Thursday, May 21, 2020

تأملات قرآنية (28)

تأملات قرآنية (28)

المفسدون يزعمون الإصلاح ويحاربون المصلحين
إخواننا الكرام, أخواتنا الكريمات:
أيها المؤمنون والمؤمنات: الصائمون والصائمات:
أحبتنا الكرام :
نحييكم بأطيب تحية: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الحمد لله القائل في محكم كتابه وهو أصدق القائلين: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) والصلاة والسلام على رسول الله القائل: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين». ثم أما بعد: فَتَعَالَوا معنا أحبتنا الكرام, وهلم بنا نحن وإياكم نتجه إلى مائدة القرآن الكريم نتأمل ونتدبر آياته جل وعلا عسى أن ينفعنا ويرفعنا بما فيه من الذكر الحكيم إلى أعلى الدرجات في جنات النعيم, إنه ولي ذلك والقادر عليه. ومع الآيات من الآية السادسة والعشرين, وحتى نهاية الآية الخامسة والثلاثين من سورة غافر. يقول الله تعالى: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ﴿٢٦﴾ وَقَالَ مُوسَىٰ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ﴿٢٧﴾ وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّـهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّـهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ﴿٢٨﴾ يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّـهِ إِن جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴿٢٩﴾ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ ﴿٣٠﴾ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّـهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ ﴿٣١﴾ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ ﴿٣٢﴾ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّـهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّـهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴿٣٣﴾ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُم بِهِ حَتَّىٰ إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّـهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّـهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ ﴿٣٤﴾ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّـهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّـهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّـهُ عَلَىٰ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ﴾. ﴿٣٥ غافر﴾
معاشر المؤمنين والمؤمنات:
يقول سيد قطب - رحمه الله - في ظلال القرآن في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) ويبدو من قوله: ﴿ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ﴾. أن رأيه هذا كان يجد ممانعة ومعارضة - من ناحية الرأي - كأن يقال مثلاً: إن قتل موسى لا ينهي الإشكال. فقد يوحي هذا للجماهير بتقديسه واعتباره شهيداً, والحماسة الشعورية له وللدين الذي جاء به, وبخاصة بعد إيمان السحرة في مشهد شعبي جامع, وإعلانهم سبب إيمانهم, وهم الذين جيء بهم ليبطلوا عمله ويناوئوه, وقد يكون بعض مستشاري الملك أحس في نفسه رهبة أن ينتقم إله موسى له, ويبطش بهم. وليس هذا ببعيد, فقد كان الوثنيون يعتقدون بتعدد الآلهة, ويتصورون بسهولة أن يكون لموسى إله ينتقم له ممن يعتدون عليه! ويكون قول فرعون: ﴿وَلْيَدْعُ رَبَّهُ﴾ رداً على هذا التلويح! وإن كان لا يبعد أن هذه الكلمة الفاجرة من فرعون كانت تبجحاً واستهتاراً, لقي جزاءه في نهاية المطاف كما سيجيء. ولعله من الطريف أن نقف أمام حجة فرعون في قتل موسى: ﴿إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾. فهل هناك أطرف من أن يقول فرعون الضال الوثني, عن موسى رسول الله - عليه السلام-: ﴿إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾.؟!! أليست هي بعينها كلمة كل طاغية مفسد عن كل داعية مصلح؟ أليست هي بعينها كلمة الباطل الكالح في وجه الحق الجميل؟ أليست هي بعينها كلمة الخداع الخبيث لإثارة الخواطر في وجه الإيمان الهادئ؟ إنه منطق واحد, يتكرر كلما التقى الحق والباطل, والإيمان والكفر, والصلاح والطغيان على توالي الزمان واختلاف المكان. والقصة قديمة مكررة تعرض بين الحين والحين, فأما موسى - عليه السلام - فالتجأ إلى الركن الركين والحصن الحصين, ولاذ بالجناب الذي يحمي اللائذين, ويجير المستجيرين: ﴿وَقَالَ مُوسَىٰ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ﴾. قالها واطمأن, وسلم أمره إلى المستعلي على كل متكبر, القاهر لكل متجبر, القادر على حماية العائذين به من المستكبرين. وأشار إلى وحدانية الله ربه وربهم لم ينسها أو يتركها أمام التهديد والوعيد. كما أشار إلى عدم الإيمان بيوم الحساب. فما يتكبر متكبر وهو يؤمن بيوم الحساب, وهو يتصور موقفه يومئذ حاسراً خاشعاً خاضعاً ذليلاً, مجرداً من كل قوة, ما له من حميم ولا شفيع يطاع. هنا انتدب رجل من آل فرعون, وقع الحق في قلبه, ولكنه كتم إيمانه. انتدب يدفع عن موسى, ويحتال لدفع القوم عنه, ويسلك في خطابه لفرعون وملئه مسالك شتى, ويتسلل إلى قلوبهم بالنصيحة, ويثير حساسيتها بالتخويف والإقناع: ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾. قال هذا الرجل المؤمن من آل فرعون الذي يكتم إيمانه متسائلاً ومستنكراً فعل فرعون الأثيم: ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ﴾؟ وقال أيضاً محاولاً إقناع السامعين: ﴿إِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾. وقال متابعاً حديثه مع قوم فرعون: ﴿يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّـهِ إِن جَاءَنَا﴾؟
ويستمر الصراع بين الحق والباطل, ويحتدم النقاش, ويبلغ الجدال ذروته. ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴿٢٩﴾. وهي مقولة جميع الحكام والزعماء والقادة في أيامنا هذه التي نعيش فيها. ويقول الرجل المؤمن مقدما الدلائل الدامغة والبراهين القوية الساطعة على صدق دعواه وهذا شأن دعاة الإصلاح في عصرنا وفي كل العصور على مر التاريخ: ﴿وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ ﴿٣٠﴾ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّـهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ ﴿٣١﴾ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ ﴿٣٢﴾ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّـهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّـهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴿٣٣﴾ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُم بِهِ حَتَّىٰ إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّـهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّـهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ ﴿٣٤﴾ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّـهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّـهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّـهُ عَلَىٰ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ﴾. ﴿٣٥ غافر﴾
إنها جولة ضخمة هذه التي جالها الرجل المؤمن مع المتآمرين من فرعون وملئه. وإنه منطق الفطرة المؤمنة في حذر ومهارة وقوة كذلك. إنه يبدأ بتفظيع ما هم مقدمون عليه: ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّـهُ﴾. فهل هذه الكلمة البريئة المتعلقة باعتقاد قلب, واقتناع نفس, تَستحق القتل, ويُرَدُّ عليها بإزهاق روح؟ إنها في هذه الصورة فعلة منكرة بشعة ظاهرة القبح والبشاعة. ثم يخطو بهم خطوة أخرى. فالذي يقول هذه الكلمة البريئة: ﴿رَبِّيَ اللَّـهُ﴾. يقولها ومعه حجته, وفي يده برهانه: ﴿وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ﴾. يشير إلى تلك الآيات التي عرضها موسى -عليه السلام- ورأوها, وهم فيما بينهم وبعيداً عن الجماهير يصعب أن يماروا فيها! ثم يفرض لهم أسوأ الفروض; ويقف معهم موقف المنصف أمام القضية; تمشياً مع أقصى فرض يمكن أن يتخذوه: ﴿وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ﴾. وهو يحمل تبعة عمله, ويلقى جزاءه, ويحتمل جريرته. وليس هذا بمسوغ لهم أن يقتلوه على أية حال!
وهناك الاحتمال الآخر, وهو أن يكون صادقاً. فيحسن الاحتياط لهذا الاحتمال, وعدم التعرض لنتائجه: ﴿وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ﴾. وإصابتهم ببعض الذي يعدهم هو كذلك أقل احتمال في القضية, فهو لا يطلب إليهم أكثر منه. وهذا منتهى الإنصاف في الجدل والإفحام. ثم يهددهم من طرف خفي, وهو يقول كلاماً ينطبق على موسى كما ينطبق عليهم: ﴿إِنَّ اللَّـهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾. فإذا كان موسى فإن الله لا يهديه ولا يوفقه, فَدَعُوهُ لَهُ يلاقي منه جزاءه. واحذروا أن تكونوا أنتم الذين تكذبون على موسى وربه وتسرفون, فيصيبكم هذا المآل! وحين يصل بهم إلى فعل الله بمن هو مسرف كذاب, يهجم عليهم مخوفاً بعقاب الله, محذراً من بأسه الذي لا ينجيهم منه ما هم فيه من ملك وسلطان, مذكراً إياهم بهذه النعمة التي تستحق الشكران لا الكفران. ﴿وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ ﴿٣٢﴾ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّـهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّـهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴿٣٣﴾. نعوذ بالله العلي العظيم من الضالين والمضلين!!
معاشر المؤمنين والمؤمنات: ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة:
اللهم اجعل شهر القرآن الكريم هذا, شهر عز ونصر وتمكين للإسلام والمسلمين بقيام دولة الخلافة الثانية على منهاج النبوة, واجعلنا اللهمَّ ممَّن يتدبرون آياتك, فيأتمرون بأمرك, وينتهون عن نهيك: يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وَيَقدُرُونَكَ حَقَّ قَدْرك, ترضى عنهم, ويرضون عنك, واجعلنا اللهم ممن تقبلت منهم الصلاة والصيام, والدعاء والسجود والقيام, ومن عتقائك في هذا الشهر الكريم من النار, وأدخلنا الجنة مع الأبرار, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
  28 من رمــضان المبارك 1441هـ   الموافق   الخميس, 21 أيار/مايو 2020مـ

No comments:

Post a Comment