Monday, April 29, 2013

التفكير الارتدادى

التفكير الارتدادى

الكاتب: د. ياسر صابر
مقالات  - 2013/04/26م
التفكير الإرتدادى هو منهجية فى التفكير، تتأثر بالواقع حين اتخاذ القرار، سواء أكان هذا القرار هو البحث عن حل لمشكلة، أو إدراك لواقع المشكلة نفسها. ويطغى هذا النوع من التفكير على الذين يتأثرون بالواقع، فيتخذونه مصدراً لأفكارهم بدل أن يكون الواقع هو مادة التفكير التى يُبحث لها عن إجابات من خارج الواقع نفسه. ومن أجل فهم هذا النوع من التفكير سوف نعطى عليه أمثلة عدة لتوضيحه.
أوروبا من الظلام إلى الظلام
لقد رزحت أوروبا عقوداً طويلة من تاريخها تحت ظلام الإقطاع وهيمنة الكنيسة، ووقف الدين حائلاً بين العلماء والنهضة، حتى أن هناك من علماء أوروبا من حكمت عليهم الكنيسة بالحرق، فى عملية متعمدة لتعطيل العقل عن التفكير. فانشغل المفكرون والفلاسفة فى إيجاد طريق للنهضة، والخروج من هذا الظلام الدامس الذى خيم على أوروبا فى عصورها الوسطى، فوقع إدراكهم على أن الدين هو المشكلة الكبيرة، بل هو العائق أمام تقدمهم ونهضتهم، وإن كان هذا الإدراك صحيحاً، فإن الحل لا يكمن في حصر التفكير في الواقع الأوروبي فحسب والخروج بقناعة وجوب ترك الدين، بل يكون بالارتفاع عن الواقع الأوروبي الخاص، والنظرة المستنيرة إلى سائر الشعوب والأمم وكيف هو واقع الدين عندهم، وهل هو أيضاً سبب تأخرهم ويعيقهم عن التقدم؟ فلو نظروا بهذه النظرة الواسعة المستنيرة إلى الأمور لوجدوا أن جيرانهم المسلمين ليست عندهم هذه المشكلة مع دينهم، بل إن دينهم هو الذي نهض بهم وأوصلهم من غياهب التأخر والانحطاط إلى ربوع العُلى والتقدم، بل إن نور دينهم - الإسلام - كان يُشع فى هذا الوقت على أوروبا نفسها، ولو كان الدين سبباً للتخلف لما نهض به المسلمون. إذاً ... فالمشكلة ليست فى الدين بشكل عام، بل فى دينهم هم، فلو أنهم أمعنوا النظر واتبعوا الطريقة العقلية الصحيحة في التفكير، لأدركوا أن سبب تخلفهم ليس فى وجود الدين، بل فى اتباعهم لدين ناقص مُحَرَّف.
 إذاً فالمنهجية الخاطئة فى التفكير، والنظرة الضيقة والقياس الشمولي للأمور هو الذي يؤدى إلى الفشل فى إدراك واقع المشكلة، وبالتالى يؤدى إلى الخطأ فى العلاج، فالفكر العلمانى الذى فصل الدين عن الدولة فى أوروبا قد أخرج الغرب من ظلام كالح في العصور الوسطى إلى ظلام الرأسمالية الأقل سواداً، فنقلها من ظلام إلى ظلام أخر، حتى لو تزين الظلام الأخير ببعض مظاهر المدنية التى مهما تعددت فلن تُغنى عن الحق شيئاً، ولن تجعل نهضة الغرب نهضة صحيحة، فهى نهضة خاطئة منذ نشأتها، وها هى مدنيتهم لم ولن تنفعهم فى وقف أزماتهم الطاحنة على جميع الأصعدة.
إن النظر بتفحص إلى كل تفاصيل الفكر الغربى ترينا بما لا يدع مجالاً للشك أنه فكر ارتدادى، خرج كردة فعل على الواقع ولم يكن نتيجة بحث مستنير فى الكون والإنسان والحياة، فمثلاً الديمقراطية كنظام حكم قد استحسنها الغرب بصرف النظر عن صلاحيتها للحكم أم لا، ونرى الغرب قد تأثر بسيطرة رجال الإقطاع على الأراضي، فكانت ردة فعله على ذلك قوله بحرية التملك، دون التفكر فى صحة هذه الفكرة وضمانها لتوزيع عادل للثروة بين الناس أم لا، وقد تأثروا بنظرة الكنيسة للمرأة، التى كانت تعتبرها الكنيسة شيطاناً ولم تعطها من الحقوق شيئاً، فنادى أصحاب الفكر الارتدادى بمساواة المرأة بالرجل بغض النظر عما إذا كانت هذه الفكرة صحيحة أم لا.
هذه بعض الأمثلة من الفكر الارتدادى تبين أن الحضارة الغربية قائمة أساساً على هذا النوع سواء فى عقيدتها أم فى أنظمة حياتها. لذلك لا يمكن لهذه الحضارة أن تصل إلى الحق فى أى جزئية من جزئياتها، لأن الأساس الذى قامت عليه فى تناقض مع الحق دائماً.
إن الارتفاع عن الواقع لا يمكن أن يتم إلا بوجود فكر أساسى من خارج الواقع نفسه، وهذا هو ما قدمه الإسلام، حيث تفرد بأنه أتى وحياً من الله، فهو مرتفع بطبيعته عن الواقع، لذلك من جعل الإسلام أساس تفكيره، لا يمكن أن يتأثر بالواقع مطلقاً ولا يمكن أن يكون تفكيره ردة فعل على الواقع، لأن الأفكار التى أتى بها الإسلام تُجبر حاملها على أن يُخضع الواقع للفكر الحلول التي أتى بها الوحى وليس العكس.
ولأن الإسلام قد نزل وحياً من السماء، لذلك كانت عقيدته هى الحق المطلق، ولم تتأثر بأى واقع قبل الإسلام، على عكس عقيدة فصل الدين عن الدولة، التي تأثرت في أساسها وحلولها بسطوة الكنيسة على الناس في عصور الظلام. ومن العقيدة الإسلامية انبثقت كل أنظمة الحياة، والتى تظهر بجلاء الارتفاع عن الواقع فى معالجات الإسلام للمشاكل، فالأساس الذى يقوم عليه الفقه الإسلامى هو دراسة المشكلة وتحقيق مناطها، ثم الذهاب إلى ما نزل به الوحى والإتيان بالعلاج للمشكلة.
لقد أتى الإسلام بمنهجية واضحة فى التفكير، تحول دون الانزلاق فى وحل التفكير الارتدادى، لذلك يسير المسلم فى الحياة على هدى ونور، مهما واجه من مشاكل، فالطريق عنده واضح والحلول جاهزة فى كتاب الله وسنة رسوله: "ٱللَّهُ وَلِىُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ يُخْرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ ۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓا۟ أَوْلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّـٰغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَـٰتِ ۗ أُو۟لَـٰٓئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ". (البقرة 257)
لذلك عصمت العقيدة الإسلامية المسلمين من زلل التفكير الارتدادى، ووضعتهم على أرض ثابتة لا يمكن أن تميل بهم عن الحق إن بقوا واقفين عليها. ولهذا فأثر العقيدة الإسلامية يظهر فى كل سلوكهم، فيقف المسلم عالماً أمام أية مشكلة، يعرف الطريق الصحيح للتعامل معها، ولا تستعصي عليه أى أمور مهما ظهرت صعوبتها لأن المنهج واضح فى الفهم وفى الحل.
وبالرغم من أن التفكير الارتدادى هو صناعة غربية بامتياز، وخرجت من بين ضلوع العلمانية، إلا أن هناك من المسلمين أفراداً وجماعات من غلب عليهم هذا النوع من التفكير بسبب غياب الفهم المبدئى للإسلام وغياب تأثير العقيدة الإسلامية على سلوكهم، وبالتالى غابت عنهم المنهجية الصحيحة فى التعامل مع الواقع، ووقعوا فى زلل التفكير الارتدادى، والأمثلة على ذلك كثيرة سوف نتعرض لها فى موضوع قادم إن شاء الله.

No comments:

Post a Comment