Saturday, April 23, 2016

رداً على د. حامي الدين ومقالته "في نقد مفهوم الخلافة"

رداً على د. حامي الدين ومقالته "في نقد مفهوم الخلافة"

إن مما ابتليت به الأمة الإسلامية بعد موجات الغزو الفكري الغربي، أن صارت أحكام الله سبحانه موضع نقد وتساؤل ودراسة تحتاج لإثبات قطعيّتها! وصار الحق يُعرف بالرجال بدل أن يكون الحق هو الأساس والمقياس الذي يُعرف به الرجال. وصارت أشخاص العاملين في الساحة السياسية والإسلامية أهم من العمل السياسي نفسه، على أساس أن السياسة هي رعاية لشؤون الناس بالإسلام، وليست منفصلة عن أحكام الشريعة ولا هي مغايرة لها كما يتصور البعض؛ الأمر الذي أوجد لديهم اختلالاً في الموازين لكيل الأمور وإنزالها منازلها.
كتب د. عبد العلي حامي الدين في جريدة القدس العربي بتاريخ 21 نيسان/إبريل الجاري مقالاً بعنوان: "في نقد مفهوم الخلافة"، وكان كلُّ تركيز الكاتب على ردة الفعل التي شهدتها البلاد بعد تصريحات الأمين العام لجماعة العدل والإحسان عن الخلافة وكونها ضرورة شرعية. حيث قال الأخير في لقاء معه: "إقامة الخلافة في الإسلام تعتبر أم المقاصد وتعتبر مسألة حياة أو موت"، واصفاً إياها بـ"الفريضة الكبرى"، على اعتبار أن "هناك فرائض أوجبها الله علينا، وأعظم فريضة هي السعي لإقامة الخلافة على منهاج النبوة لأن عليها يتوقف تنفيذ معظم الفرائض".
يركز الكاتب في مقالته على تصورات جماعة العدل والإحسان وتنظيراتهم، كمرجع يستند إليه في الحديث عن الخلافة. وغاب عن مقالته تصريحاتهم الكثيرة القائلة بعملهم لأجل دولة مدنية تطبق الديمقراطية.
ويقول: "فمن ادعى أنه بإعلانه الخلافة وتبعاتها الخطيرة قد قام بما أوجب الله عليه، فليخبرنا أين كلفه الله بهذا؟ ومن أين له هذا الوجوب؟ وإلا فسيكون من الذين يفعلون ما لا يُؤمرون". فهل يخلط الكاتب بين الخلافة والديمقراطية؟ إن كان فليخبرنا لنزيل اللغط، وإلا فكيف يُحاكم مفهوم الخلافة بالاستناد لجماعة تدعو لدولة مدنية ديمقراطية؟!
جهَّز د. عبد العلي رأياً مسبقاً عن الخلافة وحكمها الشرعي، وحشد الأدلة وأوَّلها لتوافق رأيه بأنها تاريخٌ مضى، ودولةٌ لم تدم إلا ثلاثين عاماً حسب زعمه! وأنَّ الأدلة الموجبة للعمل لها ضعيفة لا تقوم مقام أمر جلل كهذا!
يقر بعظمة الأمر، وأهمية الحكم بالإسلام، ثم يبدأ بمناقضة نفسه فيلغي كلَّ الأدلة الشرعية، ويستند إلى عبارات فضفاضة كالراسخون في العلم يقولون.. ويقتصر في "اجتهاده في المسألة" على رأي القائلين أنَّ "العبرة بالمقاصد والكليات وليست في الأشكال والمسميات.."، ونحن نسأل: ما مشكلته مع الخلافة؟ أم أن المشكلة هي في كون الخلافة نظاماً ربانياً، يحكم فيه الحاكم المسلم بكتاب الله وسنة رسوله؟
العجيب أنَّ الخلافة وهي التي قال عنها العلماء بأنها رئاسة عامة لجميع المسلمين في الدنيا، ووصفها الإمام القلقشندي رحمه الله بأنها: "حظيرة الإسلام، ومحيط دائرته، ومربع رعاياه، ومرتع سائمته، والتي بها يُحفظ الدين ويُحمى، وبها تُصان بيضة الإسلام، وتسكن الدهماء، وتقام الحدود فتمنع المحارم عن الانتهاك، وتُحفظ الفروج فَتُصان الأنساب عن الاختلاط، وتُحصن الثغور فلا تطرق، ويُذاد عن الحُرَمِ فلا تُقرع".. هذه الخلافة العظيمة يتجاهلها الكتاب والسياسيون، ثم إذا ما أثير ذكرها على الملأ وتهافتت الأسماع لمعرفتها، ظهر جمع الصامتين عن ذكره فضلها، لينكروا نسبها وفرضية العمل لها، وينبروا لحشد الحجج لإقناع الأمة أن الخلافة مجرد مؤسسة تاريخية!
حامي الدين، يقول: "لا يكلف المدافعون عن أطروحة الخلافة أنفسهم عناء الخوض في التفاصيل ولكنهم يكتفون بإعلان التمايز الحاصل بين مفهوم الخلافة وبين الدولة الوطنية الحديثة!!"، ونجيب: لو قرأ الدكتور الفاضل كتاب الله سبحانه وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما حصل لديه شكٌّ في فرضية الحكم بما أنزل الله، وكون هذا الفرض متعلقاً بإيجاد دولة تطبقه، وأن دولة المسلمين هذه لها جهازها الإداري، ودستورها المنبثق من عقيدة الأمة.
وإن الجواب على هذا الزعم الواهي: إن الشرع الإسلامي - من حيث هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد - هو شريعة كاملة شاملة وتنظم جميع نواحي الحياة دون استثناء، إذ تحوي أحكاماً شرعية لجميع أفعال العباد، فعلاً فعلاً، فلا يخلو فعل من أفعال العباد إلا وله في كتاب الله تعالى حكم شرعي. قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] وقال سبحانه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89] ولم يخالف أحد من علماء الإسلام طوال التاريخ الإسلامي في شمول الشريعة الإسلامية كلَّ أفعال العباد.
وأعمال الحكم من حيث إنَّها مجموعة من أعمال العباد المتعلقة برعاية شؤون الناس وتنفيذ القوانين، وعلاقة الحاكم بالمحكوم، هي بالطبع جزء من الأفعال التي شملها الإسلام بالتنظيم والتشريع. ولا يخفى على أحد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أقام دولة للمسلمين، وحكمها عشرة أعوام حتى التحق بالرفيق الأعلى، ثم تابعه الصحابة رضي الله عنهم بقيادة الخلفاء الراشدين على نهجه في الحكم. وإن نهج النبي صلى الله عليه وسلم في الحكم هو جزء من سنته التي هي الدليل الثاني للتشريع بعد كتاب الله تعالى. وكذلك ما أجمع عليه الصحابة رضي الله عنهم، من شؤون تتعلق بممارسة الحكم والسلطان، هو من الأدلة الشرعية التي تُعتمد في استنباط أحكام نظام الحكم، استناداً إلى كون إجماع الصحابة هو من أدلة التشريع التي أرشد إليها القرآن والسنة.
وعليه فإن ما ورد من آيات في كتاب الله تعالى مما يتعلق بتنظيم أمور الحكم وعلاقة الراعي بالرعية، وما ورد من أقوال وأفعال وتقريرات عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الجانب، وكذا ما أجمع عليه الصحابة رضي الله عنهم فيه، هذا كله ينتصب أدلة شرعية تُستنبط منها أحكام شرعية تشكّل بمجموعها نظام الحكم في الإسلام. وإن الناظر في مجموع هذه الأدلة وما دلّت عليه من أحكام شرعية متعلقة بالحكم يدرك بكل وضوح بطلان القول بأن "الإسلام لم يحدد شكلاً من أشكال الحكم، وإنما وضع مبادئ عامة يستلهمها المسلمون لبناء الشكل المناسب حسب ظروف الزمان والمكان". بل يدرك أن الإسلام قد شرع نظاماً مفصَّلاً للحكم يغني المسلمين عن الخوض في المفاضلة بين الأنظمة التي تَنافَس المشرعون في تسويقها وتفضيل بعضها على بعض.
ويا حبَّذا لو أنَّ الكاتب الكريم التفت إلى الدستور الذي أعدَّه حزب التحرير لدولة الخلافة القادمة، ورأى تفاصيل هذه الدولة التي باتت على الأبواب، حيث أعدَّ الحزب لها تصوراً تفصيلياً في 191 مادة مفصلة، منبثقة من الكتاب والسنة؛ بدل الخوض في مهاترات عافتها الأمة وتجاوزتها وهي تسير قدماً للأمام لاستئناف الحياة الإسلامية الرغيدة، في ظل دولة رشيدة تعطي فيها ثمرة جهودها ببيعة رضاً واطمئنان لأمير المؤمنين، لتنعتق من الإثم المتعلق بالقعود عن العمل لها، وتتخلص من وصف الجاهلية الذي ينطبق على كل قاعد، حيث ذكر في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية».
اللهم إنا نسألك صدق الهم، وعلوَّ الهمَّة والانشغال بالمهم والمسارعة إلى المهمة، ونعوذ بك من العجز والكسل، وأن نضل أو نُضَّل.. أنت المستعان وعليك التكلان.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
كتبته لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
أختكم: بيان جمال
17 من رجب 1437هـ   الموافق   الأحد, 24 نيسان/ابريل 2016مـ

No comments:

Post a Comment