Tuesday, February 26, 2013

سقوط الأندلس دروس وعبر -6

سقوط الأندلس دروس وعبر -6

الحمد لله مالك الملك, وخالق الخلق, يؤتي الملك من يشاء, وينزع الملك ممن يشاء, ويعز من يشاء, ويذل من يشاء, بيده الخير, وهو على كل شيء قدير. أما بعد:
أيها الأحبة: ذكرت لكم أن المعاهدة التي عقدت لتسليم غرناطة نقضت بعد سبع سنوات فقط، إذا أين من يدافعون، أو يدعون أن النصارى يمكن أن يفوا بعهد؟ إنني أخاطب أولئك الذين يحسنون الظن في النصارى، فأقول لهم: مهلا مهلا يا دعاة التقريب! مهلا مهلا يا دعاة التخريب! مهلا مهلا يا من أحسنتم الظن بأعداء الله، فركنتم إليهم، إنكم والله مخطئون!
لقد استمات النصارى استماتة عجيبة في سحق المسلمين. يقول المقري في كتابه "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب"، واصفا استعداد النصارى لإحدى المعارك: "وجاء الطاغية (دون بطرة) في جيش لا يحصى، ومعه خمسة وعشرون ملكا، وذهب إلى طليطلة، ودخل على مرجعهم البابا، وسجد له وتضرع وطلب منه استئصال ما بقي من المسلمين في الأندلس، وأكد عزمه على ذلك بعهد لاستئصال المسلمين، ومع كل أسف أقول: لقد وفى بعهده, واستأصل المسلمين!".
أيها الأحبة: ويقول "لوبون" في حضارة العرب: "والحق ما شهدت به الأعداء {وشهد شاهد من أهلها}. اسمعوا ماذا يقول: إن الراهب "بليدة" أبدى ارتياحه لقتل مائة ألف مهاجر من قافلة واحدة، كانت مؤلفة من مائة وأربعين ألف مهاجر مسلم، حينما كانت متجهة إلى إفريقيا، هؤلاء يريدون الهروب من الأندلس، ولكن ما رضي النصارى بهروبهم، قتلوا منهم مائة ألف دفعة واحدة, {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم}. هذا قول الحق جل وعلا". ولذلك يصور أحد الشعراء مأساة المسلمين، واستماتة النصارى في سحقهم وتقتيل رجالهم فيقول:
كم جامـع فيهـا أعيـد كنيسة فاهلـك عليـه أسـى وتجلـد
أقفرت صلواتـها أسفـا عليـها من قانتيـن وراكعيـن وسجـد
كم من أسيـر عندهـم وأسيرة فكلاهما يبغي الفداة ما فـدي
كم من عقيلـة معشـر معقولة فيهم تـود لـو أنها في ملحـد
كم من وليـد بينهـم قـد ود من ولـداه ودا أنـه لـم يولـد
كم من تقـي بالسلاسل موثـق يبكي لآخـر في الكبول مقـيد
وشهيـد معتـرك توزعه الردى ما بين حـدي ذابـل ومهنـد
ضجت ملائكة السماء لحالهـم وبكى لهم من قلبـه كالجلـمد
أفلا تـذوب قلوبكم إخوانـنا؟ مما دهانـا من ردي أو من ردي
كتب الجهـاد عليكموا فتبادروا منه إلى الفرض الأحـق الأوكد
وارضوا بإحدى الحسنيين وأقرضوا حسنا تفوزوا بالحسـان الخـرد
أيها الأحبة: السبب الحادي عشر من أسباب سقوط الأندلس هو الرضا بالخضوع والذل تحت حكم النصارى؛ لأن بعض المسلمين بقوا تحت حكم النصارى وهم المدجـنون، ولم يستمعوا إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين". رواه الترمذي وأبو داود، وهو حديث حسن.
أيها الأحبة: السبب الثاني عشر من أسباب سقوط الأندلس هو عدم الاستقرار السياسي، وكثرة الفتن والمؤامرات، وخير مثال على ذلك أن مملكة غرناطة في خلال سنوات محدودة حكمها قرابة ثلاثين حاكما، وبسبب اضطراب بعضهم لم يحكم إلا عدة أشهر، وبعضهم حكم عدة سنوات، فالاضطراب السياسي يؤدي إلى النهاية المدمرة كما حدث في الأندلس.
أيها الأحبة: السبب الثالث عشر من أسباب سقوط الأندلس هو غلبة الأنانية, وتقديم المصالح الشخصية على مصالح المسلمين، وهذا سبب جوهري، وسبب مهم، إنني ألحظ في بلاد المسلمين الآن من غلبت عليهم مصالحهم الشخصية، تأتيه، وتحدثه عن واقع المسلمين، تحدثه عن المآسي، تحدثه عن الفواجع، ولا يتحرك!! يفكر في وظيفته، يفكر في راتبه، يفكر في مصلحته, لو أتي وأصيب في دنياه؛ لأقام الدنيا، ولم يقعدها، أما في أمور المسلمين فلا يتأثر، إنه في أحسن أحواله يكتفي بأن يسترجع. بل إن بعضهم يخذل العاملين على التغيير، أقول: هذا ما حل بالأندلس، إنهم قدموا مصالحهم الشخصية على مصالح المسلمين وغلبة الأنانية وحب الذات، فسقطت الأندلس.
أيها الأحبة: بعد ذكر واستقصاء الأسباب التي أدت إلى سقوط الأندلس, ننتقل وإياكم إلى ذكر بعض الدروس والعبر المستفادة منه، وكل الأسباب التي ذكرتها هي دروس وعبر، فاستمعوا - بارك الله لنا ولكم - إلى هذه الدروس، عسى أن نتعظ ونعتبر، حتى لا يحل بالمسلمين ما حل بغيرهم فنقول:
أولا: من أبرز الدروس دور العلماء: ذكرت لكم أن من أسباب سقوط الأندلس، عدم قيام بعض العلماء بواجبهم، ومع ذلك فإننا نجد أن هناك من قام بواجبه, والعلماء هم سراج الأمة. إنني أوجه حديثي مرة أخرى، فأقول لعلمائنا ولمشايخنا ولطلبة العلم من أمثالكم: الله الله في أمتكم، الله الله أن تفرطوا، مروا بالمعروف, وانهوا عن المنكر, وبهذا نحفظ كيان الأمة، العلماء هم ورثة الأنبياء. والعلماء لم يورثوا دينارا ولا درهما كما في الحديث, قال عليه السلام: "الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما, ولكن ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر".

أيها الأحبة: قلنا لكم هناك من وقف كأبي الوليد الباجي وابن عبد البر وأبي حيان الأندلسي وابن حزم وغيرهم، ولكن المأساة أنهم لم يستمع لهم، وهنا نقول: يجب على العلماء أن يؤدوا واجبهم حتى لو لم يستمع لهم. قال تعالى: {إن عليك إلا البلاغ}. وقال: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين}. ويقول صلى الله عليه وسلم: "يأتي النبي معه الرهط، ويأتي النبي معه الرجل والرجلان، ويأتي النبي وليس معه أحد". لكنه لا يمنعه من قول الحق، ومن الدعوة إلى الله، هذا درس مهم من دروس الأندلس، ولنا عبرة ولنا عظة ولنا ذكرى. يقول ابن حزم، مبينا دور العلماء: "فالمخلص لنا فيها - يقصد معشر العلماء - يعني من هذه الفتنة التي حلت بالأندلس، الإمساك للألسنة جملة واحدة إلا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".
أيها الأحبة: نواصل حديثنا معكم في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أخوكم محمد أحمد النادي.
14 من ربيع الثاني 1434
الموافق 2013/02/24م

سقوط الأندلس دروس وعبرح7

الحمد لله مالك الملك, وخالق الخلق, يؤتي الملك من يشاء, وينزع الملك ممن يشاء, ويعز من يشاء, ويذل من يشاء, بيده الخير, وهو على كل شيء قدير. أما بعد :
أيها الأحبة:
والمؤسف أن كثيرا من طلاب العلم، لا يمسكون عن شيء إلا عن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر! وابن حزم يقول: " يجب أن نمسك ألسنتنا عن كل شيء إلا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذم جميع هؤلاء. فمن عجز عن ذلك فهو معذور، فلو اجتمع كل من ينكر المنكر بقلبه لما غلبونا، أي النصارى، فأما الفرد الذي لا يستطيع الأمر بالمعروف، فإنه لا يعين ظالما بيده ولا بلسانه، ولا أن يزين له فعله, ويصوب شره". رحم الله ابن حزم فهو يقول: الواجب أولا ألا نتكلم إلا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله، ومن عجز عن ذلك وبذل جهده, فهو معذور، ولكن الشيء الذي لا يعذر فيه أحد أن يساعد أحد من طلاب العلم الظالم على ظلمه، وأن يزين له هذا الأمر, وأن يقره على هذا العمل لا عذر له في ذلك، ما هو عذره أمام الله سبحانه وتعالى؟ وهو يحكي عن واقعه رحمه الله, ولهذا يقول: "لما وجد من يزين لأهل المنكر منكرهم، ويبرر لهم تصرفاتهم حل بالأندلس ما حل بها. هنا ننتهي من هذا السبب، أو من هذه العبرة.
ثانيا:
ونقف مع درس آخر وهو أثر الجهاد في حياة الأمة. الأمة بدون الجهاد لا خير فيها، والأمة بدون الجهاد لا حياة فيها يقول الله سبحانه وتعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} ويقول جل وعلا: {انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله}. ويقول سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل}.
وفي السنن بسند حسن قال صلى الله عليه وسلم: "إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله". وقال: "رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد". وهو حديث صحيح، وقال: "لغدوة في سبيل الله، أو روحة خير من الدنيا وما فيها". (متفق عليه). وقد نعى الله سبحانه وتعالى على القاعدين فقال جل من قائل: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين}.
أيها الأحبة:
الجهاد من الدروس التي نتعلمها من الأندلس: لما وجد الجهاد بقيت الأمة. لما دخل طارق بن زياد, وموسى بن نصير ميادين الجهاد، وجاء عبد الرحمن الداخل, وعبد الرحمن الناصر بقيت الأمة، لما قام بعض ملوك الطوائف بالجهاد بقيت الأمة، ولكن عندما تهاون المسلمون وتخاذلوا حلت الكارثة بالمسلمين وبالمؤمنين.
أيها الأحبة:
هناك مؤامرة كبرى تحاك ضد جهاد المسلمين لأعدائهم الكفار، الله الله أن يسقط الجهاد أمام أعيننا ونحن نتفرج! أعداؤنا يكيدون لنا، أعداؤنا يتآمرون علينا، كادوا للمسلمين في فلسطين فأسقطوها في يد يهود, فحدثت في فلسطين مأساة. كادوا للمسلمين في الأندلس, فحدثت في الأندلس مأساة. كادوا للمسلمين في العراق فحدثت في العراق مأساة وهكذا. نواصل أيها الأحباب حديثنا مع الدروس والعبر فنقول: هناك مواقف شجاعة تسجل لأصحابها بأحرف من نور في سجل التاريخ الإسلامي المشرق والمشرف، سأذكر لكم واحدا منها: لما أراد ابن الأحمر أن يسلم غرناطة، وزين له أصحابه وحاشيته أنه لن يستطيع أن يبقى في مقاومة النصارى، جاء أحد رجاله المقربين اسمه موسى بن أبي غسان, وقال له: "لا تسلموا غرناطة، دعونا نجاهد في سبيل الله! دعونا نقاتل في سبيل الله!". ولكن صيحته ذهبت سدى، وقال لابن الأحمر رجاله: إن النصارى عرضوا علينا معاهدة، فيها حفظ لكيان المسلمين، ولن يؤت المسلمون بأذى ولا بشر. فهيا نسلم الأندلس، حتى نحافظ على ما بقي لنا بالعهود والشروط، فقال لهم هذا الرجل: "إياكم أن تركنوا إلى النصارى، إياكم أن تثقوا في النصارى". لكنهم رفضوا أن يستمعوا إليه، ولما أعيته الحيلة قال: لا تخدعوا أنفسكم، ولا تظنوا أن النصارى سيوفون بعهدهم، ولا تركنوا إلى شهامة ملكهم، إن الموت أقل ما نخشى، فأمامنا نهب مدننا, فهو يذكر لهم ما حدث بالأندلس, قال الشاعر، معبرا عن هذه القصة على لسان موسى بن أبي غسان:
أنا لـن أقـر وثيقــة
فرضت وأخضع للعـدا
ما كان عذري إن جبنت
وخفت أسبـاب الردى
والموت حق في الرقـاب
أطال أم قصـر المـدى
إني رسمـت نهايتــي
بيــدي ولـن أتـرددا
كنـت الحسـام لأمتـي
واليـوم للوطـن الفـدا
أنا لـن أعيـش العمـر
عبدا بـل سأقضي سيدا
ثالثا: ونقف مع الدرس الثالث وهو أثر المعاصي والغفلة على واقع المسلمين في الأندلس: إن المعاصي ما وقعت في بلد وفي أمة إلا فتكت بها. اسمعوا إلى قصة أبي الدرداء عندما فتح المسلمون قبرص، وبدؤوا يجمعون الغنائم ويتقاسمونها. عندها بكى أبو الدرداء, فجاءه أحد المشاركين في هذه المعركة، وقال له: يا أبا الدرداء! هذا يوم فرح! فكيف تبكي؟ قال له ويحك! ما أهون الخلق على الله إذا تركوا أمره! هذه روما التي نقتسم أموالها الآن! الروم عندما عصوا الله، انظر كيف حل بهم! ما أهون الخلق على الله إذا تركوا أمره! ولذلك قلت لكم ما قاله كوندي يبين عن مأساة المسلمين: "العرب هووا عندما نسوا فضائلهم التي جاؤوا بها، وأصبحوا على قلب متقلب يميل إلى الخفة والمرح والاسترسال في الشهوات، ولذلك قال المتوكل بن الأفطس أحد ملوك الأندلس: "أما ما وهى المسلمين من ضعف أحوالهم، فبسبب الذنوب المركوبة جاء في الحديث القدسي. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه قال الله تعالى: "من عصاني وهو يعرفني، سلطت عليه من لا يعرفني".
 قال المرابط كاتب ابن الأحمر:
سودت وجهك بالمعاصي تلتمس
وجها للقيـــا الله غير مسود
مـن ذا يتوب لربه مـن ذنبـه
أو يقتـدي بنبـيه أو يهتـدي
أيها الأحبة:
نشكركم على حسن استماعكم, ونواصل حديثنا معكم في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أخوكم محمد أحمد النادي.
16 من ربيع الثاني 1434
الموافق 2013/02/26م

No comments:

Post a Comment