Sunday, November 29, 2020

أيها المسلمون، أبشروا، فإن التطبيع من علامات زوال (إسرائيل)

 أيها المسلمون، أبشروا، فإن التطبيع من علامات زوال (إسرائيل)

 

مجلة الوعي: العدد 411 - السنة الخامسة والثلاثون – ربيع الثاني 1442هـ – تشرين الثاني 2020م

بعد قيام الثورات في بلاد المسلمين معلنة إرادتها في إسقاط عملائه من الحكام، أدرك الغرب أن هذه الأمة مستعصية على الخضوع له مهما حاول، فوضع من بعدها خطته التي تقضي بالقيام بكل ما تحدثه به نفسه الشيطانية من أعمال تجعل المسلمين لا تقوم لهم قائمة بعد الآن، ولا تلتفُّ لهم ساق على ساق، وتولَّوا بأنفسهم مهمة تنفيذ هذه الخطة، ونقلوا عملاءهم من الحكام إلى مرحلة الجهر بالخيانة ضد دينهم ونبيِّهم وقضاياهم المصيرية هكذا من دون حجاب، والإيغال في اضطهاد المسلمين وقتلهم وتهجيرهم وتشريدهم ونكايتهم وتخريب بلادهم وتفتيت وحدتهم بإثارة النعرات الطائفية والعرقية والمذهبية بينهم… وفي بلاد المسلمين التي قامت فيها ثورات، قاموا وما زالوا يقومون بانتقام فظيع من الناس لقيامهم بهذه الثورات… حتى تكون رادعًا وعبرة لمن يريد أن يحذو حذوهم. كل ذلك يحدث والمسلمون كما قال رسولهم الكريم: «يحاطون بالظالمين من كل مكان… ولا يجدون على الحق أعوانًا» وكان من مظاهر حربههم العالمية على الإسلام، فوق ما ذكرنا، (الهجمة الشرسة على الإسلام السياسي) مدعين أن الإسلام هو فقط دين شعائري تعبدي أخلاقي… وكذلك قاموا  بـ (الإساءة إلى الرسول) بكل ما فيه من تحدٍّ للمسلمين في أقدس مقدساتهم… وأعلنوا مؤخرًا الانتقال إلى (مرحلة التطبيع العلني) مع كيان يهود وتسريعه هكذا جهارًا نهارًا بمعزل عن المسلمين وعدم اكتراث بأقدس قضاياهم… وهكذا يمضي الغرب في خطته المجرمة هذه بشكل مفتوح لا تقيِّده قوانين دولية ولا تحدُّه قيم، وبشكل معلن مقصود، الهدف منه أن يَهزمَ المسلمين في دينهم، وأن يُنسيَهم مطالبهم بالانفكاك عنه واستبدال استعماره بإقامة حياتهم على نور من ربهم. ولكن أنَّى له ذلك.

إن ماضي الغرب وحاضره في التعامل مع المسلمين مليء بالغدر والإجرام والتشفِّي والانتقام، على عكس تعاملنا معه طيلة الفترة الماضية الطويلة من الصراع، لقد حملنا له إشعاع العلوم بعد أن كان جاهلًا، وهديناه إلى نور الحضارة بعد أن كان همجيًا، وأدخلنا الكثير من أهله في ديننا فأصبحوا إخوانًا لنا… بينما هو لم يحمل لنا سوى الاستعمار بكل مثالبه… وحتى مع كتابة هذه الكلمات، ونفس الذي يكتبها تكتوي ألمـًا لما يحدث للمسلمين من إجرام موصوف ومكر مكشوف، فإننا إذا ما منَّ الله علينا بكشف هذه الغمَّة والظهور من جديد على الغرب وعلى غيره، فإن نفوسنا لا تحمل إلا الخير للغير، ولئن يهدي الله عدونا خير لنا من أن ننتقم منه، هكذا علمنا رسول الرحمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي يهاجمونه، بقوله: «لئن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من الدنيا وما فيها» وفي هذا قوة لمبدأ الإسلام وحضارته ما بعدها قوة، وسقوط للمبدأ الرأسمالي المتوحش… ولكننا في الوقت نفسه، فإننا في طلب الحق لا يعلو على أمر الله عندنا أمر، كائنًا ما كان، وعند المناجزة واللقاء فإننا لا نهاب الأعداء، لا نخشى إلا الله، ولا نطلب إلا رضاه. وبالدعوة نفتح القلوب، وبالجهاد نشفي الصدور. 

واللافت في هذا الصراع هو أن المسلمين، بالرغم من كل هذا الإجرام الموصوف بحقهم، ازدادوا تمسكًا بدينهم، وبدَوا أكثر إصرارًأ على العودة إلى العيش في كنف الإسلام، وتتوق نفوسهم إلى حكم الخلافة الراشدة التي يعتبرونها نموذجهم الأمثل بعد عهد النبوة، ويرونها تؤمن لهم حياة التقوى والإيمان والعزة والتمكين ونشر هذا الدين… وهذا عكس ما خطط له الغرب وهدف إليه من جعل المسلمين يستسلمون له ويرضون بما يقسمه لهم من طريقة عيش حيوانية شهوانية مقطوعة الصلة بالله…

أما مهاجمة الإسلام السياسي والعمل مع حكام المنطقة على منع أي عمل سياسي على أساس الإسلام، بل والأخطر من ذلك، العمل على تحوير الإسلام والادعاء باطلًا أن الإسلام دين روحي أخلاقي فحسب وليس فيه سياسة، وأن الخلافة هي مرحلة تاريخية ارتضاها الصحابة للحكم بموجبها وليست أحكامًا شرعية ملزمة، وبالتالي فإن على المسلمين أن يرتضوا اليوم غيرها لأنها لم تعد صالحة للحكم اليوم كما كانت بالأمس. والأدهى من كل ذلك، فإن هناك من علماء السوء مَنْ فتاواهم جاهزة لتحلَّ حرام الحكام، وتحرِّمَ حلال الشرع، وهذا يعني أن فتاواهم ستكون فتاوى أمريكية وفرنسية وبريطانية ما أنزل الله بها من سلطان… حقًا، إنها لفتنة لهؤلاء العلماء تجعلهم شركاء متكافئون في الإثم مع الحكام.

إن ما يتصرف به الغرب والحكام في بلاد المسلمين فيما يتعلق بمهاجمة الإسلام السياسي أو ما يسمونه بـ (الإسلاموية) إنما هو اعتداء على الدين الإسلامي، وهو إن يفعل ذلك فلأنه وجد أن الأمور تسبقه وخشية أن يفاجأ بوصول الإسلام إلى مسرح السياسة الدولية، وفي ذلك ما فيه من خطر وجودي ماحق لحضارتهم الفاسدة. فحقيقة الأمر، إن الغرب هو المهزوم في هذه الحرب الحضارية، ويحارب الإسلام ليمنع سقوط حضارته. والجدير ذكره هنا، إن الحروب الحضارية سلاحها قوة الفكر وصحته وقدرته على معالجة كل شؤون الحياة معالجة صحيحة تؤدي إلى اطمئنان الحياة واستقرارها، وهو ما يفتقد إليه العالم اليوم.

أما الإساءة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، والتي تتجدد من وقت لآخر، والغرض من تجددها قياس ردة فعل المسلمين، هل ضعفوا واستكانوا؟ أم ما زالوا يحتاجون إلى مزيد من الضغط؟ وما رأيناه من ردات فعل طيبة من المسلمين تجاه رسولهم جعلت عدوَّهم من حكام الغرب وعملائهم من حكام المسلمين العملاء له يتأكدون أن الأمة تتجه نحو مزيد من الصحوة وليس العكس. وإثارة هذا الموضوع بهذا الشكل هو بحد ذاته، إن دل فإنما يدل على إفلاس حضاري، وخاصة عندما يتولى كبر الإساءة شخصيات علمانية تدعي الرقي في الفن أو الفكر، فهؤلاء إن كان عندهم مآخذ على الإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم فليطرحوها للمناقشة والبحث الجاد عن الحقيقة، لا أن يسِفُّوا بأنفسهم ويهوَوا بها إلى الحضيض. ولهؤلاء العلمانيين الذين اتخذوا الرذالة أسلوبًا لـ «حرية التعبير» نقول: إذا كنتم حقيقة تريدون الحق ومناقشة المسلمين في دينهم ورسولهم فأجمعوا أمركم، فهناك آلاف من المفكرين المسلمين خبروا على أرض الواقع فشل الديمقراطية وظلم الرأسمالية وفراغ العلمانية، وتاريخ دولهم المظلم… فلتقم المحاضرات والندوات والمناظرات الهادئة الهادفة عبر وسائل التواصل، بينكم وبين من يناقشكم منهم ويرد عليكم، أم أنكم أفلستم فلم تعودوا تملكون إلا التهجم على أشرف الخلق على الله وعلى المؤمنين…

أما التطبيع مع الكيان الغاصب، ونقله من السر إلى العلن، وتسريعه… فإنه يصدق فيه قوله تعالى: (لَا تَحۡسَبُوهُ شَرّٗا لَّكُمۖ بَلۡ هُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ ). ومن خيره أنه كشف وسيكشف حقيقة حكام المسلمين العملاء للغرب كلهم، ومن غير استثناء، وأولهم آل سعود، تلك العائلة المشبوهة التي أمعنت في العمالة حتى ما رأى حاكمها مؤخرًا إلا توريد الفسق إلى أهلها، والتماثيل إلى أرضها، وها هو يستعد الآن للانضمام إلى قائمة المطبِّعين… وكشف العلماء الذين يقولون بما يقول حكامهم (كما تقول الببغا)… كشفت أن معدن الأمة صلب ودينها حي؛ حيث وقفت من أقصاها إلى أدناها ترفض عملية التطبيع وزادت الشرخ بينها وبين حكام الخيانة والخذلان… وكشفت كيف أن الغرب يتصرف من موقف ضعف وليس من موقع قوة إذ لم يستطع أن يحوِّله إلى سلام شعوب، بل بقي في المربع الأول الذي ولدت فيه وهو أن الأمة لم ولن تقرَّ بأي اتفاق يعقده هؤلاء الحكام، فهو بنظرهم اتفاق معدوم… إذًا فكيف يرى المسلمون حلَّ قضية فلسطين؟

إن المسلمين ينظرون إلى الحل من خلال النصوص الشرعية التي تبيِّن أن الحل يتعدى استرداد الأرض المباركة إلى قتالهم ليهود وقتلهم، والقضاء على دولتهم، وينظرون إلى أنه لا يمكن استرداد فلسطين عن طريق هؤلاء الحكام العملاء من غير استثناء وإنما عن طريق عباد الله المؤمنين، فقد روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تقاتلكم اليهود فتسلَّطون عليهم ثم يقول الحجر يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله»… ويرى المسلمون أن تطبيع حكام المسلمين سيعطي الشعور بالأمان للشعب اليهودي المشتَّت في بقاع الأرض والتجمع في فلسطين، وهذا ما ذكره الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم فقال:(وَقُلۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِۦ لِبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ ٱسۡكُنُواْ ٱلۡأَرۡضَ فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ ٱلۡأٓخِرَةِ جِئۡنَا بِكُمۡ لَفِيفٗا ١٠٤)، ومن ثم، وبعد اجتماعهم هذا، ستأتي فترة القضاء عليهم، وذلك مذكور في قوله تعالى: (فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ ٱلۡأٓخِرَةِ لِيَسُ‍ُٔواْ وُجُوهَكُمۡ وَلِيَدۡخُلُواْ ٱلۡمَسۡجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوۡاْ تَتۡبِيرًا ٧) وفي الواقع، فإن اليهود حبلهم مقطوع مع الله، موصول مع أئمة الكفر من الدول الرأسمالية المعادية للإسلام والتي تكيد له كيدًا. ودول الكفر اليوم مجتمعة مع اليهود على العداء للإسلام والمسلمين، وهم معًا يسعَون ذلك المسعى الخبيث في عملية التطبيع على ما ذكرنا… وفي الوقت نفسه، يرى المسلمون أن النصوص الشرعية تبين أن هذا الزمن هو زمن الخلافة الراشدة الموعودة التي ستتولى هي مهمة القضاء، ليس على يهود فقط، بل ستقطع الحبل الذي بينهم وبين دول الغرب الذين يمدونهم في الغي ولا يقصرون؛ وذلك من قوله صلى الله عليه وسلم: «ثم تكون خلافة على منهاج النبوة» فالخلافة الراشدة قد آن أوانها، والعمل لإقامتها قد قطع بفضل الله معظم الطريق، وهو ينتظر من الله أن يأذن بأن يهيئ لهذه الدعوة أهل قوة ينصرونها، والغرب يحسُّ بذلك ويصرح محذرًا منه، ولكنه لا يستطيع منعه رغم كل إجرامه؛ لذلك هو يتصرف بتوتر. ومن نعم الله وفضله، أنه يوجد على أرض الواقع حزب رائد ودعوة راشدة قد قطعت بهذا الفرض معظم مسافته، واجتازت كل مراحله، وباتت على الأبواب، ألا وهو حزب التحرير، وهذا يعني أن الحزب، والأمة معه، يأخذون وسيأخذون دورهم في كتابة تاريخ الأمة وتاريخ البشرية عامة وصنعه من جديد في هذه الفترة.

وجمعاً بين الآيات والأحاديث والواقع، فإن المتوقع في هذه المرحلة من الزمن أن يحدث تطبيع الحكام الواسع مع يهود، يعقبه تجمع يهود الشتات المنتشرين في العالم في الأرض المباركة، ثم إقامة الخلافة الراشدة الموعودة بحسب البشرى، ثم القضاء عليهم بحسب الوعد… فالأمة لا تقبل بأقل من القضاء على دولة (إسرائيل) وعملية التطبيع هذه تعني من الناحية الشرعية اقتراب القضاء على يهود، قال تعالى: (وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰٓ أَمۡرِهِۦ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ ٢١). 

الحضارة الرأسمالية وفساد نظرتها الداروينية للحياة1(1)

 الحضارة الرأسمالية وفساد نظرتها الداروينية للحياة1(1)

 

الساريسي المقدسي – بيت المقدس

مجلة الوعي: العدد 411 - السنة الخامسة والثلاثون – ربيع الثاني 1442هـ – تشرين الثاني 2020م

صدم رئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون مواطنيه بتاريخ 12/3/2020م بشأن وباء فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)قائلًا: «سأكون صريحًا معكم، ومع كل الشعب البريطاني، عائلات كثيرة، كثيرة جدًا، ستفقد أحباءها قبل أن يحين وقتهم» وتحدَّث كبير المستشارين العلميين للحكومة البريطانية باتريك فالانس إلى احتمال ترك فيروس كورونا يصيب نحو أربعين مليونًا من سكان المملكة المتحدة، أي 60% من السكان، للوصول إلى «مناعة القطيع»، (الجزيرة نت: 15/3/2020م). وأشارت كبرى مجلات السياسة الخارجية الأمريكية «فورين بوليسي» في تقريرها إلى اعتراف حكومة جونسون بأن استراتيجيتها بالسماح للفيروس بالانتشار وبناء الحصانة كانت فاشلة. ونقل عن الدكتور تيدروس غيبريسوس، المدير العام لمنظمة الصحة العالمية: «فكرة أن البلدان يجب أن تتحول من الاحتواء إلى التخفيف هي فكرة خاطئة وخطيرة». (القبس: 14/3/2020م). فما هي خلفية سياسة «مناعة القطيع» البريطانية في إطار فلسفة الحضارة الرأسمالية القائمة؟ ولماذا فشلت وتراجعت بريطانيا عنها؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه بالغوص في المفاهيم المؤسسة لحضارة الرأسمالية.

تنهض هذه المقالة على فرضية أن جذر وأساس الرأسمالية فاسد، لأنه يقوم على النظرة الداروينية للحياة، والتي ولدت من رحم نظرية الحق الطبيعي ووهم التطور، وهذه النظرة الداروينية تلحظ في فكر العديد من المفكرين الغربيين – وخصوصًا الإنجليز- كآدم سميث واضع قواعد الاقتصاد الرأسمالي،

1 جدير بالتنويه أن مجلة الوعي في العددين رقم (394 و 395 ) نشرت موضوعًا بعنوان “فساد الحضارة الرأسمالية وقرب انهيارها” وذلك في شهري ذي القعدة وذي الحجة 1440 هـ الموافق شهري تموز وآب 2019م، وأجلى الموضوع فساد هذه الحضارة الرأسمالية، وأوضح بأن هذا الفساد قد بان لأهلها، وقامت محاولات لاستبدالها بحضارة غيرها وهي الحضارة الشيوعية، غير أن تلك الحضارة فشلت ثم انهارت. ولكننا في معرض تفصيلنا لذلك الموضوع في ذلك الحين، لم نقم بالتعرض لتفاصيل الفساد ومظاهره، لا في الفكرة الأساسية في الحضارة الرأسمالية ولا في الأنظمة المنبثقة عنها، حيث ذكر في حينه بأن أمر فساد الرأسمالية قضية واضحة عند الرأسماليين أنفسهم، وبرز ذلك بشكل جلي عند منظري المبدأ الاشتراكي.

وكذلك يمكن تتبع جذورها لدى منظري الحق الطبيعي والعقد الاجتماعي ونشوء الدولة كتوماس هوبس وجون لوك وروسو ومالثوس، والتي طرحت كبديل لنظرية الحق الإلهي، وقد تبلورت هذه النظرة الرأسمالية الداروينية للحياة بشكل واضح لدى تشارلز داروين، ثم تفرعت عنها الداروينية الاجتماعية لاحقًا.

وتهدف هذه المقالة إلى تبيان أوجه ومظاهر الفساد في الحضارة الرأسمالية من زاوية نتائج المفاهيم التي تأسست عليها وهي (الداروينية، والحق الطبيعي، والعلمانية)، وكذلك تبيان فسادها من زاوية ما نتج عن تطبيقات الأنظمة التي انبثقت عن هذه القاعدة الفكرية. ونقصد بالفساد إخراج

الشيء عما أُعد له. والمقصود بفساد النظرة الداروينية للحياة هو فساد الأساس والأصل الذي قامت عليه، وكذلك فساد النتائج التي تولدت عن الحضارة الرأسمالية والتي كانت وما زالت خطيرة على البشرية جمعاء من حيث إفسادها للعيش ثم الشقاء النفسي وإتعاس الإنسان بدل إسعاده. 

لقد أنتجت النظرة الداروينية الرأسمالية للحياة الفساد السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وأنتجت الحروب والصراعات ثم العنصرية والقومية وغيرها من الشرور، حتى أشار بعض الرأسماليين الغربيين أنفسهم إلى قبح وإجرامية هذه النظرة وبالأخص ما انبثق عنها من داروينية اجتماعية، والتي توجت بالأفكار العنصرية الأوروبية كالنازية والفاشية.

ثم تسعى المقالة إلى تبيان النظرة الداروينية الفاسدة للحياة بأنها روح تسري في جميع الأفكار والأنظمة الرأسمالية، ويمكن بذلك إدراك سبب تبني بعض الدول لسياسة «مناعة القطيع» في مجال الطب التي تقع في ذات السياق، ثم ندرك لماذا فشلت هذه السياسة كنموذج وتراجعت عنها بريطانيا وأمريكا. والخلاصة النهائية أنه ما لم تجتث هذه الروح الرأسمالية الشريرة الفاسدة، فلن تتخلص البشرية من هذا الفساد خاصة وأن هذه الداروينية غير مقصورة على الداروينية الاجتماعية فقط، وانما تجاوزتها لتصبح نظرة عامة للحياة، وروحًا تسري في جسد الحضارة الرأسمالية كلها من رأسها حتى أخمص قدميها.

الداروينية الاجتماعية الوجه الأقبح والأفسد للرأسمالية

نشأت الداروينية الاجتماعية معتمدة على قانون الانتخاب الطبيعي الذي نادى به عالم الأحياء الإنجليزي تشارلز داروين في تفسيره لخرافة تطور الكائنات الحية وقدرتها على التكيف والبقاء في الصراع، وقد نظَّر الداروينيون الاجتماعيون وأهمهم هربرت سبينسر ووالتر باغهوت لفكرة تفوق نخب مصطفاة من الجنس البشري مقابل تخلف أصناف أخرى منه، بالاعتماد على نظرية داروين وقانون الانتخاب الطبيعي ذاته.

لقد أكمل سبينسر مسيرة أستاذه داروين وأستاذ أستاذه مالثوس، معتبرًا أن بعض المجموعات البشرية استطاعت التكيف والتطور اقتصاديًا وعلميًا، مقارنة بمجموعات أخرى بقيت متخلفة، فيكون استغلال أو استعباد المجموعات المتخلفة من قبل المجموعات المتطورة في نظره أمرًا عاديًا، بل هو قانون الطبيعة الذي لا تجوز معاندته.

وقد ظهر مصطلح «الداروينية الاجتماعية» لأول مرة عام 1879م في مقالة لــ«أوسكار شميدت» ثم تم تداول المصطلح ودرج في العالم الناطق بالإنجليزية متأخرًا، فقام المؤرخ الأمريكي«ريتشارد هوفستاتر» بنشر مؤلفه «الداروينية الاجتماعية في الفكر الأمريكي» خلال الحرب العالمية الثانية عام 1944م. وذلك بالرغم من شيوع النظريات حول الارتقاء الاجتماعي والارتقاء الحضاري في أوروبا خلال عصر «التنوير» قبل داروين. وتتميّز الداروينية الاجتماعية بأنها تستمد أفكار داروين من حقل علم الأحياء في التطور والصراع والبقاء للأصلح وتطبقها على الدراسات الاجتماعية والمجالات السياسية.[1]

إن فساد النظرة الداروينية الاجتماعية للحياة وقبحها واضح وضوح الشمس حتى للرأسماليين أنفسهم، فهم يرونها نظرة عنصرية غير إنسانية، تقسم الناس على أساس العرق واللون والشكل الخارجي، وتؤجج الحروب والصراعات وتؤدي إلى الاستغلال والاستعمار وإلى الإبادات الجماعية للبشر، فكل الشرور تتجسد فيها؛ لذلك هم يحاولون التملص والتنصل منها ويدعون محاربتهم لها بلا هوادة!!

خطورة ما نتج عن النظرية الداروينية تاريخيًا

بسبب النتائج الخطيرة التي ترتبت على الداروينية السياسية في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، والتي توجت بقيام حرب عالمية ثانية صارع فيها الرأسماليون بعضهم بعضًا، حيث هزم الطرف المنتصر الدول التي حملت أفكار النظرية الداروينية الاجتماعية للحياة كالنازية الألمانية والفاشية الإيطالية والعنصرية اليمينية التي تفشت في كل أنحاء أوروبا، فلمس الغرب بيديه بل بدمه خطورة أفكار المدرسة الداروينية الاجتماعية والسياسية، وأخذ يعمل على محاربتها واستئصالها.

ولكن الغرب الرأسمالي بعدما رأى مكامن الخطر في هذه الفكرة الداروينية على الغرب نفسه، ادعى التخلي عنها ومحاربتها، بيد أنه لم يعالج هذا الفساد من جذوره بتحديد أصول هذه الفكرة وأسباب نشوئها ثم التخلص منها، بل اكتفى بترقيع نتائج هذه الفكرة التي ألحقت به أفظع الأضرار، وأبقى الجذور والأصول المولدة للداروينية كما هي. وهذا يدلنا على وجود خلل متأصل ما زال قائمًا في الحضارة الرأسمالية وفي طريقة تفكيرها، خصوصًا طريقة تفكيرها الفاسدة التي قُطعت عن السببية والغائية.

فعند النظر في الكثير من الأفكار والأنظمة التي انبثقت عن الحضارة الرأسمالية كالاقتصاد والسياسة والاجتماع وغيرها، نجد أن روح النظرة الداروينية ما زالت تدفعها وتحركها. فالغرب ما زال يطبق النظام الاقتصادي الرأسمالي، وعند التمحيص الحقيقي نجد أن النظرية الاقتصادية الرأسمالية تقوم على نفس النظرة الداروينية للحياة، وهو لا يقل خطورة في نتائجه عن نتائج الداروينية السياسية.

هذا غيض من فيض مما نتج من مخاطر -عبر التاريخ- عن النظرة الدراوينية للحياة، ومما حدث من مساوئ وجرائم وإجحاف وفساد على الغرب نفسه وعلى العالم؛ ولكن أهل هذه الحضارة الرأسمالية لم يريدوا أن يواجهوا حقيقة فساد الأصول التي قامت عليها حضارتهم؛ لأنهم قد ساروا أشواطًا بعيدة في تطبيق هذه الحضارة وفي فرضها على العالم بالقوة وبالاستعمار وبالإعلام المزيف وبجيوش العملاء الفكريين والسياسيين التابعين لهم؛ ولذلك هم لا يريدون التراجع عن فسادهم بسبب تحكم طغمة رأسمالية فاسدة ومستفيدة من هذه الأوضاع وهي لا تريد تغييرًا، وعامة الرأسماليين لا يميلون إلى القيام بالتغيير من الداخل بفعل قوة الاستمرار أو القصور الذاتي المؤثر على بقاء واستمرار وجود وجهة النظر وأنظمة الحياة.

إذًا، حتى وإن نبذ الغرب فكرة الداروينية الاجتماعية بعد أن اكتوى بنارها في حربين عالميتين، إلا أن تأثيرها الباقي في صور مثل الليبرالية الفردية والرأسمالية التي تركز القوة بيد الشركات الأقوى، والهوية الوطنية التي تركز فكرة الانتماء لجماعات بشرية تنظر لنفسها بصورة مستعلية على غيرها وما شاكل، يجعل التخلص منها أمرًا صعبًا؛ ولذلك هم بحاجة إلى حضارة أخرى تشكل بديلًا صالحًا، لتقلع حضارتهم من جذورها وتطهر الأرض من فسادها، وحتى ذلك الحين ستستمر عملية الترقيع للثوب البالي لهذه الحضارة الرأسمالية، ثم محاولات القيام بعملية التأقلم مع الظروف التي تواجهها في العالم تحت اسم التطور، وربما تنحط أكثر وينخرها الفساد أكثر وتتعفن أكثر وأكثر.

الداروينية السياسية والقومية العنصرية:

نجم عن فكرة الداروينية الاجتماعية فكرة الدراوينية السياسية، والتي أدت إلى بروز مفهوم الدولة القومية والأفكار العنصرية في أوروبا، فالشعور القومي يقوم في أساسه على فكرة تفوق (مجموعة عرقية أو دينية) على الجماعات الأخرى والأديان الأخرى والتي تحمل بذور العنصرية. وقد أدى صعود هذه الفكرة القومية إلى حدوث العديد من الحروب بين الدول الأوروبية ذاتها خلال القرن التاسع عشر والقرن العشرين والأحزاب القومية المتنامية حتى يومنا هذا.

وبالتحليل النقدي العميق والجذري لمنطلقات الحركات القومية كالنازية أو الصهيونية، يظهر أن «سوسة» الداروينية الاجتماعية قد نخرت فيها بشكل ظاهر وصريح، إما في أفكارها أو في ممارساتها، فهتلر زعيم النازيّة قام بإحراق أصحاب الإعاقات الدائمة والمرضى والضعفاء وكذلك الأجناس غير الأوروبية لأنهم لم يستطيعوا التطور والتكيف مع البيئة؛ وتم اعتبارهم كملوثات للمجتمع الألماني المتفوق. وكذلك نشاهد هذا الأمر في فكر الحركة الصهيونية التي قامت على فكرة أن يهود هم شعب الله المختار، وأنه يحق لهم ما لا يحق لغيرهم من الأمم؛ لأن الله خلق الأمم الأخرى «كالحمير لخدمتهم».

ولا يزال الغرب يتبنى فكرة القومية التي أنتجتها النظرة الداروينية، وما زال يقوم بالدعوة لها بالرغم من أزمتها وأزمة الدولة القومية. فقد فشل الغرب في حل المسألة القومية، وخاض الأوروبيون معارك وحروباً دامية لفرض الحدود بين القوميات. فالفكرة القومية والنزعة الوطنية قسمت أوروبا دولًا صغيرة وأوطانًا مجزأة. فهذه الروابط الوطنية والقومية هي من تجليات العنصرية وشعور بعض الأعراق البشرية بتفوقها على الأخرى.

كما ظهر من تصرفات الدول الأوروبية وأمريكا أثناء تفشي وباء كورونا، أن كل دولة تسعى وتتصارع مع الدول الأخرى للحصول على الأطباء والمعدات الطبية كالكمامات وأجهزة التنفس دون محاولة التعاون المشترك مع بعضها لمواجهة الوباء، وهذا ناجم عن الأنانية المستحكمة والسعي وراء المصلحة الخاصة لكل دولة، والذي هو نتيجة تحكم فكرة صراع البقاء الداروينية فيهم.

مركزية وتفوق أوروبا وعلاقته بالاستعمار:

نظرًا لشعور الرجل الأوروبي عمومًا -وخصوصًا الساسة والمفكرين منهم- بالتفوق والتعالي على الشعوب الأخرى، حيث إن الرأسماليين الغربيين بدأوا يرون أنفسهم كمخلوقات أكثر تطورًا وتقدمًا. فمثلًا المفكر الألماني الموسوعي ماكس فيبر في كتابه الأشهر والموسوم بعنوان «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية» والذي اعتبر أن الرأسمالية كانت مستحيلة في مجتمعات ليست مسيحية بروتستانتية.

وقد انبثق عن ذلك مفهوم تقسيم العالم إلى عالم غربي متحضّر وشعوب أخرى متخلفة، وبرر لهم هذا المفهوم أحقية استعمار شعوب العالم غير الأوروبية بحجة أنها تنتمي للأجناس البشرية الدنيا التي لا بد أن يتم تطويرها حتى تستطيع حكم ذاتها، وأن الحضارة الغربية يجب أن تنتدب عليها بحجة ترقيتها وتطويرها وتحضيرها. وليس هذا وحسب بل في مرحلة مستقبلية سوف تقوم الأعراق البشرية المتحضرة على الأغلب بالقضاء على الأعراق الهمجية في شتى أنحاء العالم.

الجذور العميقة للداروينية في الفكر الرأسمالي:

عند النظر في مؤلفات أكبر المفكرين الذين أسسوا للأفكار والأنظمة الرأسمالية، نجد أنهم يشتركون في الأصول والمنطلقات التي أسست وشكلت وجهة نظرهم عن الحياة، ونلاحظ أن أركان هذه النظرة للحياة قد اكتملت عند عالم الأحياء الإنجليزي «تشارلز داروين» ولذلك لا بأس من إلقاء بعض الضوء على نظرية داروين، من أجل فهم حقيقة النظرة الداروينية للحياة.

تحاول نظرية داروين تفسير نشوء وتنوع الأشكال المختلفة من الكائنات الحية بأنها ترجع إلى قانون التطور التلقائي العشوائي، والذي ينتخب أفضل الأفراد ليورثوا صفاتهم للأجيال القادمة من خلال آلية طبيعية تسمى صراع البقاء والبقاء للأصلح. فنظرية داروين تنطلق من فكرة الصراع بين الكائنات الحية، سواء بين أفراد النوع الواحد أم بين الأنواع المختلفة من الكائنات.

وتدعي نظرية داروين أن سبب أو سر الصراع هو تزايد أعداد الكائنات الحية ومحدودية كميات الغذاء التي توفرها الطبيعة. فالأنواع الحية تتكاثر وفق قانون متواليات هندسية في حين أن تكاثر الغذاء يجري وفق قانون متواليات عددية، أي أن عدد الأفراد يزيد بشكل تصاعدي أكبر من تزايد كميات الغذاء المتوفرة. فالمشكلة إذن هي محدودية الموارد الطبيعية والصراع بين الأنواع الحية الكثيرة عليها، وهو صراع من أجل البقاء في ظروف صعبة، والذي يفوز في هذا الصراع هو الأصلح، فبالتالي يكون البقاء للأصلح، والأصلح هو الذي يمتلك القوة لحيازة الثروة ويستطيع الدفاع عنها، وهو الذي يستحق ويُنتَخب من قبل الطبيعة ليورِّث صفاته إلى الأجيال القادمة، وهذا القانون هو الذي يؤدي إلى تطور الكائنات الحية، دون الحاجة لتدخل فاعل من قوة خارجية (خالق)، بل كل ما يجري يحدث بفعل قوانين طبيعية داخلية.

وقد اعتمدت الأفكار والنظريات اللاحقة التي نشأت في أوروبا على نظرية داروين، بوصف هذه النظرية علمًا طبيعيًا له موثوقية وشرعية علمية لنظرياتها ولأفكارها التي بنيت على هذه النظرية، كالداروينية الاجتماعية والاستعمار والنظريات العنصرية كالنازية والفاشية والقوميات المتطرفة… إلخ. وكذلك تم صبغ نوع من الشرعية العلمية للأفكار التي سبقت نظرية داروين كنظرية مالثوس في السكان، ونظرية الاقتصاد السياسي لآدم سميث وغيرها.

وفي هذه المقالة سنقوم بإطلاق اسم محدد على الأسس التي قامت عليها المدرسة العلمانية الرأسمالية، وما تبعها من نظريات في الاقتصاد والسياسة والاجتماع وعلى كل الأنظمة التي انبثقت عنها، وهو النظرة الداروينية للحياة. ولسنا نعني بها أن داروين هو الذي أنشأها أو أسسها، بل هي نظرة متجذرة ومتأصلة في المبدأ الرأسمالي منذ بذرته الأولى في القرن السادس عشر الميلادي، استقاها داروين من أسلافه ولكنه أكمل بنظريته أركانها ثم نشرها ودعا إليها تحت غطاء العلم الطبيعي، فأصبحت هذه النظرة الداروينية للحياة هي النظرة الرأسمالية للحياة.

وبعد أن تبنى الغربيون نظرية داروين وتشربت قلوبهم روحها، أضحت النظرية الداروينية الاجتماعية أمرًا عاديًا ومقبولًا في العلوم الاجتماعية؛ لأنها أصبحت ذات شرعية باستنادها إلى نظرية علمية (داروين) وإلى قوانين الطبيعة، وانبثق عن هذه النظرة الداروينية الكثير من الأفكار العنصرية كالنازية والفاشية، وتأثرت بها الفلسفات الاشتراكية والوجودية وفلسفة نيتشه وكذلك نظريات فرويد في علم النفس وبعض الاتجاهات الأدبية، وكذلك خدمت هذه النظرة الاقتصاد الرأسمالي وجعلته مدعمًا بالعلوم الطبيعية وقوانينها، تلك العلوم التي يقدسها الرأسماليون باعتبارها المرجعية الطبيعية للحق.

داروين ومفكرو الرأسمالية:

يلاحظ أن نظرية التطور التي تفسر تطور الحياة دون توجيهٍ مصممٍ حكيم (خالق) تشبه إلى حدٍّ كبير الطريقة التي يتطور بها اقتصاد السوق الحر، بحيث يبذل كل فرد أو شركة جهدهم لتحقيق الازدهار، دون الحاجة إلى مُخطِّطٍ مركزي (تدخل الدولة).

لقد كان تأثير الاقتصاديين السياسيين على داروين واضحًا تمامًا، فقد أمضى تشارلز داروين العديد من السنوات متجولًا فكريًا بين أفكار دافيد هيوم، وآدم سميث، وروبرت فيرغسون، وهتشينسون. وعندما كان في كامبريدج سنة 1829م كتب في رسالة: «تتكون دراساتي حول آدم سميث وجون لوك».

وقد كتب تشارلز داروين في سيرته الذاتية: في سنة 1838 بعد أن بدأت بحثي النظامي، قرأت كتاب مالثوس عن السكان، وكنت مهيأ لتقدير قيمة الصراع من أجل البقاء… من خلال ملاحظاتي المستمرة الطويلة لعادات الحيوانات والنباتات. لقد أذهلني أنه في ظل هذه الظروف فإن التغييرات الملائمة (المناسبة) ستسبب حفظ النوع، والتغييرات غير الملائمة ستؤدي إلى التدمير. ونتيجة هذه العملية هو ظهور أجناس جديدة. وهنا أمسكت بنواصي نظرية البقاء للأصلح.

ويقول مات ريدلي حول هذا الموضوع: «تتطور الأفكار بالنسب مع التغيير، مثلما تفعل الأجسام، وقد حصل داروين على الأقل على هذه الفكرة من الاقتصاديين، الذين حصلوا عليها من فلاسفة تجريبيين. من لوك ونيوتن إلى هيوم وفولتير إلى هتشينسون وآدم سميث إلى مالتوس وريكاردو إلى داروين ووالاس. قبل داروين كان المثال الأسمى لنظام غير مصممٍ هو اقتصاد آدم سميث الذي رأى أن تطور الاقتصاد يكون بشكلٍ تلقائيّ وعفويّ من خلال تصرفات الأفراد، بدلًا من أن يتحكم فيها ملك أو برلمان…فمثلما قام داروين بإزالة تحكم الله (الخالق) -في الأحياء-، قام سميث بإزالة تحكم الحكومة في الاقتصاد»

جذور النظرة الداروينية للحياة:

من الواضح تمامًا بأن النظرة الداروينية للحياة هي عينها النظرة الرأسمالية للحياة، وأن هذه هي النظرة المؤسسة التي قام عليها الفكر الرأسمالي، وهي فكرة وجدت جذورها عند فلاسفة الرأسمالية قبل نظرية داروين. فداروين نفسه لم يؤسس هذه النظرة للحياة، وإنما استخدم الأسس النظرية للرأسمالية كصراع البقاء والحق الطبيعي والندرة النسبية والتطور الطبيعي، وطبقها عمليًا على فكرة نشوء وتطور الكائنات الحية، ثم أنتج منها نظريته.

وبالتدقيق في نظرة داروين هذه للحياة، نجدها نظرة متأصلة عميقًا في الأفكار المؤسسة للرأسمالية عن الوجود والحياة قبل كتابة نظرية داروين سنة (1860م)، فقد سبقه قس يدعى توماس مالثوس (1789م) حيث وجدت بذور هذه الأفكار عنده، وسبقهما آدم سميث (1776م)، الذي يعتبر المؤسس لقواعد الاقتصاد الرأسمالي التقليدي في كتابه ثروة الأمم. وهي نظرة موجودة قبلهم عند جان جاك روسو (1770م) في نظرية العقد الاجتماعي، والتي تبلورت على يد جون لوك (1680م)، ووجدت جذورها الأساسية في فكر توماس هوبس (1651م) في بريطانيا.

وأيضًا تأثر داروين بمدرسة التطور الطبيعي الفرنسية، التي أنشأها الفرنسي جورج دي بوفون في عام (1780م)، وأيّد فيه فكرة تطور الكائنات الحية. وكان جون لامارك من العلماء الطبيعيين المتأثرين بدي بوفون، التي سُميت نظرية التطور (اللاماركية) باسمه، وله كتاب (التاريخ الطبيعي للحيوانات اللافقارية) صدر في عام (1820م).

نظرية الصراع والتطور: ماركس مفكر أوروبي، وهو ابن بيئته:

لقد ظهرت نظرية الصراع والتطور الطبيعي مرة أخرى -بالتزامن مع داروين- لدى مفكر الاشتراكية الأكبر كارل ماركس ومعلمه هيغل في القرن التاسع عشر وبالتزامن مع داروين. فكما طبق داروين نظرته الداروينية للحياة في مجال علم الأحياء (1860م)، قام ماركس بتطبيق ذات النظرة وذات الأفكار التي سادت عصره على الإنسان والتاريخ، وبنى عليها نظريته في حركة التاريخ والصراع الطبقي وتطور المجتمعات، والتي سميت بالمادية التاريخية (1848م).

وعليه لا بد من الانتباه إلى مسار تطور حركة الفكر الرأسمالي في أوروبا، لنلفت النظر إلى أن المادية التاريخية لماركس، هي جزء من هذا المسار تاريخيًا لا خروجًا ناشزًا عنه. فماركس أتى بطروحاته الفكرية في سياق أوروبي وكانت أفكاره جزءًا منها، وهذه إشارة نرسل بها إلى من يحمل لواء هذه الأفكار ويدعو لها، ويعتبرها علمًا يفسر حركة التاريخ، لحقيقة وجذور الأفكار الشيوعية كإحدى إفرازات تطور الفكر الرأسمالي الأوروبي المبني على النظرة الداروينية الفاسدة للحياة، فأفسدت كل ما بني عليها.

سقوط نظرية التطور الدراوينية

لا يُستغرب أن يستميت الرأسماليون -وإخوانهم الاشتراكيون- في الدفاع عن النظرة الداروينية للحياة وعن أساسها العلمي أي نظرية داروين، فيلاحظ وجود استماتة في محاولات ترقيع نظرية داروين -تحت اسم التطوير والتحديث- ومحاولات لأقلمتها مع التطورات العلمية الحديثة في علوم الأحياء، خصوصًا بعد أن ظهر فساد نظرية داروين التقليدية وسقوطها علميًا، حين تم اكتشاف سر الوراثة في علم الأحياء، فبان للعلماء أن صفات الكائنات الحية لا تخضع بتاتًا لدعاوى داروين حول صراع البقاء والبقاء للأصلح والانتخاب الطبيعي، واتضح أن هناك قوانين داخلية أصيلة في جوهر الكائنات تحكم الصفات الوراثية للكائنات الحية وهي الكروموسومات، وأنها هي المسؤولة عن تشكل الأعضاء في الأجسام وعن جميع صفات الكائنات الحية، ولا علاقة للظروف الخارجية بهذه الصفات بتاتًا كما ادعى داروين.

إذًا، اتضح لعلماء الغرب والشرق بأن هذه النظرية قد أسقطها علم الحياة نفسه والذي تطور في أوروبا نفسها، وبما أن الأسس الفكرية التي قامت عليها هذه النظرية فاسدة وساقطة علميًا، فيكون جميع ما بني عليها من نظريات وأفكار هي أيضا فاسدة -من وجهة نظرهم العلمية- خصوصًا وأن الرأسماليين يعتبرون أن قوانين الطبيعة هي المرجعية الوحيدة، وأن ما خالف تلك القوانين غير صالح بل هو فاسد، وبالتالي وجب عليهم أن يهدموا جميع العلوم الاجتماعية التي قامت على هذه الداروينية، وكذلك وجب عليهم أن يهدموا الاقتصاد الرأسمالي الذي أقام بنيانه على نفس منطلقات وأسس الداروينية. فهل فعلوا ذلك؟

كلا لم يفعلوا! بل أصروا على التمسك بحضارتهم وبكل أفكارهم ونظرياتهم وأنظمتهم الفاسدة، بعد أن بان لهم فسادها وزيفها، وجل ما قاموا به هو محاولات لترقيعها تحت اسم التطور والتحديث، فياللعجب!!!. 

[1]   للمراجعة يمكن الاستزادة من عبدالله صالومة، دراسة حول نظرية التطور والداروينية الاجتماعية بعنوان”قانون التطور”، 2010 .

الهوية الحضارية للأمة الإسلامية، ضمانة الرقي والنهوض والخيرية! (1)

 الهوية الحضارية للأمة الإسلامية، ضمانة الرقي والنهوض والخيرية! (1)

 

ثائر سلامة، أبو مالك

مجلة الوعي: العدد 411 - السنة الخامسة والثلاثون – ربيع الثاني 1442هـ – تشرين الثاني 2020م

يقول أحد كبار رموز التخطيط الاستراتيجيّ للولايات المتّحدة الأمريكية، المستشرق المعاصر»برنارد لويس»: «لقد كانت عادتنا الّتي تعوّدناها في العالم الغربيّ هي أنه كلّما اتّجه الشرقيّون إلينا ازداد تمسُّكنا بالغرب لنجعل أنفسنا مثالًا للفضيلة والتقدُّم. فإذا تشبّهوا بنا عددنا ذلك أمرًا حسنًا، وإذا لم يكونوا كذلك عددنا ذلك سوءًا وشرًّا؛ فالتقدّم هو في التشبّه بنا، أمّا إذا لم يقتدوا بنا فذلك هو التقهقر والاضمحلال!! إلاّ أنّ الأمر ليس كذلك بالضرورة، فعندما تصطدم حضارتان تسيطر إحداهما وتتحطّم الأخرى، قد ينبري المثاليّون والمفكّرون فيتحدّثون بطلاقة وسهولة عن تزاوجٍ بين أحسن العناصر من الحضارتين، إلاّ أنّ النتيجة العاديّة في هذا التلاقي هي تعايشٌ بين أسوأ العناصر من الاثنين»1.

وقال يوجين روستو2 Eugene Rostow: «يجب أن ندرك أن الخلافات القائمة بيننا وبين الشعوب العربية ليست خلافات بين دول أو شعوب؛ بل خلافات بين الحضارة الإسلامية والحضارة المسيحية… إن الظروف التاريخية تؤكد أن أمريكا هي جزء مكمل للعالم الغربي فلسفته وعقيدته ونظامه، وذلك يجعلها تقف معادية للعالم الشرقي الإسلامي بفلسفته وعقيدته المتمثلة بالدين الإسلامي، ولا تستطيع أمريكا إلا أن تقف هذا الموقف في الصف المعادي للإسلام، وإلى جانب العالم الغربي والدولة الصهيونية؛ لأنها إن فعلت عكس ذلك فإنها تتنكر للغتها وفلسفتها وثقافتها ومؤسساتها»3.

تتشكل الهوية الحضارية المميزة لأمة من الأمم، بامتلاكها رؤية معينة عن الحياة، تقوم على مجموعة من القيم الاجتماعيّة والمعارف والمعتقدات والفنون والأخلاق والتقاليد والفلسفة، أي على عقيدة انبثق عنها تشريع يصوغ الحياة، يتمثل في طريقة للعيش، وينعكس على صورة قيم يرتضيها المجتمع، ومقاييس وقناعات تحكم بها الدولة، يُوثَّقُ في إطارٍ قانونيٍّ يَتَمَثَّلُ بدستورٍ وتشريعاتٍ تصون تلك القناعات والمقاييس والقيم وتحميها وتطبقها، حتى تتحول إلى تقاليدَ وعُرَفٍ مجتمعيةٍ راسخةٍ، مما يعطي تلك الأمة شخصيةً معينةً، وتجانسًا فكريًا سُلوكيًا قِيَمِيًّا يكفُل للإنسانِ السعادةَ والطمأنينةَ؛ وحيث إن سلوك الإنسان الذي سنحكم من خلاله بأنه إنسان راقٍ ناهضٌ، أو على النقيض: منحطٌ،

وكذلك الحكمُ على علاقاتهِ الـمُجْتمَعِيَّةِ، أي على النظام الذي سيصوغ حياته فردًا وكائنًا مجتمعيًا، مرتهنٌ بسلامة ذلك التصور الشامل للوجود، ومبنيٌّ عليه، أو منبثقٌ عنه انبثاقًا ينتج منهجَ سلوكٍ، ونظام حياة تَمَثَّلَ في طريقةٍ في العيش، وتجلَّى قيادةً فِكريةً يخوضُ غَمَراتِ الحياةِ مُقْدِمًا أو مُحْجِمًا، وَفقًا لما تُقررهُ لهُ من صواب وخطأ، من خير وشر، أو حق وباطل، فلنا أن ندرك خطورة وأهمية امتلاك التصور العقدي الصحيح، والنظام المنبثق عنه على حياة الإنسان والمجتمع والدولة! وأما من ارتضى أن يعيش الحياة سبهللة من غير ما مقاييس ولا مفاهيم ولا قناعات، أو بمقاييس وقناعات مختلطة، يكون خيرها خيرًا يومًا، وشرًا يومًا آخر، فليس يعنينا، ولا نرتضي أن نجعله مثالًا ننهض وفقًا له!

خصائص ومقومات الحضارة الإسلامية معجزة! فكيف استبدل بها المسلمون غيرها؟!

ولئن أنعمنا النظر في مقومات الحضارة الإسلامية وخصائصها التي ميزتها على غيرها من الحضارات، فإننا سنجد أنها تميزت بِرِقيِّ تَصَوُّرِها عن الكون والإنسان والحياة، ثم في تَمَثُّلِ هذا التصورِ في إطار منهجٍ عقديٍّ شاملٍ راقٍ كُلِّيٍّ غَائيٍّ يفسرُ الكونَ والحياةَ، ويحدد علاقات الإنسان بالحقائق الكونية الكبرى4، وعلاقاتها هي بالإنسان، على وجه صحيح، ويوضح له غايته من الوجود، ويبينُ للإنسان موقعه ومسؤولياته ودوره في الحياة، رابطًا ذلك بما قبل الحياة الدنيا، وما بعدها.

ولقد صبَّ الإسلام ذلك المنهج العقدي الشامل في قالب «ذاتيٍّ مستقلٍّ، وفق طبيعته الكلية، التي تخاطب الكينونة البشرية جملةً، بكل مقوماتها وطاقاتها، ولا تخاطب «الفكر البشري» وحده خطابًا باردًا مصبوبًا في قالب المنطق الذهني»5، فكان عقيدةً نابضةً بالحياةِ، لا فلسفة جافَّةً باردةً، كان مفاهيم حيوية تحرك النفوس، وتبعث في أرجائها السكينة والطمأنينة والتأثر والتأثير، والانطلاق لحمل رسالته، والثقة المطلقة بالوصول للحقيقة المطلقة!

وزاوج الإسلام في الأهمية بين ذلك التصور العقدي، وبين النظام المتمثل في طريقة العيش، فسنَّ الإسلامُ للإنسان مسؤولياتٍ وواجباتٍ وعلاقاتٍ مجتمعية، وفلسفةً متكاملةَ الأسسِ والمقوماتِ، منبثقةً من ذلك التصوُّرِ الاعتقاديِّ وتستندُ إليهِ، تتعلقُ بنفسِهِ وأسْرَتِهِ ومجتمعه ودولته بل وبالبشرية جمعاء، تحقق العدل والإنصاف وتوازن بين الحقوق الفردية والمصلحة العامة والحق العام، ومتميزةً «بالدقة المتناهية في بناء الأحكام حتى لكأن الدارس الباحث في مسائل الفقه الإسلامي وآراء الفقهاء ونظرياتهم يشعر كأنما هو أمام ميزان حساس يوزن به الألماس، وتظهر به الفروق بين المتشابهات مهما دقت وغمضت»6،

ولقد وسِعَ التشريعُ الإسلاميُّ واستوعبَ مشاكلَ الإنسانِ؛ فقد عالج الإسلامُ المشاكلَ علاجًا جذريًا متعلقًا بجنس الإنسان، لا علاجًا متعلقًا بزيد أو عبيد، وراعى في العلاج زاوية تعلق العلاج بالأفعال، وأنزل الأحكام على الوقائع، وتميَّز التشريع الإسلامي «بالغنى بالنظريات القانونية في تنظيم الحقوق والالتزامات ومصالح المجتمع بصورة شملت كل شُعَبِ القانون المعروفة إلى اليوم، مبتدئة من علاقة الإنسان بأسرته من أحكام الزواج إلى الميراث وما بينهما، وتنتهي بأحكام القانون الدولي المنظم لعلاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الأمم والدول سلمًا وحربًا. كل ذلك نظَّمه النظام القانوني في الشريعة الإسلامية بأعدل القواعد، وأحكم الأحكام، وأسمى المبادئ وأخلدِها وأكثرِها رعايةً للمُثُلِ الإنسانيةِ العليا، وتطعيمًا للعنصر القانوني بالعنصر الخلقي.»7

كما وتميَّز التشريع الإسلامي بنصب مجموعة من القيم الرفيعة، ومكارم الأخلاق8، والمقاصد التشريعية، وراعت ذلك في حال التشريع والتطبيق مما يفضي للدمج بين القوانين والتشريعات وبين غاياتها، فيلمس أثرها في المجتمع نظامًا متجانسًا متكاملًا فعَّالًا، يأخذ بعضه بركاب بعض، ويجد المرء والمجتمع وازعًا من التقوى والقيم والأخلاق حين التطبيق، فيفضي للسعادة والاستقرار، وهذا كله مما لم يدرك الشارعون البشر شيئًا منه ولا خطر لهم ببال!

وحرص الإسلام كل الحرص أن يتمثل هذا النظام وهذا التصور العقدي على صورة عُرفٍ مجتمعية، وأضحى الخروج على القيم والأخلاق والمقاييس والمفاهيم والقناعات التي وضعها الشارع جريمة يعالجها الشارع على مستويات عدة تتناسب مع حجمها، فمن مسؤوليات مجتمعية تتمثل في النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمحاسبة والتغيير إلى الأطر على الحق أطرًا، ومنع مجالسة فاعل المنكر، إلى رفع السيف واستعمال القوة لتغيير المنكر، إلى مسؤوليات الدولة من العقوبات، إلى غير ذلك من الأطر التي تحافظ على سواد مجموعة القيم والمقاييس والقناعات المنبثقة عن العقيدة والتي تشكل الإطار الناظم للشريعة وأحكامها، والتي توجد نمطًا خاصًا من العيش، ونظامًا يصلح به الإنسان ويسعد به، ومنظومة من العُرَفِ التي يعتبر نقيضها منكرًا محارَبًا منبوذًا!

يقول القاضي د. وفيق زين العابدين: «التشريع الإسلامي يحمي القيم الأخلاقية والإنسانية بنصوص أكثر فعالية من التشريعات الوضعية: فليس هناك دائرة منفصلة للتشريع عن دائرة الأخلاق، وهذه إحدى سمات التشريع الإسلامي فحسب؛ إذ توجَّه العقوبات في الشريعة الإسلامية قِبل كل ما يمس الأخلاق الفاضلة دون أن يتوقف ذلك على رضا المجني عليه أو تخلُّفِ ضررٍ ما عن الجريمة؛ لأن غرض حماية الأخلاق يعلو على غرض حماية المجني عليه في حد ذاته، باعتبار أن الغرض الأول يتعلق بالمصالح المشتركة والنظام العام للمجتمع، والتراضي بين الجاني والمجني عليه لا يجعل الفاسد صالحًا ولا يُحل ما حرم الله؛ لذا فالشريعة تعاقب على شرب الخمر والردة والفُحش والزنا والفجور والشذوذ بغض النظر عن رضا طرفي الجريمة، ولا سلطان للحاكم في العفو عن هذه الجرائم؛ لأن التساهل في شأنها يؤدي إلى تحلل الأخلاق، وفساد المجتمع واختلال أمنه ونظامه.»9

وقد كان الملمح الأهم للتشريع الإسلامي متمثلًا في انبثاق النظام عن المعتقد «انبثاقًا ذاتيًا، غير مفتعل»01 فكان عميق الجذور، منسجمًا مع العقيدة التي قام عليها، خاليًا من التناقضات والاختلافات والنقص والخلل والعبثية، تتكامل نظمه السياسية، بشكلها المحدد، وخصائصها الرعوية، الضامنة لتحقيق العدل والأمن وإحقاق الحقوق، وفض الخصومات، والرعاية الصحية والتعليم، ونشر الدعوة والحفاظ على المبادئ التي قامت عليها الدولة، مع فلسفته الاقتصادية الاجتماعية، بكل أسسها ومقوماتها الهادفة لبناء المجتمع وفق نظام ضامن لكفالة الحاجات الأساسية «تتوازن فيه حقوق المرأة وحقوق الرجل، وحقوق الفرد وحقوق الجماعة، وحقوق المجتمعات، فلا يسحق الفرد باسم الجماعة ولا تهدر مصالح الجماعة لمصلحة فرد أو حزب أو فئة، يقوم على التكامل بين الأفراد الذكر والأنثى كل له رسالة محددة يكمل بعضهم بعضًا. والناس بمجموعهم تقوم حياتهم على التكامل لا على الصراع، تقوم على أن يحب الفرد المسلم لأخيه ما يحب لنفسه، فهم كالبنيان وكالجسد الواحد يكمل بعضهم بعضًا. الغني مع الفقير تقوم حياتهم على التكامل والتكافل لا على الحسد والتباغض والصراع الطبقي المقيت الذي يظهر في المجتمعات الرأسمالية المعاصرة، وأيضًا التكامل في المهمات المتعددة والمناشط والمواهب الإنسانية التي يكمل بعضها بعضًا، فلا يمكن للفرد أن يصنع لنفسه كل حاجاته ولكن الجماعة في الإسلام يتحقق في رحابها جميع معاني التكامل في الحياة والتكافل الذي يحقق مصالح الدنيا والآخرة»11 وتوزيع الثروات والاستفادة من المرافق والخدمات.

ويشكل هذا التكامل ضمانة لفعالية تلك الأنظمة، وبصورة تتواءم حلوله مع فطرة الإنسان، ومع عناصر كينونته الإنسانية، فتتعامل مع مقوماتها، وطاقاتها، ملبية حاجاتها الأساسية الحقيقية المنبثقة عن طاقة الإنسان الحيوية -ممثلة بغرائزه وحاجاته العضوية- تلبية متزنة غائية، راقية بالإنسان عن درجة البهيمية في إشباع تلك الغرائز والحاجات، غير متصادمة مع أشواقه الروحية، ومتناغمة -في الوقت ذاته- مع واقعه الإنساني المادي المجتمعي، غير قائمة على الأهواء والمصالح الآنية الضيقة، كما هو الحال في سائر التشريعات والنظم البشرية السائدة في العالم اليوم!

ولقد راعت تلك التشريعات الربانيةُ إنسانية الإنسان وعقله، وراعت أنه يعيش في عالم مادي، يعج بالمشاكل والنوازل، فكانت سمة التشريع المعجزة قدرته على النفاذ إلى أعماق المشكلات المختلفة، وما يؤثر فيها، وما يتأثر بها، والنظر إليها نظرة محيطة ستوعبة، مبنية على معرفة النفس الإنسانية، وحقيقة دوافعها وتطلعاتها وأشواقها، ومعرفة الحياة البشرية وتنوع احتياجاتها وتقلباتها، ثم وضع التشريعات الضامنة لإيجاد المجتمع الصالح والإنسان المصلح، وتحقيق المصالح للإنسان على وجه صحيح، يحقق الخير ويمحق الشر! يبسط العدل ويمحو الظلم!

ثم كانت معجزة التشريع الأخرى متجسدة في ربط التشريع بالقيم الدينية والأخلاقية، بحيث يكون التشريع في خدمتها وحمايتها، ولا يكون معولًا لهدمها، كما وتميزت الشريعة بما لا يوجد في غيرها من التشريعات، فقد جعلها الإسلام مقاييس مبنية على الاعتقاد، فكانت وازعًا عقديًا يزع الإنسان للالتزام بها مخافة الله، ومحبة في الله، ورجاء في جنب الله، مما يغني الإنسان عن الحاجة إلى قوة مصلتة عليه لتردعه ليلتزم القانون، بل تجعله يخضع لسلطان الله في السر والعلن، فلا يرى الإفلات من عقوبة الحاكم في الدنيا غنيمة ولا مكسبًا، فهو يعلم أن الله يراقبه، وعقوباتها دنيوية وأخروية.

ولقد تبلورت مجموعة القيم التي صاغتها الحضارة الإسلامية، والتي تؤسس للقناعات التي سيحيا عليها الناس، وترسخت في صميم العلاقات التي يقوم المجتمع عليها، فاقترن حفاظ الأمة والمجتمع على منظومة تلك القيم وحراستها، ومنع أضدادها أو ما يفسدها، برقي الأمة ونهضتها، وخيريتها، وانسجامها مع نفسها، واقتعادها مقعد الذروة أمام غيرها من الأمم، فكانت حصنًا منيعًا شديدًا يحمي ويحفظ، واقترن تغلغل الخلل لفهم وسيادة تلك القيم في الأمة بهبوطها وفرقتها، وتضعضع بنيان ذلك الحصن المنيع، حتى أصبحت -حين جافت التشريع الإسلامي ونأت عنه- نهشًا لسهام أعدائها، فوضعت الأمة في مهب ريح الاستعمار والاستحمار والتبعية.

ومع ذلك، فإن لقوة العقيدة الإسلامية، وصحة ودقة الشريعة الإسلامية من الأثر ما جعل الأمة وهذه الحضارة تصمد أمام زلازل ونوازل وحملات صليبية ومغولية وأمام محاولات إفنائها مرة بعد مرة، وعلى مدى قرون طويلة، وحقب متراخية، تراوحت بين الشدة والرخاء، والتطبيق البشري الحسن والسيئ لهذا النظام الرباني،

ولا يمكن أن ترتقي هذه الأمة وتقتعد مكانها السامق ثانية إلا إن حرصت على أن تسقي تلك الحضارة ومكوناتها حتى تبقى وارفة الظلال، شديدة الخضرة، فتبلور مفاهيمها -ثانية- بلورة دقيقة، تحسن فيها فهم تلك القيم ودورها في النهضة، وتصفيها مما علق بها من الشوائب في عصور الانحطاط، وتربط كل فكر فيها بالوحي، وتنقيها مما أدخل عليها من مفاهيم وقيم الحضارات الأخرى، وكلما أحسنت الأمة الإسلامية ذلك كانت أقدر على النهوض والسير في معارج العلا!

اهتزاز الهوية الحضارية للأمة الإسلامية

أما وقد اهتزت الهوية الحضارية للأمة الإسلامية في الواقع بعد أن أضحت نهبًا لكل طامع، فقد اختلَّ هذا النسيج، فوجدنا الأمة تعتقد شيئًا ولكنه لم يتمثل طريقة للعيش لديها، وشاهدنا اتساع شقة التباعد بين القيمِ التي تصوغ السلوكَ العامَّ عن تلك القيم التي ارتضاها الناس في مفاهيم الأعماق لديهم؛ أي ابتعدت عن المحتوى الفكري للرؤى والقناعات التي يمتلكها الناس، والتي تقوم على العقيدة الإسلامية، فكان واضحًا للعيان أن الناس تعيش في غربةٍ وتناقضٍ.

والأنكى من ذلك أن يُحكَمَ المسلمون بأمر مناقض لعقيدتهم ودينهم رغمًا عنهم، فثمَّ الشقاء الروحي والتعاسة ونكد العيش، والضعف والتردي، والانحطاط والهبوط!

ولقد كانت الحملة العالمية شديدة الفتك حتى إن جموعًا كثيرة من الأمة، في العقود الأخيرة منذ أواسط القرن العشرين، كانت قد اعتقدت عقيدة أمشاجًا خلطت تصورات رأسمالية ليبرالية علمانية اشتراكية مع رؤى وقيم إسلامية، واستوردت قوانين غربية تناقض ما آمنت به من تشريعات ربانية، فلا تسل عندها عن حتمية أن ينتج الشقاء والتردي والانحطاط عن هذا، والأهم أن الأمة لن تتمكن من الانعتاق ولا النهوض إلا بالرجوع لهذا الأصل الذي تقوم عليه الحضارة فتنقيه من شوائب الاختلاط والتناقض!

وبدهي أنه لا يمكن لأمة فقدت هويتها الحضارية أن تقتعد أي مقعد بين الأمم، ولن ترحمها الأمم الأخرى، بل ستكون بضعفها هذا، عرضة للنهب والسلب والسيطرة والاحتلال، فتكون أضيع من الأيتام على مأدبة اللئام! خصوصًا إذا سادها شذاذُ الآفاق، رويبضاتٌ عملاء رعاةٌ لمصالح الغرب الكافر، باعوا أمتهم بثمنٍ بخسٍ كراسيَّ مهترئةٍ! 

1 برنارد لويس – الغرب والشرق الأوسط – تعريب نبيل صبحي – بيروت – د.ت – ص60 نقلًا عن نشوء الحضارة الإسلامية للأستاذ أحمد القصص.

2 رئيس قسم التخطيط في وزارة الخارجية الأمريكية، ومساعد وزير الخارجية لشؤون الأمن القومي، ومستشار للرئيس الأمريكي السابق ليندون جينسون لشؤون الشرق الأوسط حتى عام 1967.

3 جلال العالم، قادة الغرب يقولون: أبيدوا الإسلام، دمروا أهله، القاهرة، المختار الإسلامي للطباعة ط 2، ص 24-25، وظاهرة الخوف من الإسلام (الإسلاموفوبيا) في الغرب، أسبابها، مظاهرها، ونتائجها، إياد صلاح شاكر. دار الكتب العلمية، ص50.

4 الله، والربوبية، والألوهية، والملك والسلطان، والحاكمية، وصلة الخلق والتنظيم والتدبير.

5 خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، الشهيد سيد قطب رحمه الله، كَلِمَة في المنْهج.

6 الدكتور مصطفى الزرقا، خصائص التشريع الإسلامي

9 محاسن السياسة الجنائية الإسلامية، د. محمد وفيق زين العابدين، مجلة البيان العدد 288.

10 أنظر: خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، الشهيد سيد قطب رحمه الله، كَلِمَة في المنْهج.

11 خصائص وأهداف النظام الاجتماعي في الإسلام، د. عبدالمحسن الصويِّغ. موقع الألوكة.

دين جديد برعاية إماراتية سعودية مصرية: 3- الدور المصري في تحريف الدين

 دين جديد برعاية إماراتية سعودية مصرية: 3- الدور المصري في تحريف الدين

 

حامد عبد العزيز    

مجلة الوعي: العدد 411 - السنة الخامسة والثلاثون – ربيع الثاني 1442هـ – تشرين الثاني 2020م

في يناير/كانون الثاني 2015م، دعا السيسي إلى تجديد الخطاب الديني، وخاطب العلماء بقوله: «والله لأحاجيكم يوم القيامة، فقد أخليت ذمتي أمام الله؛ لأنه لا يمكن أن يكون هناك دين يتصادم مع الدنيا كلها». وسارع المسؤولون لتطوير المناهج بالأزهر لتلبية الدعوة، فأعلن وكيل الأزهر الشريف عباس شومان أن المشيخة استشعرت خطورة المرحلة التي تمر بها الأمة بظهور أفكار ورؤى تخالف المنهج الأزهري الوسطي، فبادرت بالعمل على إصلاح منظومة التعليم الأزهري، فتم حذف ما قد يفهم في غير معناه. وأضاف شومان أن الأزهر سيقوم بتعديل المناهج الدراسية كل ثلاث سنوات من أجل مواكبة العصر ومواجهة الفكر المتطرف، وفق وصفه. وأكد شومان حذف الأحاديث التي قد تفهم خطأ مثل: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله» مشيرًا إلى أن تلك الأحاديث قد يفسرها البعض خطأ، فتم حذف كل ما قد يفهم في غير معناه، وتم استبدال (الإفساد في الأرض) (بالإرهاب)، و(البغي) (بحكم الخروج على الحاكم).

   كما قامت لجنة الأزهر المـُستأمَنة على مراجعة مناهج التربية الدينية بحذف بعض الجمل من المناهج التعليمية كتلك الجملة: «ما تفعله إسرائيل حاليًا يعد أفظع أنواع الإرهاب والتطرف، ماذا تسمي طرد وتشريد شعب بأكمله من بلاده وهدم منازله والاعتداء عليها بالقوة؟». بدعوى أن تلك العبارات: «ليست مناسبة للسن الذي يدرس لها من طلاب الإعدادي، لما بها من قسوة لا تراعي مشاعر الأطفال».

   ناهيك عن الخطبة الموحدة، وتجريم الدعاء على الظالمين، ومعركة الطلاق الشفهي، والدعوة إلى تحديد مساجد معينة لصلاة الجمعة، فضلًا عن تخصيص مساجد وأئمة للتراويح، وتحديد ألف مسجد فقط للاعتكاف، وإقصاء من يخالف.

دعوة صريحة لعلمنة الدين:

    يقوم الأزهر الآن بمحاولة تبديل أفكار الإسلام، والهجوم على الحركات الإسلامية الداعية لإقامة دولة الخلافة والوصول للحكم؛ لتحل محلها منهجية الأزهر التي تعمل على التركيز على تطوير العلوم الدينية والإسلامية بعيدًا عن السياسة. وهي بلا شك دعوة إلى علمانية الدين تبعًا لعلمانية الدولة.

   ولا ننسى الشيخ علي جمعة الذي دعا الجيش إلى قتل المعتصمين أو المتظاهرين قائلًا: «لا تخف بدعوى الدين، فالدين معك، والله معك، ورسوله معك، والمؤمنون معك، والشعب بعد ذلك ظهير لك». والذي قام بتحليل الفوائد والودائع البنكية بدعوى أنَّ علة الربا كانت في الذهب والفضة ونحن الآن نتعامل بالأوراق النقدية. ولا كلام سعد الدين الهلالي الضيف الدائم في فضائيات النظام في وصلته النفاقية الشهيرة: «فابتعث الله أيضًا رجلين، كما ابتعث وأرسل من قبل رجلين موسى وهارون، أرسل رجلين وابتعث رجلين، ما كان لأحد من المصريين أن يتخيل أنَّ هؤلاء من رسل الله عزَّ وجلَّ، وما يعلم جنود ربك إلَّا هو… خرج السيسي ومحمد إبراهيم».

الترويج بأن الخلافة فكرة تاريخية عفا عليها الزمان:

   وفي وثيقة نشرتها (المصري اليوم) وقالت بنسبتها إلى الأزهر خرجت من مؤتمره العالمي (التجديد في الفكر الإسلامي) الذي عقد في الفــترة في 2-3 جمادى الآخرة 1441هـ الموافق 27-28 كانون الثاني/يناير2020م، قرر علماء الأزهر محاربة: «رفع شعارات الخلافة الكاذبة لبث الفتنة وتمزيق الأوطان وإلصاق صفة الإسلام بها مخالفة لكل قيمة في الإخاء والمساواة والشورى الديمقراطية» ليؤكِّدوا بعدها في ذات الوثيقة على أنَّ هذه الوثيقة يجب الالتزام بها في «تحديدها لمبادئ طبيعة الدولة ومقوماتها في الحكم المدني الدستوري على أسس ديمقراطية تحقق جوهر العدالة والحرية والمساواة بعيدًا عن فكرة الخلافة التاريخية».

   لقد حظي مفهوم الحاكمية بنصيب وافر من البيان أرادوا من خلاله تفريغه تمامًا من محتواه من خلال الهجوم على الجماعات الإسلامية ووصفها بالمتطرفة لأنها تقول أن لا حكم إلا لله بمعنى أنه سبحانه وحده له حق التشريع، أي أنه يجب أن يكون دستور الدولة والقوانين مستنبطة من القرآن الكريم والسنة النبوية، يقوم بذلك العلماء المجتهدون الذي توفرت فيهم شروط الاجتهاد، ولقد حاول البيان الختامي التدليس على الناس عندما قرر أن الحاكمية تعني (عدم إسناد الحكم إلى الناس) وكأن الدولة الإسلامية دولة إلهية أو تحكمها ملائكة! إن الدولة الإسلامية دولة بشرية يقوم عليها بشر، ولكن هؤلاء الحكام إنما يحكمون بما أنزل الله، فهناك ما أنزل الله وهناك من يحكم به. ونحن نسأل شيخ الأزهر بما أنك أقررت في بيانك هذا بأن «الحكم البشري المنضبط بقواعد الشرع لا يتعارضُ مع حاكمية الله، بل هو منها» فهلَّا قلت لنا وأين النظام، الذي أنت من أركانه ودعائمه، أين هو من الحكم المنضبط بقواعد الشرع؟ وأين هو من حاكمية الله بهذا المفهوم؟

   ومما ورد في البيان أيضًا «إن الخلافة نظام حكم ارتضاه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسب زمانهم، وصلح عليه أمر الدِّين والدُّنيا، ولا يوجد في نصوص الكتاب والسنة ما يلزم بنظام حكم معين، بل كل نظام من أنظمة الحكم المعاصرة تقبله الشريعة ما دام يوفّر العدلَ والمساواة والحرية، وحماية الوطن، وحقوق المواطنين على اختلاف عقائدهم ومِلَلِهم، ولم يتصادم مع ثابت من ثوابت الدين»، فهذا من أعظم التدليس على الناس في دين الله.

دور الإعلام المصري:

   مما لاشك فيه أن النظامين الإماراتي والسعودي في هذا المجال عيال على النظام المصري، الذي لديه خبرة طويلة في صناعة الأفلام والمسلسلات التي تروج للنظام وتستهدف نشر الرذيلة والفجور في المجتمع، أو التي تعمل على تشويه الحركات الإسلامية، وحتى تشويه المتدين العادي، كفيلمي (الإرهابي) (والإرهاب والكباب) للممثل عادل إمام، ومسلسل هذا العام (الاختيار) الذي تنتجه جهات سيادية مصرية والذي تعمد الهجوم على ابن تيمية واعتباره إرهابيًا قد افتى بقتل المدنيين، هذا بخلاف الهجوم الذي تشنه صحف النظام وبرامج التلفاز على الإمام البخاري وصلاح الدين الأيوبي، حيث وصف الكاتب يوسف زيدان القائد صلاح الدين الأيوبي في لقاء تلفزيوني بأنه (أحقر شخصية تاريخية)، وقبلها قال: إن (المسجد الأقصى المقصود قريب من مكة، وليس بالقدس)، كما ظل المذيع إسلام بحيري شهورًا يهاجم في برنامجه التلفزيوني الإمام البخاري حتى أدانه القضاء بالسجن، ثم خرج بعفو رئاسي، فلم يطق السيسي أن يبقى الرجل حبيسًا، بينما هو ينفذ سياسة ممنهجة تتبعها الدولة المصرية بناء على توصيات تقرير مؤسسة راند الأمريكية الصادر منذ عشر سنوات بعنوان: (بناء شبكات مسلمة معتدلة) والذي دعا لما يسميه (ضبط الإسلام نفسه وليس الإسلاميين) ليتماشى مع الواقع المعاصر، فالتقرير دعا للدخول في بنية الإسلام التحتية بدايةً من الطعن في الثوابت الدينية، وانتهاء بالهجوم على الشخصيات والرموز الإسلامية. وهذا ما يقوم على تنفيذه النظام المصري الذي أطلق كلابه لتنبح صباح مساء في وسائل إعلامه المختلفة المسموعة والمرئية للهجوم على الإسلام ورموزه والحركات الإسلامية.

ما الهدف من وراء تجديد الخطاب الديني المزعوم؟

   لا أرى في هذه الهجمة إلا سبيلًا لضرب الأحكام الشرعية في نفوس الناس، ليصبح المسلم بعدها بلا هوية ولا حاكم، إلا مجرد بعض الأوامر والنواهي التي تُقِرُّها الدولة-حسب مصلحتها- والـمُعرَّضة للتغيير بحسب البيئة والظروف وأهواء الحكام، ويستمر هذا التفريط إلى أن يصل إلى أصول الإسلام وثوابته، فيصبح الحجاب فضيلة لا يُنكر على من تتركه وليس حكمًا شرعيًا ثابتًا بالنص، والصلاة شأن شخصي، والقرآن يَحُضُّ على الإرهاب، فيجب إلغاء كتب التفاسير القديمة واستحداث تفسير عصري للقرآن الكريم، بل وقد تم حرق بعض الكتب الإسلامية في تظاهرة إعلامية ساقطة، وهكذا حتى يقضوا على قيمة الدين بالكلية في نفوس المسلمين. وفي هذا الصدد يقول الشيخ فهد العجلان: «إذا كانت الأوامر الشرعية غير مُلزِمة، والنواهي غير ممنوعة، فإن السير على هذا الطريق يوصلك إلى بوابة العَلمانية، وإن لَعَنتَها وبَصَقتَ عليها؛ فالعلمانية تعني فصل الدين عن الدولة؛ بمعنى عزل الأحكام الشرعية عن أن تكون مؤثرة في نظامٍ عامٍّ مُلزم للناس، وحين تكون الأحكام الشرعية شأنًا خاصًا يُحمَد فاعله ولا يُتعرَّض لتاركه، وليس لها تعلُّق بنظام أو سلطة فنحن بهذا في وسط باحة العَلمانية».

الدور الغربي الكامن في الخلف:

  1- دعم التصوف:

    دعم التصوف – وخاصة نماذج الحلاج وابن عربي وأمثالهم – هو لبُّ توصيات المراكز الغربية وخاصة الأمريكية، فمن مؤتمر (فهم الصوفية والدور الذي ستلعبه في رسم السياسة الأمريكية) الذي أعده مركز نيكسون، إلى تقرير (بناء شبكات مسلمة معتدلة) لمؤسسة راند المنبثقة من وزارة الدفاع الأمريكية مرورًا بدراسة (الإسلام المدني الديمقراطي) للمؤسسة ذاتها، كانت هناك توجيهات واضحة أشارت إليها هذه الدراسات، وفي بعض الأحيان أرشدت إلى إجراءات عملية تخدم الرؤية الرامية لبناء أرضية مشتركة تعاونية مع الحركة الصوفية.

   فقد دعا كل من برنارد لويس ودانييل بايبس القريبان من البيت الأبيض لعقد تحالف مع الطرق الصوفية لملء الساحة الدينية والسياسية وفق ضوابط فصل الدين عن الحياة. وقد نفذت الإدارة الأمريكية هذه التوصيات منذ من فترة صدورها وإلى الآن، فقامت بالعديد من الأنشطة لمد جسور التقارب مع الصوفية، وكان أكثر من تبعها في ذلك الإمارات التي فتحت ذراعيها للحركة الصوفية ومؤسساتها، حتى غدت أبو ظبي من أهم حواضن الحركة الصوفية في العقد الأخير.

   تتباين عدد من التيارات الإسلامية وتختلف رؤيتها بشأن عدد من القضايا كطريقة التغيير والمشاركة السياسة مع الأنظمة وشكل نظام الحكم، إلا أنهم يتفقون في الاهتمام بالشأن العام وخوض غمار السياسة وعدم الانعزال عن الواقع، وتأتي الصوفية على العكس من ذلك، فهي تتبنى في الغالب منهجًا انسحابيًا تركز فيه على العبادات الفردية والتزكية الأخلاقية وتترك الساحة السياسة للحكام، وهذا ينسجم تمامًا مع مصالح الدول وفي مقدمتها أمريكا التي تنظر بعين الرضا لهذه الحركة.

    فأمريكا تعمل على نشر الفكر الصوفي لأنه فكر غير مقاوم للمحتل ومن مبادئه: دع الخلق للخالق، ولو شاء ربك ما حدث كذا، ويصرحون بأنهم ينتظرون المهدي وهذا ما تريده أمريكا، وهناك محاولة دؤوبة من ابن زايد ومَن خلفه لإشاعة وتثبيت مبدأ (وحدة الأديان) وقد نادى بذلك ابن عربي والحلاج، فمن هنا يعملون على تلميع وإظهار هذه الشخصيات للاقتداء بهم.

   إن الهدف الفعلي من التقارب أو التزاوج بين التيار الصوفي والنظام الإماراتي وكذلك النظام المصري، هو لإنتاج إسلام فارغ المضمون والمحتوى، إسلام معزول عن مناحي الحياة ولا يبحث في تنظيم شؤون البشر ومعالجة مشاكلهم في الدنيا.

2- الإسلاموفوبيا:

   وفق تقرير صدر عن مركز التقدم الأمريكي عام 2011م، يقصد بالإسلاموفوبيا خوف أو كراهية أو عداء مبالغ فيه ضد الإسلام والمسلمين، تقوم على صور نمطية سلبية وتؤدي إلى التحيز ضد المسلمين والتمييز ضدهم وتهميشهم وإقصائهم. وهي بهذا المعنى، وفق الباحث في الشؤون الأمريكية، علاء بيومي، ليست تحيزًا عارضًا ضد الإسلام والمسلمين بسبب عدم المعرفة أو الجهل، إنما تتعدى ذلك بكثير… إلى التحريض ضد المسلمين والإسلام.

   يعتبر الكاتب والمفكّر المغربي حسن أوريد أنّ «شعورًا مستترًا بالعداء للإسلام كان موجودًا في الغرب منذ فترة التوسع الاستعماري الأوروبي لعدد من البلدان الإسلامية» موضّحًا أنّ «هذا الشعور كان قائمًا على اعتبار أنّ الثقافة الإسلامية ثقافةٌ قدَرية وقائمة على الخُرافات».

   إثر هجمات الحادي عشر من سبتمبر من عام 2001م، بالولايات المتحدة الأمريكية، روّج الكثير من المفكّرين الغربيين لفكرة (الخطر الإسلامي). بعد ذلك بفترة قصيرة، دخل المـُصطلح إلى المعاجم الفرنسية، وعُرّف بكونه «شكلًا خاصًّا من الحقد الموجّه ضد المسلمين، يتجلى في أفعالٍ ومشاعر عدائية ضد المهاجرين المنحدرين من أصول مغاربية».

   في هذا السياق، يرى المفكّر المغربي حسن أوريد أنّه «لا يمكن الحديث عن إسلاموفوبيا قبل أحداث11 سبتمبر، إذ بعدها مباشرةً صدرت كتاباتٌ تتهجّم مباشرةً على الإسلام، وتعتبر أنّ الإسلام هو العدو، سواء في أوروبا أو في الولايات المتحدة». من هذه الكتابات (السعار والفخار) للصحفية الإيطالية أوريانا فالاشي، الذي يحذّر الغربيين من الإسلام، ويدعوهم إلى تدارك أمورهم قبل أن يعمّ الإسلام أوروبا، ويستعمرها عن طريق التزاوج والهجرة.

   كان لهذه الظاهرة نتائجُ سلبية على المسلمين في أوروبا. ففي السّابع من مايو من عام 2002م، وقعت حادثةٌ رهيبة في بروكسيل ببلجيكا، إذ اقتحم أحدُ مناصري اليمين المتطرّف البلجيكي شقة عائلةٍ مغربية ببروكسل، وقتل أصحابها قبل أن يُضرم فيها النّار ويهرب. هكذا بدأ يتمظهر الرّهاب الصّادر من مناصري اليمين المتطرّف: إبادة كلّ ما هو مسلم. ومؤخّرًا، أعادت حادثةُ مسجد نيوزيلاندا إلى الأذهان موضوع الإسلاموفوبيا، وكسّرت، في نفس الوقت، الفكرة النمطية التي تربط الإرهاب بالإسلام، باعتبار الشخص الذي قام بهذا الهجوم الإرهابي، الذي راح ضحيته العشراتُ من الأبرياء، كان مسيحيًا.

   يرى باحثون ومتخصصون في قضايا الإسلاموفوبيا، أنّ هذه الأخيرة هي نزعةٌ عامّة قائمة في المجتمعات الغربية؛ لكنّها أيضًا صناعة بحدّ ذاتها؛ إذ هناك جهودٌ دؤوبة تفتعل هذه النزعة وتُزكيها لأغراضٍ سياسية. ولعل من أهم هذه الأغراض السياسية دفع المسلين دفعًا نحو التخلي عن أي مظهر من مظاهر تدينهم والاندماج بشكل كامل في المجتمعات الغربية، أي تحت شعار (اندمج أو ارحل)، ليس هذا فحسب، بل يمكننا القول إن دعوات التجديد والحداثة والعصرنة تصب كلها في هذا الاتجاه الذي سيفضي إلى تدجين الإسلام حتى يقبله الغرب ويرضى عنه.

خاتمة:

   بعد استعراضنا لما يقوم به مثلث الشر (الإمارات –السعودية – مصر)، من محاولات لتحريف دين الله، وخدمة أعداء الأمة الذين يتربَّصون بها صباح مساء، لابد من التذكير بأمرين مهمين:

   الأول: أن ما يقوم به هؤلاء ليس المحاولة الأولى لأعداء الأمة ولن تكون الأخيرة، فالصراع بين الكفر والإيمان صراع أبدي ولن يتوقف أبدًا، والآيات التي تؤكد هذه الحقيقة كثيرة لا يسعف المقام بذكرها، لكن نذكر بعضًا منها، من تلك الآيات التي تقرر هذه الحقيقة قوله تعالى: (كَذَٰلِكَ يَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡحَقَّ وَٱلۡبَٰطِلَۚ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذۡهَبُ جُفَآءٗۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمۡكُثُ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ كَذَٰلِكَ يَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَالَ١٧) وقوله سبحانه:(وَيُجَٰدِلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلۡبَٰطِلِ لِيُدۡحِضُواْ بِهِ ٱلۡحَقَّۖ وَٱتَّخَذُوٓاْ ءَايَٰتِي وَمَآ أُنذِرُواْ هُزُوٗا ٥٦)، وقوله عز وجل: (ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱتَّبَعُواْ ٱلۡبَٰطِلَ وَأَنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّبَعُواْ ٱلۡحَقَّ مِن رَّبِّهِمۡۚ كَذَٰلِكَ يَضۡرِبُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ أَمۡثَٰلَهُمۡ ٣) فهذه وغيرها ليس بالقليل تبين حقيقة مسار التاريخ، وأنه صراع بين الحق والباطل، وتصارع بين الخير والشر. ولا تخفى في هذا المقام دلالة تسمية القرآن بـالفرقان؛ لما فيه من فارق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، ولما فيه من تفرقة بين نهج السماء ونهج الأرض، وبين تشريع البشر وتشريع رب البشر.

   الثانية: مهما كانت قوة الباطل وسطوته وكبر مكرهم وتآمرهم، فإن العاقبة والنصر لعباد الله المتقين. فالباطل، وإن حقق انتصارات هنا وهناك، فإنها انتصارات آنية واهية، وليست بانتصارات حقيقية واقعية. يخبرنا القرآن حول هذه الحقيقة في آيات كثيرة، تبين أن النصر دومًا في جانب الطرف الذي يدافع عن الحق، وأن الهزيمة في النهاية واقعة في جانب الطرف المدافع عن الباطل. نجد هذا المعنى في قوله سبحانه: (فَوَقَعَ ٱلۡحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ١١٨) وقوله عز وجل: (لِيُحِقَّ ٱلۡحَقَّ وَيُبۡطِلَ ٱلۡبَٰطِلَ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُجۡرِمُونَ٨) وقوله تعالى:(وَقُلۡ جَآءَ ٱلۡحَقُّ وَزَهَقَ ٱلۡبَٰطِلُۚ إِنَّ ٱلۡبَٰطِلَ كَانَ زَهُوقٗا٨١)، وقوله عز من قائل: (بَلۡ نَقۡذِفُ بِٱلۡحَقِّ عَلَى ٱلۡبَٰطِلِ فَيَدۡمَغُهُۥ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٞۚ وَلَكُمُ ٱلۡوَيۡلُ مِمَّا تَصِفُونَ ١٨) وقوله سبحانه: (قُلۡ جَآءَ ٱلۡحَقُّ وَمَا يُبۡدِئُ ٱلۡبَٰطِلُ وَمَا يُعِيدُ ٤٩) وأخيرًا لا آخرَ قوله تعالى:(وَيَمۡحُ ٱللَّهُ ٱلۡبَٰطِلَ وَيُحِقُّ ٱلۡحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِۦٓۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ).

   كما أشار القرآن الكريم إلى سُنَّة أخرى وثيقة الصلة بسُنَّة الصراع بين الحق والباطل، ألا وهي (سنة التدافع)، تلك السنة التي تقرر أنه سبحانه لا يُمكِّن للباطل في هذه الحياة ليستعبد الناس، ولا يفسح له المجال ليسخر عباد الله لخدمته وتحقيق مآربه، بل إنه سبحانه يقيم من أهل الحق من يقف في وجه الباطل، ويتصدى له في معاركه كافة، وهذه السُّنَّة هي المـُعبَّر عنها بقوله سبحانه: (وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ ٢٥١) أي لولا أنَّ الله تعالى يدفع كيدَ الكافرين ومكرهم وظُلْمهم وغَشَمَهُم بجهاد طائفة من المؤمنين ونضالهم ورباطِهم؛ لصارت الأرض كلها غابة موحشة تعوي في جنباتها الذئاب.

   إن الباطل وأهله في عزة ومغالبة وشقاق ومنازعة، والملأ منهم والكبراء يستحثون الأتباع والأشياع الأذلاَّء أن يمضوا في عدائهم وحربهم للحق وأهله، وأن يصبروا على آلهتهم وزعمائهم؛ بزعم أنّ دعوة الحق وراءها شيء يُرادُ، وغرض يُدَبَّرُ له، وهذا الذي يمضون فيه هو دأب الأمم قبلهم، كقوم نوح وعاد وثمود وفرعون ذي الأوتاد، وكسائر الأحزاب الذين طغوا في البلاد؛ لأنَّها سُنَّة ماضية لا تتخلف، سُنَّة التدافع بين الحق والباطل، والصراع الدائم بين أهل الحق وأهل الباطل.

  لقد قيَّد الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة على مدار تاريخها الطويل من يدفع عنها تآمر المتآمرين، وعبث العابثين، وتحريف المحرفين وابتداع المبتدعين. فقيَّد لها على رأس كل مائة عام من يجدد لها دينها، ويعيده كما كان غضًا طريًّا. ولن يفلح أبدًا أبناء زايد ولا ابن سلمان ولا غلمان السيسي في مخططهم هذا أبدًا كما لم يفلح أسلافهم من قبل، فكيد أولئك هو يبور، قال تعالى: (إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيۡهِمۡ حَسۡرَةٗ ثُمَّ يُغۡلَبُونَۗ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحۡشَرُونَ ٣٦).