Friday, October 25, 2019

ماذا يريد الشعب في لبنان؟

ماذا يريد الشعب في لبنان؟

الخبر: "لا زالت وسائل الإعلام تنقل من ميادين المدن اللبنانية المختلفة صيحات الشعب يريد تغيير النظام. وترددت هذه الهتافات في السابق في مصر وتونس وليبيا واليمن".
التعليق:
إن المتفحص لهتافات الشعب في مختلف البلاد العربية يجد أن الأولى في الهتاف أن يكون "الشعب لا يريد النظام" بدلا من أن الشعب يريد تغيير النظام. الفرق بين هذا وذاك كبير. فالواقع يقول إن الناس في البلاد العربية، وآخرها لبنان، قد طفح بهم الكيل مما يعانونه من ظلم الحكام، وفساد أنظمة الحكم، ما جعل الناس يعيشون حياة ذل وهوان، وبؤس وشقاء. فقد تردت أوضاع الناس المالية والاقتصادية، وبالرغم من الفقر والعوز فقد أثقلت الحكومات كاهلهم بضرائب وإتاوات وجعلتهم فريسة للبنك وصندوق النقد الدوليين يمتصان دماءهم ولا يرقبان فيهم فقرا ولا عوزا ولا حاجة. فليس من الغريب أن ينتفض الناس على هذه الحكومات وأنظمتها ويعبروا عن عدم قبولهم بها وأنهم لا يريدون أن يعيشوا في ظلها.
ولكن الحقيقة أن الشعب الذي خرج متحديا حكوماته الظالمة لم يقل بعد ماذا يريد حقيقة. فهو يقول ويعبر عما لا يريده. فهو لا يريد أن يبقى خاضعا لأنظمة حكم ثبت فسادها وتخلفها وعدم مقدرتها على إشباع حاجات الناس الأساسية وتلبية مطالب الحياة العادية وتوفير أدنى مرتبة من مراتب الكرامة والعزة والإنسانية. فهذا ما لا يريده أي إنسان لا تزال لديه القدرة على الإحساس، ناهيك عن الإدراك لحقائق الأمور.
أما ماذا يريد بديلا عن هذه الأنظمة، وأين تتوجه إرادته فيما لو زالت هذه الأنظمة أو أزيلت؟ فهذا ما لا تسمعه في ميادين رياض الصلح والتحرير وساحة الشهداء وغيرها في بلاد العرب قاطبة. والحقيقة هي أن إرادة الشعب أهم بكثير من عدم إرادته. فعدم الإرادة هي تعبير عن أحاسيس ومشاعر الظلم والكبت والقهر والذل. وهي طبيعية وفطرية لدى الإنسان بوصفه إنسانا سواء أكان طفلا صغيرا أو كهلا، رجلا أو امرأة، واعيا بفكره أو عاملا بأحاسيسه. فهذا رد فعل طبيعي بل قل غريزي على نوعية الحياة التي يحياها الناس وما يلقونه كل يوم من شظف عيش.
أما تحديد ما يريد الشعب، وما يريده الناس فهو أمر آخر. ولا يكفي فيه الإحساس بالظلم، بل يتطلب معرفة أين يكمن العدل المقابل للظلم. ولا يكفي فيه التمرد على حاكم أو نظام فاسد، بل يحتاج إلى إدراك أين يكمن الصلاح وما هو النظام الصالح مقابل الفاسد. فالإرادة هي توجه القصد. أي لا بد أن يكون هناك قصد، ولا بد لهذا القصد أن يكون ذا اتجاه، والقصد لا بد أن ينتج عن فكر وعن تمحيص. ولا بد من معرفة النظام الذي يمكن أن ينتج عنه العدل المنشود، والحياة الكريمة، والعزة المنشودة، والخير العميم. وهذه أمور ليس من السهل أن تتوفر لدى الحشود الجماعية. فالتفكير والإرادة الموجهة، والقصد الواعي ليس من طبائع الجماعة بوصفها جماعة، ومثلها الحشود والمسيرات والمظاهرات. وهذا ليس عيبا في الجموع ولا انتقاصا من أعمالهم وتعبيرهم وإحساسهم. بل هذه سمة طبيعية في الحشود والجموع وردات فعلها لما تعانيه.
فالفكر والإدراك والإرادة الناتجة عنهما هي سجية المفكرين بوصفهم أفرادا، قادرين على التحليل والتمحيص واستخلاص النتائج. وهؤلاء الأفراد إذا تكتلوا في كتلة سياسية يصبح لديهم القدرة على توجيه الجموع والحشود وتحميلهم إرادة الشيء إضافة إلى عدم إرادة ضده.
فحين يرتفع صوت في الحشود المجتمعة يقول "الشعب يريد خلافة إسلامية" أو "الشعب يريد عدل الإسلام" أو "الشعب يريد راية الحق والإسلام" مثل هذه العبارات تعبر عن إرادة صادرة عن وعي عميق لما يحتاجه الناس حقيقة وما يجب أن تكون عليه الإرادة. من هنا كانت ثورات الربيع العربي وتوابعها مما يحدث في لبنان اليوم والجزائر والسودان، كلها لا تزال تعبر عما لا يريده الناس ولم يتم نقلها نقلة نوعية للتعبير عما يريده الناس حقيقة. لذلك كان من السهل أن يتم إنهاء هذه الثورات دون حصول الناس على بديل محدد هم يريدونه، فهم لا يريدون شيئا محددا بديلا عما هو موجود. فكان من الممكن إعادة ما هو موجود بلباس وحلة جديدة، تلتبس على العامة إلى حين ثم يعودون ليطالبوا بإزالتها وهكذا...
فمن أجل دعم حركة الشعب وإيصالها إلى نهاية صحيحة، لا بد للفئة الواعية في الأمة أن تكون هي القادرة على التعبير عن إرادة الناس، وتوجيه قصدهم إلى أهداف محددة بدلا من إبقائهم في حالة رفض ما هو موجود دون التوجه إلى ما هو مطلوب. وهذا عمل لا يقدر عليه إلا فئة واعية، مدركة تمام الإدراك لحقيقة النظام الذي يمكن أن يحقق العدل ويرعى شؤون الناس أفضل رعاية، ويدرك كيفية عمل النظام وكيف يمكن أن يوصل الناس إلى حالة من القناعة التامة بأنه يخدم عامتهم وخاصتهم، ويقلع الفساد من بلادهم، وينشر العدل، ويرعى شؤونهم خير رعاية.
وهذه الفئة الواعية عليها أن تتحرك ذاتيا، ولا تنتظر أن يدعوها الناس لقيادتهم. فالناس أيضا من طبيعتهم خاصة في مثل ظروف الثورات أن لا يتقدموا من أحد لقيادتهم، فهذا الفعل بحد ذاته يعبر عن إرادة واعية، وهي ليست موجودة في الجموع أصلا. لذلك كان لزاما على الفئة الواعية في الأمة أن تتقدم هي لقيادة الناس وتوجيههم وتحميلهم إرادة واعية للذي يريدون بعد أن ثاروا على ما لا يريدون.
لقد أدى الشعب في لبنان والجزائر والسودان ومن قبله في مصر واليمن وتونس وليبيا وسوريا الدور المنوط به على خير وجه بالتعبير عن سخطه من الأنظمة القائمة دون استثناء. وإن كان لم يحصل على نتيجة مرضية لثورته وانتفاضته، فإن ذلك عائد إلى عدم تقدم من لديه الوعي الكافي والإرادة الواعية لقيادة هذه الحشود من جهة، وتقدم أدوات الأنظمة الحالية وأعوانها إلى تبديل ألوان وأشكال أنظمتهم لتبدو مختلفة ولو إلى حين.
﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
د. محمد جيلاني
25 من صـفر الخير 1441هـ   الموافق   الخميس, 24 تشرين الأول/أكتوبر 2019مـ

No comments:

Post a Comment