ولكنهم قلة غير مؤثرة في القضاء على النفوذ الروسي في قرغيزستان حتى اليوم، ولكنهم ينشطون لاستغلال أي تنافر بين أتباع روسيا المتنافسين على الحكم، وكادوا ينجحون لولا أن روسيا أمرت جينبيكوف بالاستقالة لتهدئة الأوضاع ومن ثم فروسيا تعمل على تعيين غيره من رجالاتها بعد انتخابات تجرى تحت سمعها وبصرها!

خامساً: والخلاصة هي:

1- إن الصراع على الحكم في قرغيزستان هو صراع محلي بالدرجة الأولى ويرجع إلى عدم نضوج عقلية الحكم لدى المتصدرين للمشهد السياسي في هذا البلد المسلم، وبسبب ذلك تنشب النزاعات والصراعات والتي يكون جوهرها عرقياً أو مناطقياً أو عشائرياً، وأحزاب المعارضة وكذلك الموالاة وإن تسمت بأسماء عمومية إلا أن الخبراء يميزون ميولها بحيث لا تخرج عن الجوهر العرقي أو المناطقي أو العشائري، وهذا الصراع وبهذه الحالة فإنه لا يقصد منه إخراج نفوذ روسيا الكبير من هذه الجمهورية الصغيرة، وإنما تخشى روسيا من اتصالات أمريكا ببعض أطراف المعارضة في ظل حالة الفوضى التي نشأت عقب الإعلان عن نتائج الانتخابات البرلمانية، وتخشى من أن يصبح لأمريكا موطئ قدم من جديد بعد أن بذلت روسيا وسعها لإخراج أمريكا من قرغيزستان، فيعود لها نفوذ تستطيع به العمل ضد روسيا في قرغيزستان وما حولها.

2- وسيبقى هذا هو حال المسلمين في قرغيزستان وغيرها، حيث يحكمهم حكام سوء ينقلون الأمة من قاع إلى قاع لا تهمهم إلا مصالحهم الشخصية، فينظرون للحكم على أنه مغنم، ولا يمتلكون أي نظرة رعوية تجاه الأمة التي تنصبهم أو تسكت على تنصيب الكافر المستعمر لهم، وسيبقى الحال كذلك حتى تهب الأمة وتهب الفئة الأقوى فيها فتطرد هؤلاء الحكام وتخلع جذور الكافر المستعمر من بلاد المسلمين، وتبني دولتها، دولة الخلافة، على أساس دينها، وتنصب حاكماً يحكمها بما أنزل الله يكون لها معيناً على الحياة الكريمة ومعيناً إلى الجنة بإذن الله. ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾.

الأول من ربيع الأول 1442هـ

2020/10/18م

Wednesday, October 21, 2020

لجوء لبنان إلى صندوق النقد الدولي مزيد من الانتحار، ومعالجة للداء بالتي كانت هي الداء

 لجوء لبنان إلى صندوق النقد الدولي مزيد من الانتحار، ومعالجة للداء بالتي كانت هي الداء

 

مجلة الوعي: العدد 409 - السنة الخامسة والثلاثون، صفر الخير 1442هـ الموافق تشرين الأول 2020م

1-أزمة لبنان المالية والاقتصادية ولجوئه الخاطئ إلى صندوق النقد الدولي

يعاني لبنان من أزمة مالية واقتصادية جعلته على شفير الإفلاس، ومن عجز عن إيفاء فوائد ديونه التي قاربت المئة مليار دولار، ويسعى أهل الحكم فيه متذلِّلين للحصول على قرض من صندوق النقد الدولي، هذا ولا تكاد تجد معترضًا على ذلك من الاقتصاديين والخبراء المتخصصين اللبنانيين من خارج الحكم، وهذا ما جعل فكرة قبول الاقتراض من صندوق النقد الدولي ، ومن قبل عقد الآمال على «مؤتمر سيدر» الدولي الذي انعقد في 6 نيسان/ أبريل العام الماضي في العاصمة الفرنسية باريس، كمحاولة استنهاض اقتصادية جديدة للبنان بعد مؤتمرات دولية متعددة أبرزها مؤتمري باريس 1 و 2 و3، رأيًا عامًا في لبنان، هو أنه سيكون فيه إنقاذ له. ومن المعلوم أنه لا يلجأ إلى الاستدانة من صندوق النقد الدولي وأمثاله من الصناديق المتَّهمة بأنها صناديق استعمارية إلا الدول ذات الوضع الاقتصادي والمالي الحرج جدًا، وهي تلجأ إليه للإنقاذ القريب الملحّ الذي لا يتحمل التأخير، وهو بلا شك لجوء خاطئ أثيم؛ إذ إنه متى يتم الاتفاق مع هذا الصندوق على الاقتراض فمعناه أن هناك اتفاقًا محكمًا وشروطًا ملزمة جائرة قد قامت بين هذا البلد وهذا الصندوق، وتأخذ صفة وجوب الالتزام بها بموجب القانون الدولي، وستبدأ بعدها رحلة عذاب البلد الـمَدين الـمُضنية إلى أن يسدد المال الذي عليه وبشروطهم التي تزداد قسوة كلما عجز عن الإيفاء بها، وهو أي لبنان سيعجز، وهذه الشروط ستزداد قسوة، وستصبح الفوائد مركبة، بل ومضاعفة التركيب… وإنه إذا كان على لبنان قبل أن يلجأ مؤخرًا إلى هذا الصندوق ديونًا تقارب المئة مليار دولار، فمن أين له القدرة على إيفاء الديون الجديدة بينما اقتصاده اقتصاد ريعي استهلاكي طفيلي؟!. وبدل أن يلجأ حكامه إلى معالجة وضعه بتحويل اقتصاده إلى اقتصاد حقيقي يعتمد على الإنتاج الزراعي والصناعي والتصدير، نرى أنهم قد لجؤوا إلى هذا الصندوق، فحكامه بهذا اللجوء سيجعلونه رهينَ حتفٍ له، وسيكون حاله كحال دول العالم الأخرى التي عانت من أزمات اقتصادية ولجأت إلى مثل هذه الصناديق الدولية، والتي صار حالها بعد اللجوء أسوأ بكثير مما كان قبله، ودول أوروبا الشرقية ودول أمريكا اللاتينية ودول أخرى أفريقية وآسيوية هي شواهد حية على ذلك، واللبيب من يتعظ بغيره؛ ولكن يظهر أنه لا يوجد في لبنان من حكامه لبيب.

2- صندوق النقد الدولي ذراع من أذرع دول الغرب الاستعمارية

إن صندوق النقد الدولي هو مؤسسة دولية مقرضة، ولديه موظفون متخصصون بالاقتصاد وخبراء دوليون، وهؤلاء يقومون بدراسة وضع البلد الذي يريد الاستدانة فيفهمونه ويعرفون مواطن الضعف والقوة فيه أكثر من أهل البلد نفسه. وهو يُظهر نفسه أنه في عملية الإقراض إنما يريد مصلحة الدول التي تنوي الاقتراض منه، وأنه يريد تصحيح وضعه المالي والاقتصادي، وهو من أجل تأمين رد القرض إليه يتبع تقنية معينة لا رحمة فيها لإيفاء الديون، وهذا التقنية بما تتضمنه من شروط مدروسة تساهم بإغراق البلد الـمَدين ببحر ديونه والعجز عن دفعها ما يؤدي إلى تضاعف المبلغ المستدان؛ ما يجعل الدول الـمَدينة تدفع له أضعاف دينهاإن اعتماد الصندوق على وصفة ثابتة موحّدة لا تتغير يقوم بفرضها على جميع الدول، رغم ما بينها من تفاوت وتباين شاسع في الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، جعل بروفسور الاقتصاد في جامعة كولومبيا جوزيف ستيغليتز يؤكد أنّ وصفات الصندوق ليس هدفها مصالح البلدان الـمـَدينة، وإلا ما كانت وصفة الصندوق ثابتة بهذا الشكل، لا تراعي خصوصيات كل دولة على حدة، ولتنوعت الوصفات وتعددت بتنوع وتعدد أوضاع تلك البلدان… نعم، إنه لو كانت مثل هذه الصناديق حريصة على استعادة أموالها، فلماذا لا تنصح البلد الـمَدين بإنشاء اقتصاد حقيقي قائم على الإنتاج وتساعده في ذلك لتضمن بذلك استعادة أموالها كما تدعي.

وعن ظروف إنشاء هذا الصندوق تحديدًا، والتي تبين خلفيته الاستعمارية وتبعيته للدول الغنية وعلى رأسها أمريكا، فقبل نهاية الحرب العالمية الثانية، سعت دول الغرب الكبرى إلى تأسيس نظام اقتصادي عالمي جديد تحقق من خلاله مصالحها الاستعمارية، وإيجاد أشكال ووسائل تحقق لها ذلك. فكان مؤتمر»بريتون وودز» عام 1944م، والذي خُصِّصَ لمناقشة قضايا النقد والمال في عالم ما بعد الحرب؛ وقد تم  فيه تثبيت نظام صرف العملات وربطها بعملة الدولار بدل الذهب. ولتحقيق غايات المؤتمر انبثقت عنه مؤسستان دوليتان، وهما: صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي للإنشاء والتعمير، وقد هيمنت عليه الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية منذ تأسيسه، وكانت الولايات المتحدة يومها تسيطر على ثلثي الاحتياطيات الذهبية في العالم، فحافظت هذه الدول على النسبة الكبرى من مدَّخرات الصندوق، ويرتبط نظام الصندوق والحقوق التصويتية للدول فيه بحسب حصتها في رأسمال الصندوق، وتسهم الولايات المتحدة بالنصيب الأكبر ما يمنحها القدرة الحاسمة على توجيه قرارات الصندوق وسياساته بما يجعل منه معبِّرًا عن مصالحها، ومكرِّسًا لهيمنتها وبسط نفوذها في العالم، وهذا ما دفع بدول أخرى إلى محاولة إيجاد بنوك وصناديق إقراض أخرى بديلة؛ حيث تم تأسيس صناديق وبنوك على مستوى القارات، كبنك التنمية الآسيوي والأفريقي بحثًا عن الفكاك من الهيمنة الأمريكية؛ لكن مثل هكذا بنوك وصناديق تبقى أدوات في أيدي من أنشأها لبسط الهيمنة والنفوذ ونهب خيرات الدول الأخرى؛ ومن هنا اتهمت مثل هذه الصناديق بأنها ذراع من أذرع الدول الاستعمارية.

3- شروط وتوصيات صندوق النقد الدولي في منح القروض هي واحدة وقاسية ومُهينة

 تقوم توصيات الصندوق بشكل أساسي على فرض خطط التقشف، وتدفع الدول الـمَدينة على التخلي عن مسؤولياتها الاجتماعية تجاه مواطنيها بما في ذلك رفع الدعم عن السلع الأساسية، كالخبز أو المواد الغذائية أو المحروقات أو الدواء التي أول ما تصيب الطبقة الفقيرة والمتوسطة، والتي تشكل غالبية المواطنين عادةوكذلك تقوم هذه التوصيات على فرض الضرائب والرسوم، إضافة إلى خفض إنفاق الدولة الـمَدينة على خدمات الصحة والتعليم، والرعاية بشكل عام، وكل ذلك بحجة دعم ميزانية الدولة، وبالتالي امتلاكها القدرة على إيفاء الدين. وهذا يؤثر بالدرجة الأولى على الفقراء بشكل لا يستطيعون تحمل عواقبه ما يؤدي إلى قيام احتجاجات شعبية تطالب بتغيير النظام لتقوم الدول المسيطرة على مثل هذه المؤسسات الربوية باستغلال هذه الاحتجاجات إن كان لها مصلحة في ذلك. وهذا ما حدث مثله في لبنان، فقد وقع لبنان في عجز عن إيفاء ديونه مع فوائدها، ووصل إلى حافة الإفلاس، وتفاقم الوضع المعيشي والخدماتي للناس على مختلف الصعد ما أدى إلى انفجار الوضع المعيشي وقيام ثورة شعبية تريد تغيير الطبقة السياسية الفاسدة كلها، تحت شعار (كلهم يعني كلهم). وهنا لا بد من ذكر أن هذا حدث ويحدث الآن في لبنان ولمــَّا يُتفق بعدُ مع صندوق النقد الدولي. وهذا الوضع الصعب غير المحتمل سيزداد صعوبة مع إبرام أي اتفاق مع هذا الصندوق. واللافت في الأمر أن الثورات عادة ما توجه اللوم إلى الحكام ولا توجهه أبدًا إلى من وراء الحكام من دول الغرب، ولا تنتبه إلى الدور الدولي الخطير لصندوق النقد الدولي الذي يقف وراءه دول الغرب، بل على العكس هناك من يرى أنه الجهة المخلِّصة

4- الآثار الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الخطيرة المترتبة على تنفيذ شروط وتوصيات الصندوق

أما الآثار الاقتصادية والاجتماعية، فإن وصفات الصندوق التي يفرضها على البلدان الـمَدينة لا يأخذ فيها أدنى اعتبار لتأثيرها السلبي على الجوانب الاجتماعية والأوضاع الاقتصادية قبل الانطلاق في تنفيذها، بل إنه يتعمد اتباع سياسة تهدد اقتصاد هذه البلدان بالانهيار؛ إذ يؤدي عجز الميزانية واختلال الصادرات والواردات إلى ارتفاع مستويات التضخم، وتراجع العملة المحلية، وازدياد معدلات البطالة، وانخفاض معدلات الأجور، وتراجع حجم الناتج المحلي الإجمالي ومعدلات النمو الاقتصادي، وينتهي كل ذلك إلى تدهور الأوضاع الاجتماعية، من انكماش الطبقة الوسطى مع نزول أفرادها إلى الطبقة الفقيرة، وتزداد نسب الفقر والفقر المدقع، وتصبح غالبية الناس تحت خط الفقر. وكل هذا نراه في لبنان بوضوح، وما نراه الآن هو مرشح للمزيد مع إبرام أي اتفاق مع الصندوق؛ حيث سيزيد الغلاء وتنقص قدرة الناس على تأمين حاجياتهم الأساسية المعيشية، هذا ولا يخفى ما لهذه الأوضاع من تداعيات اجتماعية خطيرة… ثم بعد أن تقع الدول الـمَدينة في حالة العجز عن دفع الديون وفوائدها، يفرض صندوق النقد على الحكومات برامج تحت مسمى «إعادة الهيكلة» والإصلاح الاقتصادي، ويفرض خصخصة مؤسسات القطاع العام، ويرفقها بتوجيهات برفع الحواجز الجمركية والتعريفات عن السلع القادمة من الدول الكبرى المهيمنة على الصندوق، ويهدف الصندوق من ذلك إلى فتح السوق المحلية أمام الشركات المسجّلة في الدول الكبرى بحيث يتحول السوق المحلي إلى سوق مستهلك لمنتجاتها، ومُسيطَر عليه من قبل هذه الشركات؛ وهذا ما يحولها إلى زبون دائم لها.

وأما الآثار السياسية لسياسات هذا الصندوق، فإن الاحتجاجات الشعبية التي تقوم ضد الحكام نتيجة الأوضاع الاقتصادية المتردية ونتيجة شروط وتوصيات مثل هذه الصناديق، ونتيجة فساد الطبقة الحاكمة، يجري العمل على تأطيرها من قبل الدول الكبرى المتنافسة دوليًا على المصالح فيما بينها ضمن ما يعرف بمنظمات المجتمع المدني، ومحاولة إدخالها في النسيج السياسي الجديد، وهذه المنظمات يقوم الغرب بدعمها وتأييدها بشكل علني صريح. وهذا مثل واضح وصريح عن الاستغلال السياسي للدول الكبرى لمثل هذه الأوضاع. وكذلك، فإنّ العجز الذي تقع فيه البلدان الـمَدينة يحمل انعكاسات سياسية تتمثل أحيانًا في طلب الدول الكبرى منها اتخاذ مواقف متفقة مع مواقفها، كما في حالات التصويت على قرارات الأمم المتحدة المختلف عليها، أو إقامة قواعد عسكرية على أراضيها، وبالتالي تصير تابعًا وحديقة خلفية للمستعمر الناهب. ولقد رأينا في الأزمة الاقتصادية التي يمر فيها لبنان تدخلًا أمريكيًا وفرنسيًا على رؤوس الأشهاد، ورأينا في هذا التدخل ترابطًا بين الوضع السياسي والوضع الاقتصادي. فمثلًا سمعنا كل من ماكرون ومساعد وزير الخارجية الأمريكية يصرح كل منهما أن البنك الدولي والمؤسسات الدولية لن تقدم إلى لبنان أية مساعدات ما لم يقم بإصلاحات سياسية. ورأينا كيف أن ماكرون يفرض على السياسيين شكل الحكومة التي يراد تشكيلها لإنقاذ البلد، ويهدد بالعقوبات عليهم إن هم خالفوا توصياته، كذلك نرى بأن هناك تعمدًا مقصودًا من أمريكا يتعلق بتأخير عملية استخراج النفط؛ حيث يربط استخراجه بالتوافق مع (إسرائيل) على أحواض بحرية معينة، وبالتالي ربطه بالصلح مع يهود عن طريق ما يسمى بـ»صفقة القرن»… التي تعتبرها أمريكا من ضمن صياغة الشرق الأوسط الجديد. فأمريكا تتعامل مع الملف اللبناني كحزمة واحدة يتعلق بمخططها العام المتعلق بصياغة المنطقة من جديد. والذي منه تحويل وجهة الصراع في المنطقة من (إسرائيل) إلى الصراع مع إيران.

5- سياسة إغراق الدول بالديون الخارجية الربوية سياسة غربية استعمارية بوجه جديد

أما لماذا يلجأ صندوق النقد الدولي هذا إلى مثل هذه السياسة في الإقراض والتي نراها واحدة في تعاقده مع كل دول العالم، ونرى أن نتائجها المدمرة واحدة؟ فكما قلنا سابقًا، إن هذه الصناديق تملكها وتتحكم في سياستها الدول الثرية الاستعمارية، وتتخذ منها وسيلة للهيمنة على اقتصادات الدول الـمَدينة والتحكم بأنظمتها السياسية والاجتماعية من دون حروب ولا احتلالات؛ لذلك هي متهمة عالميًا بتخريب اقتصادات دول العالم. فالديون الخارجية الربوية، والتي يعتبر صندوق النقد الدولي هو من أهم أذرعها الدائنة فيها، تعتبر من أساليب استعمار الغرب للدول والشعوب، وقدرت هذه الديون لدول العالم في العام 2018م بـ (7،8) تريليون دولار، وارتفعت ديون 20 دولة عربية في نهاية العام 2019م لتصل إلى أكثر من تريليون دولار، وللبنان بـ (79،3) مليار في 2018م. وهذه الديون تضع لبنان في مقدمة الدول الـمَدينة في العالم بالنسبة إلى عدد سكانه وإلى حجم الناتج المحلي.

6- سرقة الحكام لشعوبهم هي من أهم مسببات وجود مشكلة المديونية الخارجية

يعتبر الحكام العملاء والفاسدون من أهم مسببات وجود مشكلة المديونية الخارجية، فهم كونهم عملاء فإنهم يسيرون في كل سياساتهم بحسب إملاءات الدولة الكبرى التي تتحكم بهم، وبالتالي يسيرون في سياستها بإغراق دولهم بالديون الخارجية لمصلحتها، وكونهم فاسدون فإنهم يعمدون إلى النهب والاختلاس من المال العام وجمع ثروات تعادل ميزانيات دول، وصار الرأي العام أن الحكام لصوص، وأنهم تجار سياسة وتجار مال، لا يقرون من السياسات الاقتصادية إلا ما يوافق مصالحهم المالية، وأنهم يسيرون بحسب معادلة ثابتة وهي: ملء الخزينة من الناس، ومن ثم إفراغها في جيوب السياسيين

ثم أن هؤلاء الحكام الناهبين يقومون عادة بإيداع أموالهم المنهوبة خارج البلاد في بنوك الغرب الكافر، مستفيدين مما يعرف بالسرية المصرفية والحسابات المشفَّرة، معتبرين إياها ملاذات آمنة لهم متى ما أحسوا بتعكر الأجواء وثورة الناس عليهم. وتحتل البنوك السويسرية والأمريكية والبريطانية والفرنسية النصيب الأكبر من إيداع الأموال المهرَّبة من الدول العربية. ففي تقرير مطول لـ «دويتشه فيله» تناول ملف الأموال العربية المهربة للخارج، نقل عن الغرفة العربية السويسرية للتجارة والصناعة في جنيف تقديرها لحجم الأموال العربية المنهوبة والمخفيَّة في البنوك السويسرية بنحو 200 مليار دولار، فيما قُّدرت إجمالي المبالغ العربية المودعة في الخارج بصفة عامة بحوالى عدة تريليونات من الدولارات. التقرير استعرض أبرز الوجهات التي تحتضن الأموال العربية إلى جانب سويسرا، منها على سبيل المثال جزر البحر الكاريبي البريطانية وليشتنشتاين وولايات نيفادا وجنوب داكوتا ووايومنغ وديلاوير، لافتًا إلى أن قسمًا كبيرًا من هذه الأموال يعود إلى حكام ورجال أعمال فاسدين حصلوا على ثرواتهم بطرق غير مشروعة على مدار عقود طويلة مضت.

وهذا الوضع يجعل الناس يعيشون تحت مطرقة سرقة الحكام وسندان إيفاء الديون، ويجعل الغرب يتمتع بأمرين: أولها: الهيمنة على البلاد الأخرى ونهب خيراتها عبر النفاذ غير المشروط لشركاته وصناديقه الاستعمارية فيها، وثانيها: إيداع المال المنهوب من قبل الحكام في المصارف الأجنبية واستعمالها في الدورة الاقتصادية لبلدانهم، فهل بقي لأهل البلد شيء بعد تكالب الغرب والعملاء على نهب كل ثروة له، سواء أكانت فوق الأرض أم في باطنها؟.

هذا ما يجب أن يعيه الذين يثورون على حكامهم، فنظرتهم قاصرة إن هم لم ينتبهوا إلى أن النظام الربوي هو بحد ذاته نظام جائر يحاربه الله، ويجب أن تحاربه البشرية جميعها نظرًا لما يجلبه من زيادة إفقار للفقراء ووزيادة غنى وتسلط للأغنياء. ونظرتهم من يريد الإصلاح تكون قاصرة عندما لا ينتبهون ليد الغرب الوسخة الخفية التي تقف وراء هذا الظلم، ومن القصور أن يتهم الحكام فقط. وهنا نرى أن هناك أربعة جهات تستحق الإدانة في هذا المضمار، وهي: النظام الرأسمالي الاستعماري الذي يشرع الربا، وتابعه النظام الدستوري الذي يحكم البلاد الأخرى التي تشرع الربا، وحكام الغرب، ومن ثم توابعهم من الحكام العملاء من أهل المنطقة.

7- غياب المعالجات الحقيقية لمشكلة لبنان المالية والاقتصادية

بما أن مشكلة لبنان المالية والاقتصادية هي من ضمن المشكلة العالمية التي تقع فيها الدول الضعيفة فريسة للدول الغنية؛ فإن اللجوء إلى صندوق النقد الدولي، والاستعانة بالمؤسسات المالية الدولية كمؤسسة «ماكينزي» لإجراء الدراسات المالية لحل أزمة مديونيته ستزيدها غرقًا… ثم إن هذا الاقتراض لن يحقق شيئًا على سبيل التنمية في البلاد، بل سيقلِّل من أهمية الاعتماد على الذات كاستراتيجية تتبناها الدولة للوقوف على أقدامها. وعلى المسؤولين على مختلف انتماءاتهم السياسية أن يلجؤوا إلى معالجة وضعه بتحويله إلى اقتصاد حقيقي يعتمد على الإنتاج الزراعي والصناعي والتصدير؛ وذلك عن طريق إقامة خطط واستراتيجيات تضعها الدولة لدعم الإنتاج المحلي، وخاصة المواد الغذائية، وبدعم الفلاحين والمزارعين من أجل تيسير إنتاجهم، واستغلال مساحات واسعة من الأراضي الصالحة للزراعة، وتأمين الحاجة الداخلية للناس منها، والمساعدة في تأمين أسواق خارجية لها، ومنع استيراد مثلها من الخارج ومنافستها في الداخل، وتشجيع إنشاء صناعات منها يستفيد منها لبنان داخليًا وخارجيًا، ولا بد أن يعقب ذلك قيام حالة من الاستيراد والتصدير؛ وهذا ما من شأنه ان يوجد اقتصادًا حقيقيًا يغني عن مد اليد مذلولة إلى الخارج للاستقراض. ومما يذكر أن في لبنان أصحاب رؤوس أموال يملكون ثروات هائلة يمكن أن تسهم في إنشاء مثل هكذا اقتصاد.

وهناك أمر لا بد من لفت النظر إليه، وهو أن لبنان سيكون في المستقبل القريب دولة نفطية واعدة. وهو لاعتبارات سياسية لدى أمريكا تتعلق بفرض مخططها للمنطقة وإعادة صياغتها من جديد، تؤخر استخراج نفطه مع أن أزمته المالية مشتعلة في لبنان ومتفاقمة، وهي تسعى الآن عبر سياسة إغراقه بمزيد من المديونية أن تستنزف هذه الثروة النفطية متى تم استخراجها لمصلحتها لسنوات وسنوات عن طريق مفاقمة الديون وفوائدها، هذا بالإضافة إلى أنها تريد أن تحصل على الحصة الأكبر من حق امتياز استخراج النفط لشركاتها. وفي هذا المجال على أهل لبنان أن لا يطمئنوا أنهم في حال تحوُّل بلدهم إلى بلد نفطي أنهم سيغنَون وسينتهون من الديون، فها هي السعودية تتحول إلى دولة مدينة نتيجة إدخال الغرب لها في حروب المنطقة، ومنها الحرب في اليمن… 

العلاج الحقيقي لمشاكل لبنان المالية والاقتصادية:

في ظل النظام العالمي الحالي الذي تتحكم به أمريكا، فإنه يمكن إدراك الحلول الآنية والدائمة ولكن لا يمكن السير بها؛ لأن الغرب الذي أوجد هذه المشاكل يمنع حلها إلا على طريقته في الحل، فهو أوجد مشكلة الديون الخارجية الربوية، وأوجد المؤسسات الدولية المالية كصندوق النقد الدولي هذا ليمكنه من خلالها نهب خيرات الشعوب… وأوجد النزاعات السياسية في العالم، وأوجد المنظمات السياسية الدولية، كمنظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن لحل المنازعات لمصلحته عن طريقها… ومشكلة لبنان المالية والاقتصادية هي من ضمن هذا المخطط الجهنمي؛ وعليه لا يمكن أن تحل أوضاع لبنان المالية والاقتصادية إلا بوعي حكامه على ضرورة إقامة اقتصاد حقيقي فيه، ولكن هذا لا يرى وجود أي بصيص أمل فيه لسببين: أولهما أن حكامه فاسدون ومصرون على البقاء في الحكم، وثانيهما أن الجهة التي تعتبر نفسها بديلًا لهؤلاء الحكام لا تخرج في رؤيتها للحل عن رؤية أهل الحكم فيه، والإشكالية عندهم تقتصر فقط على تغيير طبقة الحكم الفاسدة، وليس على تغيير نظام الحكم الدستوري الفاسد، والانفكاك عن الغرب وسياساته الجائرة.

وعليه، لا حل حقيقيًا لمشكلة لبنان، ولغيره من الدول إلا بنظام دولي يعنى بالإنسان كإنسان، ولا يجعل المادة فوقه وقاهرته، نظام لا ربا فيه، نظام يوزع الثروة ولا يجعلها تتجمع بأيدي حفنة من البشر تتحكم بمصائر الشعوب وتذلها، نظام رباني من لدن إله عليم لطيف خبير لا نظام وضعيٍّ يستغل الناس ويستعبدهم، إنه بكل صراحة هو نظام دولة الخلافة الذي يقوم اقتصاده على اقتصاد حقيقي قائم على توزيع الثروات على الناس بحيث لا تتجمع في أيدي حفنة من الرأسماليين الجشعين الذين لا حد لطمعهم. وإن الغرب إذا كان قد قسم دول المسلمين وجعلها دولًا لا يقوم في كل منها على الغالب اقتصاد حقيقي؛ فإن دولة الخلافة ستعيد المسلمين إلى وحدتهم على كل صعيد، أراضي وشعوب وخيرات… وفي ظل هذه الوحدة سينعم المسلمون جميعهم بها. سينعمون بنعمة المياه والسدود فلا مشكلة ستنشأ بينهم نتيجة تقسيم بلاد المسلمين، وسينعم المسلمون وغير المسلمين التابعين لدولة الخلافة بالثروات الضخمة التابعة للملكيات العامة كأموال النفط والمناجم، وسينعمون بالاستقرار النقدي نتيجة قيام العملة على قاعدة الذهب، وسيمنع الربا والاحتكار وغيرها من الأمور التي تجعل المال يتجمع في أيدي القلة من الناس على حساب الآخرين… هذا النظام هو نظام الإسلام الذي لا يمكن أن يطبق إلا حين تحمله دولة مبدئية هي دولة الخلافة الراشدة الثانية الآتية قريبًا بإذن الله، والتي ستقلب جميع الموازين، وتؤسس لفترة مشرقة من تاريخ البشرية تعمُّها السعادة والرفاهية والطمأنينة،كما عاشتها سابقًا لأكثر من ثلاثة عشر قرنًا، كانت فيه الدولة الأولى في العالم، قال صلى الله عليه وسلم: «… ثم تكون خلافة على منهاج النبوة».

دين جديد برعاية إماراتية سعودية مصرية

 دين جديد برعاية إماراتية سعودية مصرية

 

مجلة الوعي: العدد 409 - السنة الخامسة والثلاثون، صفر الخير 1442هـ الموافق تشرين الأول 2020م

1 الدور الإماراتي في تحريف الدين

حامد عبد العزيز

   المعنى الصحيح للتجديد وما هي آلياته وضوابطه:

   إن تجديد الخطاب الديني لا يعني أبدًا تغييره أو تبديله كما يريد له المضبوعون بالغرب حملة لواء التغريب في بلادنا، وإنما يعني المحافظة عليه، فالمفترض في التجديد أن يكون عملية إصلاحية وليس تخريبية؛ وهو مطلب شرعي وواقع مقدر، وثمة آيات كثيرة تحث المسلمين على التمسك بالدين والعمل به، فضلًا عن أحاديث نبوية تشير إلى حاجتنا إلى التجديد والفهم والعمل. فالحفظ من غير فهم أو عمل لا يفيد المرء مهما علا علمه؛ لذا يحتاج المسلمون إلى تجديد خطابهم الديني ونشر علوم الدين لا سيما وأن العلم ينقص بموت العلماء؛ مما يوقع العامة في الجهل والضلال، وبالتالي يؤدي إلى المهلكات. ولتحقيق غاية تجديد الخطاب الديني يجب وضع ضوابط عملية تمنع التشكيك والدعاية والإشاعة بحيث يحقق ثوابت العقيدة الإسلامية، ومعرفة المعلوم من الدين بالضرورة.

ولعل من  أهم الضوابط و الآليات التي تحقق الغاية من تجديد الخطاب الديني هي:

1- مراعاة الاختصاص في الدعوة إلى التجديد، يقول الله تعالى:]وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ إِلَّا رِجَالٗا نُّوحِيٓ إِلَيۡهِمۡۖ فَسۡ‍َٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ٤٣[، فالتجديدُ مهمةُ الراسخين في العلم، وأهلُ الحل والعقد في الأمة، وليس متاحًا لمدَّعي العلم والمتطفِّلين عليه.

2- الموضوعية والتجرد من الأهواء، فالمجدِّدُ لابد أن يكون باحثًا عن الحقيقة ومتمسكًا بالحق بعيدًا عن المزاج والتقليد الأعمى.

3- الاعتصام بالأصول والثوابت الإسلامية.

4- الاعتراف بمحدودية العقل البشري وقصوره وتناقضه وتأثره بالبيئة المحيطة به؛ لأن العقل البشري مهما بلغ في درجات الكمال، فالنقصان من لوازمه. فالنصوص الشرعية من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم مقدمةٌ على العقل.

5- أن يكون القصد من التجديد تنقيته مما علق به وليس منه، وشرح أحكام الدين بطريقةٍ صحيحةٍ بناءً على الأسس والثوابت.

6- الالتزام بأساليب اللغة العربية وبأصول الفقه الإسلامي وقواعدها في تفسير النصوص الدينية وتأويلها.

7- عدم إصدار الحُكم على أمرٍ قبل التمحيص والتفحيص والدراسة المتأنية.

تحريف الدين باسم التجديد:

من يقرأ تاريخ الفقه الإسلامي يجد أن كثيرًا من القضايا الفقهية وأحكامها في كتب الفقه جاءت لعلاج بعض النوازل التي لم يكن لها وجود في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم. فكان المجتهد يبذل الوسع في استنباط الحكم الشرعي الذي يعالج تلك النوازل الجديدة من النصوص الشرعية؛ ولكن تغيَّرَ الحال عندما اختلطت الثقافة الإسلامية بمفاهيم غربية جديدة تنادي بضرورة مواءمة الثقافات حتى يعم التسامح بين الأديان من باب حوار الأديان والحضارات، وليس من باب الصراع والمواجهة. إضافة إلى أن بعض الفقهاء تساهلوا في المسائل التي سمَّوها حصرًا (ما عم به البلاء)، مما اضطر بعض المسلمين لأسباب غير موضوعية إلى الانجراف وراء الحضارة الغربية؛ فظهرت ثقافة الاستلاب الفكري والعقلي التي ما برحت أن أثرت في العقلية المسلمة؛ فنتج عن ذلك تيارات فكرية تنادي بالتغريب والعصرنة، الأمر الذي أدَّى أخيرًا إلى تفشي ثقافة التحريف والتبديل والتغيير ممثلة في الآتي:

1- تفريغ الإسلام من مضمونه، فلا نظامَ سياسيًا إسلاميًا له، ولا جهادَ فيه، ولا حدودَ شرعيةً مقبولةً في العصر الراهن، ولا أصول ثابتة للاستنباط، فالمصلحة العقلية هي الأساس، والتقرب للغرب الكافر هو الغاية.

2- الدعوة إلى التقريب بين الأديان وَفق الفلسفة الغربية، وتقديم شروح لبعض الأمور الغيبية من منظور العلم التجريبي فقط، بل الترويج لدين إنساني جديد.

3- رفع لواء التغريب: وهي حركة فكرية قامت على اتخاذ الغرب قدوة في كل مجالات الحياة المختلفة، وقد بدئ بالتغريب في أوائل القرن الرابع عشر الهجري.

4- الدعوة إلى العصرانية: والتي بدأت مع منتصف القرن الرابع عشر الهجري، وتدعو إلى قراءة جديدة للنصوص الشرعية، وإعادة تفسيرها وَفقًا لمنجزات العصرنة العلمية والفكرية. ومن الأساليب المتبعة في هذا، الادعاء بأن العبرة بالقيمة والمضمون لا بالشكل والقالب، فهم ينادون بالحرية المطلقة للمرأة والخروج من عفتها، وكذلك تجريد الإسلام من منظومته السياسية واعتباره دينًا كهنوتيًا كغيره من الأديان، واستحداث قواعد جديدة للفهم والاستنباط، والدعوة إلى التعددية الدينية وقبول الآخر، بمعنى عدم تكفير غير المسلم، وقد لاحظنا كيف أقام الإعلام المصري النكير على من يكفِّر النصارى. هذا إلى جانب اعتبار النموذج الغربي في ممارسة الديموقراطية أفضل نموذج يمكن اتِّباعه في العصر الراهن.

5- القبول بالعولمة: بعد انهيار المعسكر الشرقي، في نهاية ثمانينات القرن العشرين، انفردت أمريكا بقيادة العالم، وروَّجت لمصطلح العولمة؛ حيث أدخلت كل الشعوب في منظومتها الفكرية والثقافية والأخلاقية، وأوجبت عليهم قبوله والرضى به، وأوجبت أن يتم التجديد في إطاره.

6- فرض التجديد (التحريف) بالقوة: حيث لجأ الغرب إلى توفير الدعم السخي للمتعاونين معه من حكومات البلدان الموالية له، والدعوة إلى تجديد الخطاب الديني من خلال تطوير المناهج الدراسية وفق النظم الغربية، وتوجيه الخطب المنبرية والإعلامية حسب المصوغات الغربية، وإباحة الربا في البنوك والمصارف، والقبول بالمقررات الدولية المتعلقة بالمرأة، وبالشذوذ الجنسي، واعتبار حجاب المرأة مسألةَ حريةٍ شخصيةٍ، لا أمرًا شرعيًا، فالتقاليد والأعراف تحكم لباس المرأة وليس الشرع، وإلغاء حكم قوامة الرجل على المرأة. والهدف الرئيس من كل هذا يكمن في عزل الإسلام عن الحياة وتكريس العلمانية في بلاد المسلمين.

ولقد تلقفت أنظمة العار الثلاثة في بلادنا؛ الإمارات والسعودية ومصر، فكرة التجديد تلك حسب الفهم الغربي هذا، لتنفذها وتسهر عليها، وتسخر كل إمكاناتها المادية لتصل بالأمر إلى منتهاه، إرضاء للغرب الكافر وتكريسًا لهيمنته الفكرية والسياسية والعسكرية على بلاد المسلمين، وفي نفس الوقت ضمانًا لبقائها في سدة الحكم.

1- الدور الإماراتي في تحريف الدين:

عرفت الإمارات ظهور حركات الإسلام السياسي على أرضها حتى قبل توحُّدها، وكان ذلك عبر جمعية الإصلاح والتوجيه الاجتماعي التي أسسها طلبة إماراتيون عائدون من مصر.ولكن سرعان ما أدرك حكام الإمارات المتحدة، الذين أقاموا وحدتهم على تحالف معقد، خطورة ذلك على استمرار حكمهم، إلا أن دولتهم الناشئة لم تكن قادرة بعد على تحمُّل تكلفة صراع محتمل؛ فوجد الإسلاميون موطئ قدم لهم في الحكومتين الأولى والثانية، وعرفت أوْجَها عندما تمكَّن الإخوان المسلمون في الإمارات من المشاركة بوزير واحد في أول تشكيل حكومي عام 1971م؛ حيث جرى تعيين سعيد عبد الله سلمان، وهو من الإخوان المؤسسين لجمعية الإصلاح وزيرًا للإسكان. وفي عام 1977م، أصبح محمد عبد الرحمن البكر وزيرًا للعدل والشؤون الإسلامية والأوقاف، بترشيح من الشيخ راشد بن سعيد أيضًا، والبكر هو ثاني وزير من جمعية الإصلاح يتولى وزارة حكومية. وفي التشكيل الحكومي الثالث في يوليو 1979م، تولَّى سلمان وزارة التربية والتعليم ومنصب رئيس جامعة الإمارات بعد تأسيسها بسنتين. ومع التشكيل الوزاري اللاحق في يوليو 1983م، لم يجدَّد للوزيرين.

وقد بدأت الدولة باستهداف الجماعة شيئًا فشيئًا، حتى بروز رجل الإمارات الأوّل محمد بن زايد إلى الواجهة، الرجل الذي وصفه السفير البريطاني السابق في الإمارات السير جون جينكز بقوله: (إن ولي العهد الإماراتي محمد بن زايد قد يكون أكثر من يكره الإخوان المسلمين في العالم).

وفي مطلع العام 2011م، شنَّت السلطات الإماراتية حملة اعتقالات واسعة في صفوف المعارضين، أعقب ذلك صدور القانون الاتحادي رقم 2 لسنة 2015م، الذي يعطي الدولة الحق في حل الجمعيات واعتقال مؤسسيها وفق معايير فضفاضة تملك الحكومة لوحدها حقّ تأويلها، وامتدت حملات التّعسف لتشهد الإمارات 15 حالة سحب جنسية، أغلبهم من الإسلاميين حسب المرصد الدولي للعدالة وحقوق الإنسان.

في يوليو/تموز 2018م، قضت دائرة أمن الدولة بالمحكمة الاتحادية العليا بأبو ظبي في الإمارات بالسجن على 69 إسلاميًا آخرين بتهمة محاولة الإطاحة بالحكومة ومعاقبة جميع المتهمين حضوريًا وغيابيًا في قضية (الخلية الإخوانية)، المتهم فيها 30 مصريًا وإماراتيًا بأحكام سجن تراوحت بين 3 أشهر و5 سنوات، وبراءة متهم واحد من تهمتين، وتغريم 21 متهمًا مبلغ 3000 درهم، وإبعاد المحكومين المصريين في القضية بعد انقضاء فترة الحكم عن الإمارات، وحل جماعة الإخوان المسلمين في الدولة، وإغلاق كل مكاتبهم، إضافة إلى مصادرة الأدوات والأجهزة المضبوطة في أماكن عملهم ومنازلهم.

لم تكفَّ الإمارات عن اعتبار الإسلاميّين حجر عثرة أمام المشروع التّحديثي الذي يتبنّاه أبناء زايد، المشروع الذي حوّل دبي إلى عاصمة الخمور والاتِّجار بالبشر، صاحبة الحداثة الإسمنتيّة التي تجسدها ناطحات السّحاب العملاقة المليئة بالفجور والفسق، ولا يزال ذلك دافع تحركّات أبناء زايد الذين أخذوا على عاتقهم مهمة نشر الفكر العلماني. وليس أدل على ذلك من تصريح السّفير الإماراتي بواشنطن يوسف العتيبة في تعليقه على الحصار المفروض على دولة قطر حيث قال: «الخلاف مع قطر ليس ديبلوماسيًا بقدر ما هو خلاف فلسفي بشأن رؤية الإمارات والسّعودية والأردن ومصر والبحرين لمستقبل الشرق الأوسط» ليضيف: «إن رؤية الدول الثلاث لحكومات الشرق الأوسط بعد عشر سنوات هي حكومات علمانية».

حمّلت الإمارات التيارات الإسلامية مسؤولية التطرف والإرهاب في العالم، وعملت على محاربتها في كل مكان. ولم تكتفِ بذلك، بل تآمرت ضد المنظّمات الإسلامية العاملة في أوروبا وأمريكا، واتّهمت المساجد هناك بالتّرويج للإرهاب ورعاية خطابات التّحريض والكراهية؛ حيث قال وزير التّسامح الإماراتي الشّيخ نهيان مبارك آل نهيان: «إن إهمال مراقبة المساجد في أوروبا هو السّبب في الهجمات الإرهابية هناك» ودعا الدول الأوروبية إلى تشديد القوانين في منح الرُّخص لبناء مساجد، وطرد الكثير من الأئمّة، واقترح أن تصنع الإمارات أئمّة لإرسالهم للإشراف على المساجد في أوروبا، كما احتضنت الإمارات مؤسسات إسلامية مشبوهة مثل مؤسسة طيبة ذات التوجه الصوفي.

ويأتي ذلك استجابة لاستراتيجية أمريكية في مواجهة الإرهاب الإسلامي تعتمد على خلق إسلام بديل يقوده علمانيون وليبراليون وإسلاميون معتدلون منهم الصوفيّون، فنشطت في الإمارات رموز للصوفيّة مثل الجفري، وبعض دعاة العقلانيّة والأنسنة الإسلامية، مثل عدنان إبراهيم والمقبور محمد شحرور، والأدهى من ذلك هو افتتاح معبد بوذي في الإمارات، في الوقت الذي يمارس فيه البوذيون أبشع الجرائم بحق المسلمين في بورما.

   لم يقتصر التآمر الإماراتي على أمّة الإسلام حدّ التّمويل والتّخطيط والطّرق الدبلوماسية، بل تجاوزها للتّدخل العسكري المباشر؛ حيث كشفت تقارير تورط الإمارات في عمليات القتل والإبادة التي تشنّها القوّات الفرنسيّة ضدّ مسلمي مالي وأفريقيا الوسطى، وذلك باعتراف الرّئيس الفرنسيّ السّابق فرنسوا هولند، الذي أكد أن وليّ عهد الإمارات قدّم مساعدات مالية للقوّات الفرنسيّة في تدخّلها لقتال إسلاميي مالي. كما أعربت الإمارات لفرنسا عن قلقها إثر وصول الإسلاميين إلى سدّة الحكم في أفريقيا الوسطى، وأكدت أنّها على استعداد لتمويل عمليّة إزاحته عن الحكم؛ ذلك أنّه يعتبر عقديًّا قريبًا من التّيّارات الإسلامية الجهاديّة، الأمر الذي أدى لتدخّل فرنسي ارْتُكِبَتْ على إثره مجازر بشعة في حق مسلمي أفريقيا الوسطى من قبل المسيحيّين المدعومين من القوات الفرنسية. كما يحفل سجل الإمارات بتاريخ دمويّ من التدخّلات العسكريّة في أفغانستان والباكستان خدمة للمشروع الصليبي الاستعماري، الأمر الذي دفع الجنرال الأمريكي السابق ديفيد باتريوس للتصريح بأن الإمارات هي الدولة الأقدر على قتل الإسلاميين المتشدّدين نظرًا لتاريخها الحافل بذلك في أفغانستان.

وفي إحدى الرسائل المقرصنة من بريد سفير الإمارات في الولايات المتحدة يوسف العتيبة، كتب العتيبة مخاطبًا الكاتب الصحافي في (نيويورك تايمز) توم فريدمان: «لقد حاربت أبو ظبي لمدة مئتي عام السعوديين بسبب الوهابية، لدينا من التاريخ السيئ مع السعوديين أكثر مما لدينا مع أي جهة أخرى، لكن مع مجيء محمد بن سلمان فإننا نرى تغيّرًا حقيقيًا يحدث؛ ولهذا نشعر بالنشوة. أخيرًا بدأنا نرى الأمل، ونحن في حاجة إلى رؤيته ينجح».

الأدوات الإماراتية المستخدمة للحرب على الإسلام السياسي:

1- مؤسسة مؤمنون بلا حدود:

بين يدي الانقلاب العسكري في مصر تحديدًا في (مايو/أيار) 2013م، وبدعم إماراتي، تأسست تلك المؤسسة للدراسات والأبحاث، والتي تتخذ من المغرب العربي مقرًا لها، ويشغل منصب مديرها العام هناك السوري محمد العاني، ولديها فرعان في القاهرة وعمّان، ويتولى منصب المدير التنفيذي للمؤسسة الدكتور أحمد فايز من الأردن، وتضم المؤسسة عددًا كبيرًا من الباحثين والكتَّاب العرب والأجانب، ويصدر عنها 3 مجلات:

الباب: مجلة فصلية محكمة تُعنى بالدين والسياسة والأخلاق.

يتفكرون: مجلة فكرية ثقافية فصلية.

ذوات: مجلة ثقافية عربية إلكترونية.

ومؤسسة (مؤمنون بلا حدود) هدفت إلى خوض المواجهة ضد فكر الحركات الإسلامية مدعيةً بدورها (أنسنة الدين)، وكرست اهتمامها نحو دراسة منظومة الأفكار المؤسسة للعقل الثقافي الكلي في المنطقة، وسعت في الشق العملي إلى: (اختبار اجتهادات المفاعيل الثقافية والفكرية والمجتمعية في الفضاء العربي الإسلامي، نظريًّا وواقعيًّا، في وجه حركات الإسلام السياسي). وسلكت إلى ذلك (سبيل النقد المنفتح في مراجعة كافة الأفكار دون انحياز إلا لما يحقق مصلحة الإنسان في واقعه ومعاشه)، وجعلت أهدافها كما جاء على موقعها:

تفكيك الأسس والقواعد الفكرية لظواهر الفكر والثقافة المغلقة والإقصائية.

دعم الدراسات والبحوث الاجتماعية والفكرية والدينية القائمة على أسس علمية وعقلانية.

بناء الكفاءات العلمية والكوادر البحثية القادرة على البحث العلمي في قضايا التجديد والإصلاح الثقافي والديني بشكل معمَّق ورصين.

تنسيق ودعم التواصل والتعاون بين الباحثين والمفكرين والمؤسسات الذين تتقاطع اهتماماتهم وأعمالهم مع رسالة المؤسسة.

إيصال صوت التيار التجديدي الجاد لمختلف الشرائح الاجتماعية.

وتجتهد تلك المؤسسة في إعادة إنتاج فكر من تعتبرهم أصحاب رؤى تنويرية مثل: السوداني محمـد أبـو القاسـم حـاج حمـد مؤلـف كتـاب الحاكميـة، ومحمد شحرور، وحسن حنفي اليساري مُنزّل أفكار اليهودي باروخ إسبينوزا حول التوراة على القرآن الكريم، كما أحيت كتابات نصر حامد أبو زيد التي كانت محط جدل خلال تسعينات القرن الماضي.

كمـا انفتحـت المؤسسـة علـى أقـلام اشـتهرت بقـراءات تجفيفيـة للثقافـة الإسلامية مثـل عبـد المجيد الشـرفي، وأقلام دأبت على الكتابة ضمن خطوط مختلفة كاللبناني رضوان السـيد الذي شـارك فـي منتـدى تعزيـز السـلم الأهلـي فـي المجتمعـات الإسـلامية، والـذي أعلـن غيـر مـرة أن «فشـل حركات الإسلام السياسي كان مدويًّا، سواء تعلق الأمر بتجربة الإخوان المسلمين أو التيارات السـلفية أو دعـاة ولايـة الفقيـه»، ودعـا فـي مناسـبات عديـدة للإبقـاء علـى دور المؤسسـات الدينية التقليدية كالأزهر في مصر والزيتونة في تونس والقرويين في المغرب والمؤسسة الدينية في السعودية مع إعادة تأهيلها وتحريرها من نفوذ الإسلاميين وأجهزة الحكم الدكتاتورية.

2- المؤسسة الإعلامية:

أنتجت أبو ظبي للموسم الرمضاني 2019م، مسلسلين تاريخيين يعرضان لسيرة أشهر قطبين من أقطاب الصوفية وهما الحلاج وابن عربي، حمل العمل الأول اسم (العاشق… صراع الجواري) أما العمل الآخر الذي يؤرخ لحياة محيي الدين بن عربي فقد جاء بعنوان (مقامات العشق)، وفتح توجه الإمارات لإنتاج هذين العملين باب السؤال عن الهدف من إحياء مثل هذا النوع من الشخصيات، طبعًا الدافع معروف ولا يخفى على أحد، فهذا هو النموذج الإسلامي الذي تريد الإمارات تقديمه للشباب المسلم بعيدًا عن نموذج العالم المجاهد كابن تيمية والعز بن عبد السلام وأمثالهم.

كما أطلقت الإمارات موقعًا الكترونيًا جديدًا يستهدف تشويه الدين الإسلامي وعمل الجاليات المسلمة في أوروبا، أسمته (المجهر الأوروبي لقضايا الشرق الأوسط) يديره بشكل مباشر علي راشد النعيمي أحد أقطاب رجال الأمن والمخابرات الإماراتية وأحد المقربين من ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد. وعملُ الموقع يعتمد على السعودي المثير للجدل كامل الخطي المعروف بمواقفه المعادية للتجمعات الإسلامية غير الوهابية، وبهجومه المعلن وغير المعلن على عمل الجاليات المسلمة في أوروبا.

ويتولى إدارة تحرير الموقع الكاتبة الإيطالية اليمينية سارة برزوسكيويتش التي تعرف عن نفسها بأنها طالبة دكتوراه في جامعة القلب المقدس الكاثوليكية في ميلان، وقد عملت كباحث زائر في برنامج التطرف في جامعة جورج واشنطن، تتجاوز الموازنة المخصصة للموقع مليون وثلاثمائة ألف يورو سنويًا، وتعوِّل عليه الإمارات لتعزيز وجودها في أوروبا ومحاربة أي أنشطة لخصومها فضلًا عن تشويه منظمات الإسلام السياسي.

3- إعادة صياغة المعرفة على النموذج الغربي:

يسعى حكام الإمارات لفرض نموذج معرفي يصادم ما يؤمن به جمهور الناس، سواء داخل الإمارات أم خارجها، ويشمل هذا النموذج المعرفي الأفكار والقيم والأنظمة والرموز التاريخية، إذ تسهم الإمارات بواسطة مراكز بحثية ودور نشر وبرامج حوارية في الترويج لمجموعة من مفكري تجديد الخطاب الديني وإعادة بناء العقل الإسلامي من أمثال نصر حامد أبو زيد ومحمد أركون وباسم يوسف وعدنان إبراهيم وغيرهم. كما يظهر الداعية الأميركي حمزة هانسن من بين من تم استقطابهم من قبل الإمارات، وقد عيَّنه البيت الأبيض مستشارًا للعلاقات مع العالم الإسلامي عقب أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001م، وقد طاف عددًا من البلدان العربية طلبًا للعلم، واعتنق الطريقة النقشبندية. ويحرص هانسن على زيارة زعيم الطريقة النقشبندية في قبرص ناظم حقاني، وتربطه علاقة وطيدة بالشيخ عبد الله بن بيّه الذي وظف هانسن معارفه في أمريكا لصالحه.

4- مؤسسة طابة:

تم الإعلان عن تلك المؤسسة باكرًا؛ حيث تم تأسيسها سنة 2005م، والذي تزامن مع بزوغ نجم الداعية علي الجفري، ذي الأصول الحضرمية وابن المدرسة الصوفية العريقة في اليمن؛ حيث بدأ ضخّ المال الإماراتي لصالح الشيخ علي الجفري ليوسّع علاقاته ويستقطب شخصيات إسلامية لها وزنها ومرجعيتها الشرعية المعتبرة في العالم الإسلامي، وكان من ضمن هيئتها الاستشارية الدكتور محمد سعيد البوطي، والشيخ عبد الله بن بيّه، كما أُنشئت عدة دور نشر، من أبرزها دار الفقيه في أبو ظبي، ودار الوابل الصيب، ودار الـُمقَطَّم في القاهرة، إضافة لإنتاج العديد من البرامج الدعوية التي روّجت للجفري في مصر وسمحت له ببناء علاقات وطيدة مع بعض مشايخ الأزهر المتنفذين، وعلى رأسهم المفتي السابق علي جمعة، والذي عن طريقه تنفَّذت الإمارات بعدد من المشاريع في الأزهر وقدمت منحًا باذخة له

كما لا يخفى على أحد دعم الجفري المتواصل لنظام بشار الأسد على حساب الشعب السوري الذي يتعرض لعملية قتل وتهجير ممنهجة، بداية من مشاركته في مؤتمر (التصوف منهج أصيل للإصلاح) الذي أقيم في القاهرة في 24 من سبتمبر 2011م، من أجل دعم نظام الأسد، وشارك فيه رموز مؤسسة (طابة) إذ أعلن الحاضرون في المؤتمر أن ما يحصل في سوريا ليس ثورة بل فتنة، مما يؤكد أن القضية موقف صوفي عام وليس خطأ فرديًا!!

ومن هنا يظهر لنا كيف أن التيار الصوفي لم يعد تيارًا دينيًا مهمته البحث عن الحقيقة وتهذيب النفس في عبادة الله، بل تحوَّل إلى جماعات تحشد نفسها في حقل السياسة وتنفيذ مخططات لها أبعادها السياسية وأهمها مساندة الحاكم، والدعوة إلى طاعة أمره.

الربيع العربي وإحكام القبضة الإماراتية على الأزهر:

كلنا يعلم أنه ما كان لأحد أن يتولَّى منصبًا هامًا في الأزهر، ما لم يكن في دائرة رضى نظام حسني مبارك وحزبه الوطني. ويذكر الجميع أن مبارك عندما أصدر قراره بتعيين أحمد الطيب شيخًا للأزهر، وكان وقتها عضوًا بلجنة السياسات في الحزب الوطني، رفض الاستقالة من الحزب حتى يرجع مبارك من رحلته العلاجية في ألمانيا ليستأذنه بخصوص الاستقالة، وهذا ما أثار حفيظة قوى ثورة 25 يناير لبقاء أحمد الطيب في منصبه، واعتبار المشيخة أحد أوكار فلول نظام مبارك.

ولعل ارتباط شيخ الأزهر المعروف بلجنة سياسات الحزب الوطني المنحل والرفض الثوري له هو ما دفع مشيخة الأزهر للبحث عن طرف سياسي يتولاها ويدعمها، وهنا بدأت اليد الإماراتية تعبث بمشيخة الأزهر وتتحرك فيها كما تريد، وظهرت معالم المشروع الإماراتي لاستخدام الأزهر كواجهة لضرب الحراك الإسلامي، وذلك من خلال مشروعين:

المشروع الأول: إنشاء ما عرف بمكتب رسالة الأزهر الذي كان من مهامه مراجعة خطاب الأزهر وإعادة النظر في مقرراته، والإشراف على الأروقة العلمية في الجامع الأزهر. وقد عُيّن مسؤولًا عنه أسامة الأزهري، تلميذ علي جمعة المقرّب وأحد المتصلين اتصالًا مباشرًا بعلي الجفري. وقد تولى أسامة الأزهري بعد انقلاب السيسي منصب مستشار الشؤون الدينية برئاسة الجمهورية، ولا زال يشغله رغم صغر سنّه وقلّة خبرته مقارنة بشخصيات أزهرية أخرى، وهو -على الأغلب- أحد الذين تعتمد عليهم الإمارات في إحكام القبضة على الأزهر، من خلال إبعاد أي شخصية قد تؤثر على النفوذ الإماراتي فيه، بل بإمكانه ردع شيخ الأزهر نفسه إذا حاول الخروج من دائرة السيطرة عليه. والصحف المصرية تشهد على الهجوم العنيف الذي شنّه أسامة الأزهري على شيخ الأزهر أحمد الطيب عندما رفض طلب السيسي بإصدار فتوى تمنع وقوع الطلاق الشفهي.

والمشروع الثاني تمثل في إنشاء الرابطة العالمية لخريجي الأزهر الشريف، والتي تحولت فيما بعد إلى المنظمة العالمية لخريجي الأزهر الشريف، والهدف من هذه المنظمة التي يرأسها شيخ الأزهر استقطاب طلبة الأزهر خاصة من الوافدين وتعبئتهم بالخطاب الديني الذي تروّج له الإمارات، وكذلك منعهم من التعرّف على الحراك الإسلامي والعمل على تشويهه، كما مثّلت هذه المنظمة عامل جذب لكثير من علماء الأزهر من خلال ما توفره لهم من رحلات خارجية ومكافآت مالية تجعلهم موالين لهذا التوجه. وقد بدأت المنظمة بافتتاح فروع لها في بلاد إسلامية مختلفة، والمطلع على برامجها يجد أنها تحارب تيارات الإسلام السياسي بذريعة مواجهة الإرهاب والتطرف.

هذا إضافة إلى مشاريع أخرى تمثلت في إنشاء قنوات فضائية كقناة أزهري، ودور نشر ومراكز بحثية من أبرزها جمعية المكنز الإسلامي، ودار الفُلك التي يديرها أشرف سعد الأزهري، أحد المقربين إلى علي جمعة، والتي تستقطب أيضًا طلبة وأساتذة الأزهر على السواء، بما تضخه الإمارات فيها من أموال.

مؤتمر جروزني لأهل السنة والجماعة ومجلس حكماء المسلمين:

بعدما بدأت ملامح التحالف السعودي الإماراتي تظهر في العلن ووقوع محمد بن سلمان تحت نفوذ وتأثير محمد بن زايد، والذي يبدو أن من نتائجه تحجيم الخطاب السلفي، باستثناء (السلفية المدخلية) التي لا زالت الحاجة إليها قائمة في بعض بؤر التوتر كليبيا، لدعم مشروع حفتر العسكري. هذا التقارب دفع الإمارات إلى أن تخطو بمشروعها خطوة متقدمة، من خلال عقد مؤتمر جروزني عام 2016م، بعنوان (أهل السنة والجماعة) والذي كان على أساس طائفي وإقصائي؛ الغرض منه حصر مصطلح أهل السنة والجماعة في التوجه الذي تتبناه الإمارات. وكان مناسبةً لتهميش السلفية ومهاجمة الحركات الإسلامية، كما كان الهدف من المؤتمر إيجاد منافذ من خلاله إلى المدارس الإسلامية العريقة (كالزيتونة في تونس والمدرسة الحضرمية في اليمن)، لاستخدامها في الواجهة إلى جانب الأزهر، من خلال استقطاب شخصيات من هذه المدارس وتصديرها كواجهة لهذا التوجه.

   ورغم الإقصائية والطائفية التي عقد على أساسها المؤتمر، إلا أن إحدى مخرجاته كانت تأسيس مجلس حكماء المسلمين برئاسة أحمد الطيب شيخ الأزهر، والذي يمكن اعتباره (أي المجلس) الغطاء الديني للسياسة الإماراتية في المنطقة وأحد المروِّجين لها.

الخطاب الديني في المشروع الإماراتي:

مشروع الإمارات للسيطرة على المؤسسات الدينية، وعلى رأسها الأزهر، وتوظيفها لخدمة سياستها والترويج لها أتى كردة فعل عن صعود الإسلاميين، والذي بلغ أوجه بعد الربيع العربي. ومن السذاجة الاعتقاد بأن للإمارات مشروعًا إسلاميًا حقيقيًا، والراصد لخطاب هذا المشروع وبرامجه يجدها تركز على:

1- قضايا الإرهاب والتطرف في سياق جعل جماعات الإسلام السياسي هي المسؤولة عن هذا الإرهاب والتطرف، وهذا يظهر جليًا وواضحًا في برامج الرابطة العالمية لخريجي الأزهر، ومؤتمر تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة الذي ينعقد دوريًا في أبو ظبي، والذي يقدم التيارات الإسلامية كعامل فوضى وزعزعة للمجتمعات.

2- إعلاء الخطاب الصوفي الروحاني وتجريده من معانيه العملية، ومحاولة جعل الدين من خلاله علاقة روحانية بين العبد وربه، وليس له علاقة بالحياة خاصة السياسية.

3- خلق تصور في الوعي المجتمعي يحصر علماء الشريعة في الجانب الروحي والوعظ، واستحضار حالة المقارنة الذهنية لهم مع رجال الأديان الأخرى، في محاولة لرهبنة الدين الإسلامي. ولعل لقاء الأخوة الإنسانية الذي جمع شيخ الأزهر ببابا الفاتيكان في أبو ظبي هو أبرز مظاهر ذلك.

4- غض الطرف عن التوجهات العلمانية والتنويرية المحاربة للشريعة والمشوهة لها تحت ذرائع التجديد، والتبرير لها أحيانًا، خاصة في ما يتعلق بالشأن السياسي، وهذه التوجهات تدعمها الإمارات أيضًا وعلى رأسها منظمة مؤمنون بلا حدود كما مر معنا.

5- توفير الغطاء الديني لسياسات التطبيع مع الكيان الصهيوني التي يقوم بها النظام الإماراتي والسعودي والمصري على قدم وساق، ولممارسات الاستبداد السياسي، من خلال الفتاوى والتنظير الفقهي المتكلف.

6- المشاركة الفعالة في المؤتمرات التي يعقدها الأزهر تحت عنوان تجديد الخطاب الديني، فقد شاركت الإمارات في المؤتمر الأخير الذي عقده الأزهر في بداية هذا العام، وقد طالب فيه الدكتور محمد مطر الكعبي، رئيس الهيئة العامة للأوقاف بدولة الإمارات العربية المتحدة بتصحيح المفاهيم المغلوطة للشباب عن حقيقة الإيمان والإسلام والانتماء للأوطان وحقيقة الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكذلك شرح مفهوم الردة شرحًا دقيقًا وافيًا، «لقطع الطريق على تدليس الجماعات الإرهابية بتأويلها المغلوط للنصوص وليِّ عنقها واجتزائها من سياقها». وأضاف الكعبي، خلال كلمته في الجلسة التي ناقشت دور المؤسسات الدينية الأكاديمية في تجديد الفكر الإسلامي: «إن التفسير الخاطئ للنصوص التي تبثُّها الجماعات الإرهابية للشباب وحثَّهم على العنف والقتل باسم الدين؛ جعل الصورة النمطية للإسلام معادية للغير ومدمرة للحضارة الإنسانية ومتعطشة لدماء المخالفين، كما روَّجت لعدم الاعتراف بالأوطان وتقسيم العالم إلى دار إسلام ودار كفر».

7- مهاجمة صحيح البخاري ووصفه بـ(الكتاب المتخلف، وأنه لا يمكننا أن نسجن أنفسنا في كتب عمرها 1400 عام) من قبل الأكاديمية الإماراتية (موزة غباش)، وذلك بحضور نهيان بن مبارك آل نهيان وزير التسامح. وقد سبقها الداعية المجنس إماراتيًا وسيم يوسف حين قال إنه لا يؤمن بالبخاري ولا السنة النبوية بشكل مطلق، مشيرًا إلى أن إيمانه فقط يقوم على القرآن الكريم.

مراقبة نشاط المسلمين والتضييق عليهم، والتسامح مع أصحاب الديانات الأخرى بالبلاد:

أوردت صحيفة الواشنطن بوست في تقرير لها مؤخرًا أن سيطرة الدولة في الإمارات على الإسلام تمتد إلى ما هو أعمق في الحياة اليومية للمسلمين؛ إذ تقوم الحكومة باختيار جميع الأئمة وفحصهم، وتقدم لهم إرشادات أسبوعية لخطب صلاة الجمعة، وحتى الممارسات غير الرسمية للتعلم الإسلامي يجب أن توافق عليها الحكومة. وأشارت الصحيفة إلى أن الإمارات تعتبر الحركات الإسلامية بمثابة التهديد الرئيسي لنظامها السياسي ولأمنها القومي، ولا سيما في أعقاب ثورات الربيع العربي عام 2011م. وبحسب تقرير واشنطن بوست، تتسامح الإمارات مع الاحتفالات العامة المسيحية والهندوسية الكبرى ورأس السنة الصينية الجديدة، وكذلك الإعلانات والدعاية للنشاطات الدينية غير الإسلامية.

العلاقة مع كيان يهود:

يتشوق كيان يهود لليوم الذي يصحو فيه ليجد نفسه كيانًا طبيعيًا مقبولًا في المنطقة، وهذا أمر من الصعوبة بمكان طالما ظلت أحكام الإسلام وأفكاره كامنة في نفوس الأمة والتي تفرض عليها عدم قبول هذا الكيان الخبيث السرطاني في بلادنا، بل في أراضينا المقدسة، ولا يمكن أن يتم هذا إلا في ظل تحريف الإسلام وجر المسلمين جرًا للرضا بالأمر الواقع، وهذا ما يسعى له العملاء في بلاد المسلمين، وعلى رأسهم نظام السيسي والنظام الإماراتي، ويشاركهم حديثًا ابن سلمان.

لقد شهدت العلاقات الإماراتية الصّهيونية تطورًا ملحوظًا وصل حد التّعاون الوثيق الذي تُوِّج بتعيين محمّد دحلان مستشارًا أمنيًا لولي عهد الإمارات محمّد بن زايد، ودحلان متّهمٌ فلسطينيًّا بالتّخابر لمصلحة الكيان الصهيوني، كما عُرف دحلان بوصفه رجل فتح داخل قطاع غزّة؛ حيث أنشأ المعتقلات واستهدف نشطاء حركة حماس بالاعتقال والتصفية والتجسس لمصلحة (إسرائيل).

    بدأ التناغم السريّ بين كيان يهود والنظام الإماراتي بالظهور علنًا في الآونة الأخيرة، حيث استقبل الأخير شخصياتٍ رسميّة عدّة تمثّل دولة الاحتلال بشكلٍ علني، ورافقها اجتماعاتٌ سريّة لبحث سبل تعزيز التعاون بينهما في المجالين الاقتصاديّ والثقافيّ. فقد شارك وزير خارجيّة كيان يهود (يسرائيل كاتس)، المعروف بعنصريته الفجة، في مؤتمر الأمم المتحدة المناخي الذي عقد في الإمارات في حزيران/يونيو 2019م، فضلًا عن مرافقة وزيرة ثقافة كيان يهود اليمينية المتطرّفة (ميري ريجيف) للفريق (الإسرائيليّ) خلال دوري الجودو الدوليّ في تشرين الأول 2018م. هذا إضافةً إلى ما تداولته وسائل الإعلام بشأن زيارةٍ سريّة لرئيس أركان جيش الاحتلال السابق (غادي آزينكوت) في تشرين الثاني/نوفمبر 2018م.

   كما طالت العلاقات التطبيعية المجال الجويّ، بعدما هبطت إحدى طائرات شركة (موانئ دبيّ العالميّة) الحكومية، والتي تعدّ واحدة من أكبر خمس شركاتٍ عالميّة لإدارة الموانئ، في مطار اللد (بن غوريون) عدّة مراتٍ. وتربط الشركة المذكورة علاقاتٌ تجاريّةٌ مع كيان يهود، أبرزها الاستثمارات المشتركة التي تجمعها بشركة الملاحة (الإسرائيلية) زيم، والمتورّطة بشكلٍ مباشرٍ في جرائم كيان يهود بحقّ شعبنا منذ النكبة إلى يومنا هذا. تعمل شركة (موانئ دبي العالمية) بشكلٍ جديٍّ على تعزيز العلاقات التجاريّة مع كيان يهود، وهو ما دفع برئيسها التنفيذيّ، السلطان أحمد بن سليّم، لزيارة (تل أبيب) في آب/أغسطس 2019م، لبحث سبل تعزيز هذا التعاون.

ولم تقف العلاقات التطبيعية على التطبيع التجاري، برعاية حكومية، بل تتعدّاها إلى المستوى الأمني، كما كشف تحقيق لـ (بلومبيرج) عن مشروع بنية تحتية أمنية وضعته شركة (إسرائيلية) بمهندسين (إسرائيليين) في الإمارات بقيمة 6 مليارات دولارٍ.  وفي ظل التعتيم على الصفقات العسكريّة/الأمنية المبرمة بين دولة الاحتلال وبعض الأنظمة الخليجيّة الاستبدادية، كشف تقريرٌ جديد لصحيفة (هآرتس) مؤخّرًا عن صفقة أُبرمت بين كيان يهود والإمارات لشراء الأخيرة طائرة مراقبة (إسرائيلية) متطورة قُدرت بنحو 846 مليون دولار.

كما شاركت الإمارات جنبًا إلى جنب مع كيان يهود في مناورات عسكرية جوية، كانت الأولى في مناورة بعنوان (ريد فلاغ) في الولايات المتحدة الأمريكية، شاركت فيها جيوش من باكستان وإسبانيا بالإضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وتمت الثانية في قاعدة جوية يونانية… إن كل ما ذكرناه كان مقدمات لإعلان الإمارات تطبيع علاقاتها بشكل رسمي مع (إسرائيل) في 13/08/2020م في خطوة تجاوزت علناً فيها كل المحرمات