Wednesday, June 29, 2016

جريدة الراية: استفتاء بريطانيا: زلزال أم ثورة؟! ارتداداته السياسية عليها وعلى الاتحاد الأوروبي والعالم

جريدة الراية: استفتاء بريطانيا: زلزال أم ثورة؟! ارتداداته السياسية عليها وعلى الاتحاد الأوروبي والعالم

2016-06-29
زلزال، تحول تاريخي، يوم شؤم، لعنة، ثورة على الطبقة الحاكمة التقليدية، تحد لأوروبا، صدمة لساستها، حيرة ودهشة تنتابهم، خوف من تفكك اتحادها، عكس التوقعات، هكذا ترددت الجمل والعبارات من المسؤولين والإعلاميين إثر إعلان نتيجة الاستفتاء البريطاني على الخروج من الاتحاد الأوروبي في اليوم التالي من الاستفتاء الذي جرى يوم 23/6/2016.
تصريحات مقتضبة وغاضبة واجتماعات طارئة وتحركات سريعة للمسؤولين في الاتحاد وإعلان استقالة لرئيس الوزراء البريطاني، وتهديدات بتفكك الاتحاد البريطاني، وفرح شديد للمؤيدين للخروج واعتباره يوم استقلال لبريطانيا ودعوة القوميين في فرنسا وهولندا لإجراء استفتاء مشابه في بلادهم، وتأييد ترامب المرشح الأحمق للرئاسة الأمريكية والذي لا يدرك أن بلاده مهددة بمثل ذلك، وهو يؤجج العنصرية والقومية، حيث وجه رئيس حركة تكساس القومية على الفور دعوة لاستفتاء مشابه لانفصال تكساس عن أمريكا، حيث جرت حركة انفصالية لتكساس وغيرها من الولايات الجنوبية واستمرت الحرب بين عامي 1860-1865م.
تبعات اقتصادية مخيفة، تدهور في الجنيه الإسترليني لم يشهده منذ ثلاثين عاما، هزات في الأسواق المالية الأوروبية والآسيوية. فدفعت إنجلترا محافظ بنكها المركزي ليقوم بتهدئة الوضع بالقول بوجود سيولة كافية بقيمة 250 مليار جنيه إسترليني وإنه لن يتردد في اتخاذ إجراءات استثنائية قصوى.
حقا إنها هزة شديدة، وارتدادات أرضية على زلزال بريطانيا الذي ضربها وضرب أوروبا. فقد ظهرت آثارها على رئيس مجلس الاتحاد الأوروبي الذي اقتضب مؤتمره الصحفي قائلا: "الضربة التي لا تقتلك تقويك" وقال "سيعقد مؤتمر للاتحاد يومي 28 و29/6/2016 دون بريطانيا لبحث سبل التعامل مع قرار خروجها".
لم يكن متوقعا ذلك، فقد جرى استطلاع للرأي العام قبل يومين من الاستفتاء فكانت النتيجة 52% صوتوا لصالح بقاء بريطانيا في الاتحاد. ويظهر أن رئيس وزراء بريطانيا كاميرون كان مطمئنا لهذه النتيجة. ولكن فأله خاب، فأعلن أنه سيستقيل ويسلم السلطة لغيره فور انتخاب زعيم جديد لحزب المحافظين في تشرين الأول المقبل، فرأى نفسه فاشلا، وقد راهن على البقاء، وقاد الحملة لذلك، علما أنه صرح يوم 10/1/2016 أنه "لن يستقيل من منصبه إذا خسر الاستفتاء".
وهو الذي وعد يوم 23/1/2013 بإجراء الاستفتاء "إذا فاز حزبه في انتخابات 2015" وذلك لكسب أصوات الناخبين، وكذلك ليبتز الاتحاد الأوروبي حيث أعلن يومها أنه "يريد التفاوض من جديد حول علاقات بريطانيا مع الاتحاد الأوروبي قبل أن يعرض على البريطانيين التصويت". وبالفعل حصل على ما أراد عندما فاوض الأوروبيين في شباط الماضي، وحقق لبريطانيا امتيازات لم يحصل عليها أحد، فبات واثقا من أنه سيكسب الاستفتاء.
فرنسا العضو المؤسس أعلنت على الفور عقد اجتماع طارئ على أعلى المستويات لبحث تبعات خروج بريطانيا حول نتيجة الاستفتاء فقال رئيسها أولاند عقب الاجتماع إن "خروج بريطانيا من الاتحاد يشكل تحديا لأوروبا" وأبدى "أسفه الكبير لهذا الخيار المؤلم" وقال: "إن تصويت البريطانيين من أجل الخروج من الاتحاد يضع أوروبا في مواجهة اختبار خطير، إذ لا يمكنها الاستمرار كما من قبل... عليها أن تبدي تضامنها وقوتها... إن الخطر هائل في مواجهة التيارات المتطرفة والشعبوية... أوروبا فكرة كبيرة وليست مجرد سوق كبيرة ولا شك أنها تاهت من شدة ما نسيت ذلك... مؤكدا أن مواطني الاتحاد الأوروبي لا بد أن يفهموه ويمسكوا بزمام أموره... فرنسا في طليعة المبادرة من أجل أن تركز أوروبا على المواضيع الأساسية معددا إياها؛ الأمن والاستثمار من أجل النمو والوظائف والتجانس الضريبي والاجتماعي وتعزيز منطقة اليورو والحوكمة الديمقراطية فيها" وقال "إن جوهر ما هو مطروح هو ذوبان أوروبا أمام مخاطر الانكفاء أو إعادة تأكيد وجودها لقاء تغييرات عميقة". فرئيس أهم دولة في الاتحاد يكشف عن مدى عمق المسألة ومشاكلها الشائكة والمخاطر التي تواجه الاتحاد، مما يدل على أن أوروبا تواجه وضعا مصيريا.
ألمانيا العضو المؤسس الثاني، أعلنت مستشارتها ميركل أن: "خروج بريطانيا ضربة موجعة موجهة إلى أوروبا وإلى آلية توحيد أوروبا"، ودعت كلا من الرئيس الفرنسي أولاند ورئيس وزراء إيطاليا رينزي ورئيس المجلس الأوروبي توسك إلى عقد اجتماع في برلين يوم (26/6/2016) وقالت: "التبعات ستتوقف علينا نحن الأعضاء الـ 27 في الاتحاد الأوروبي أن نثبت أننا راغبون وقادرون على أخذ استنتاجات سريعة وبسيطة من الاستفتاء وهو من شأنه أن يؤدي إلى انقسام أوروبا بشكل أكبر... اليوم هو نقطة تحول لأوروبا وللاتحاد الأوروبي والتعاون الأوروبي، على دول الاتحاد أن تحلل الوضع وتقيمه بهدوء وحذر قبل أن نتخذ القرارات الصحيحة معا". وأما نائبها سيغمار غابريل فقال: "اللعنة، إنه يوم سيئ لأوروبا... هناك استياء وصدمة في برلين وإجماع عام على أن هذا قرار سيئ لبريطانيا وألمانيا وأوروبا"، وقال وزير خارجيتها: "إن الحكومة البريطانية لعبت بالمصير الأوروبي وخسرت. وإن موقفها من الاتحاد تم استغلاله لأغراض سياسية داخلية في بريطانيا". فبات الألمان يدركون الخبث الإنجليزي ونتائجه السيئة.
والعديد من مسؤولي دول الاتحاد الأخرى من بولندا إلى التشيك أعلنوا أن نتيجة الاستفتاء كانت سيئة. وقال وزير خارجية إسبانيا مارغايو إن "قرار مغادرة الاتحاد الأوروبي فتح إمكانيات جديدة بشأن وضع هذه المنطقة، وإن احتمال رفع العلم الإسباني على جبل طارق أصبح قريبا الآن". وحتى اسكتلندا التي صوتت لصالح القرار أعلنت رئيسة وزرائها أنه "يجب أن نطرح على الطاولة خيار استفتاء ثان على استقلال اسكتلندا عن بريطانيا".
ويظهر أن أمريكا تفاجأت بالنتيجة حيث صرح رئيسها أوباما ببيان مقتضب "أخذت علما بالنتيجة، وسوف أدلي ببيان فيما بعد"، وقد أدلى ببيانه فيما بعد قال فيه: "إن العلاقة الخاصة مع بريطانيا ستستمر وإنه يحترم قرار البريطانيين الذين أيدوا خروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي بعد 43 عاما من انضمامها إليه" وهو الذي زار لندن في نيسان الماضي وحث البريطانيين على التصويت على البقاء. لأن أمريكا كانت راغبة ببقاء بريطانيا في الاتحاد حتى يبقى اتحادا هشا، حيث يدرك أن بريطانيا لا تعمل لصالح الاتحاد ولا للوحدة الأوروبية وتعرقل ذلك وتشوش على كثير من القرارات ولا تفكر إلا في مصلحتها، وكل ذلك يصب في مصلحة أمريكا التي لا تريد أن ترى أوروبا موحدة قوية تتحداها أو تنافسها في الساحة العالمية، وتريدها أن تبقى تحت تأثيرها. ولكن إذا نتج عن خروج بريطانيا تفكك الاتحاد فذلك في صالحها.
وقد وصفت وكالة تاس الروسية أن استفتاء بريطانيا نصر لبوتين وفشل لأوباما، لأن روسيا تعرف مواقف بريطانيا السلبية منها، فترغب في أن يكون اتحادا دونها، وذلك مفيد لها سياسيا واقتصاديا حيث تتفاهم مع فرنسا وألمانيا. وقد صرح وزير خارجية بريطانيا هاموند: "إن نتائج الاستفتاء قد بثت السرور في نفس الرئيس الروسي بوتين".
إن الدول المؤسسة للاتحاد وخاصة فرنسا وألمانيا الدولتان الكبيرتان صاحبتا التأثير الأكبر مصممتان على بقاء الاتحاد وبجانبهما إيطاليا وهولندا وبلجيكا ولوكسمبرغ كدول مؤسسة، وهناك دول متحمسة معها تريد البقاء كبولندا وإسبانيا وإيرلندا، وستعمل هذه الدول على المحافظة عليه، وقد دعا وزير خارجية ألمانيا إلى اجتماع للدول الست المؤسسة، فاجتمعت ببرلين فأعلن عقبه: "نحن نجتمع اليوم كممثلين عن الدول التي يجب أن تعطي إشارة إلى أنها لن تتخلى عن الاتحاد...". إلا أن هناك دولا كالدنمارك والسويد يخشى عليها من الانفلات.
والجدير بالذكر أن الأزمة المالية عام 2008 وتداعياتها قد امتحنت قوة الاتحاد، فبدا متخلخلا وليس قويا، معرضا للسقوط، وقد عبر المسؤولون فيه عن ذلك. وجاءت أزمة اللاجئين لتكون القشة التي كسرت ظهر البعير، حيث أججت المشاعر القومية الساخطة على الوضع القائم في أوروبا سياسيا والأوضاع الاقتصادية المتردية. لأن القومية في أوروبا حفرت خنادق بين شعوبها وكل اتفاقيات الاتحاد لم تقدر أن تدملها، فأس الداء في المبدأ الرأسمالي الذي فشل في معالجة القومية، وفي صهر معتنقيه في بوتقة واحدة فهو السبب الرئيس في كل الانقسامات وفي خروج بريطانيا حيث إنها لم تقبل أن تتخلى عن هويتها القومية وأن تزيل حدودها وتتنازل عن عملتها وتندمج في أوروبا.
هذا اختبار كبير للاتحاد الأوروبي، فهل حقا الضربة التي لم تقتله ستقويه؟ ويعول الأمر بالدرجة الأولى على فرنسا وألمانيا. ويظهر أنهما عازمتان على الاستمرار ومصلحتهما الكبرى ببقاء الاتحاد، وتحركهما السريع لدراسة تداعيات الأمر ومحاولة معالجته تثبت ذلك، حيث إن فرنسا تريد قيادة أوروبا في مواجهة أمريكا للمحافظة على نفوذها في مستعمراتها القديمة وبقائها دولة كبرى مؤثرة في الساحة الدولية، وألمانيا تريد أن تصبح قوة سياسية كبرى على حساب الاتحاد، وهي المستفيد الأكبر اقتصاديا. وربما يكون الأوروبيون قد استراحوا من بريطانيا، فيكون أفضل لهم إذا أحسنوا التصرف ووجدت لديهم قيادات حكيمة وقوية وعملت على إخماد المشاعر القومية الملتهبة.
وبريطانيا قد تضررت حيث إنها ستصبح معزولة أوروبيا، وتخسر اقتصاديا وسياسيا، فتفقد تأثيرها على أوروبا، حيث كانت تستخدمها بجانبها في مواجهة أمريكا للمحافظة على نفوذها في مستعمراتها وعلى وجودها الدولي كدولة كبرى، ولهذا سيّرت حملة جمعت مليوني توقيع لإعادة الاستفتاء. فأصبحت مضطربة ومنقسمة وحزب المحافظين بات منقسما، حيث قاد أعضاء فيه وفي الحكومة حملة مضادة  لرئيس الحزب والحكومة كاميرون.
وهذا يثبت أن مثل هذه الاتحادات كلها فاشلة، حيث حاول الغرب أن ينقل تجاربه الفاشلة إلى البلاد الإسلامية بإقامة اتحادات مشابهة. ويبقى الحل الإسلامي هو الصحيح بصهر الشعوب في بوتقة الإسلام كما نجح في ذلك نجاحا منقطع النظير، فعالج مسألة القومية علاجا ناجعا، فأرسى النبي قواعد حكم لدولة عظمى امتدت لثلاثة عشر قرنا كان الحكم فيها مركزيا، يحكمها خليفة واحد ينظم شؤونها الداخلية بتعيينه لولاة يديرون الولايات تحت إمرته ورقابته وحسب اجتهاداته.
بقلم: أسعد منصور

No comments:

Post a Comment