Tuesday, April 28, 2020

تأملات قرآنية (5)

تأملات قرآنية (5)

الهدى والضلال
إخواننا الكرام، أخواتنا الكريمات:
أيها المؤمنون والمؤمنات: الصائمون والصائمات:
أحبتنا الكرام:
نحييكم بأطيب تحية: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الحمد لله القائل في محكم كتابه وهو أصدق القائلين: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) والصلاة والسلام على رسول الله القائل: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين". ثم أما بعد: فتعالوا معنا أحبتنا الكرام، وهلم بنا نحن وإياكم نتجه إلى مائدة القرآن الكريم نتأمل ونتدبر آياته جل وعلا عسى أن ينفعنا ويرفعنا بما فيه من الذكر الحكيم إلى أعلى الدرجات في جنات النعيم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ومع الآية الثانية والسبعين بعد المائتين من سورة البقرة. يقول الله تعالى: ﴿لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّـهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾. (البقرة ٢٧٢) قال نخبة من المفسرين: لست - أيها الرسول- مسئولا عن توفيق الكافرين للهداية، ولكن الله يشرح صدور مَن يشاء لدينه، ويوفقه له. ولكن هذا التفسير مرجوح، والأرجح ما سيأتي بيانه لاحقا. وما تبذلوا من مال يَعُدْ عليكم نَفْعُه من الله، والمؤمنون لا ينفقون إلا طلبًا لمرضاة الله. وما تنفقوا من مال - مخلصين لله - توفوا ثوابه، ولا تُنْقَصُوا شيئا من ذلك. وفي الآية إثبات صفة الوجه لله تعالى على ما يليق به سبحانه.
  مسألة «الهدى والضلال» التي عدها العلماء من توابع قضية الجبر والاختيار والقضاء والقدر، قد وردت في القرآن الكريم عدة آيات يشعر ظاهرها بأن اللّه تعالى هو الذي يهدي ويضل من دون اختيار للإنسان في ذلك‏ {فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [إبراهيم 4] {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الرعد 33]، وإذا كانت الهداية والإضلال من اللّه تعالى فلماذا يعاقب الضالين على ضلالهم، ويثيب المؤمنين على هداهم، و كلاهما من فعل اللّه تعالى وبمشيئته؟.
معاشر المؤمنين والمؤمنات:
ويجدر بنا قبل الجواب على هذه الشبهة أن نستعرض معاني الهدى والضلال كما وردت في كتب اللغة وكما استعملها القرآن الكريم في طيات آياته، لنفهم الغرض منها بدون لبس أو غموض: «أصل الهداية في اللغة: الدلالة على طريق الرشد»، «وهداه للطريق وإلى الطريق إذا دلّه على الطريق، وهديته الطريق والبيت هداية أي عرفته»، و«الهدى ضد الضلال، وهو الرشاد والدلالة» ويقال: «هديت لك في معنى بينت لك».  كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ} [السجدة 26]. أما «قوله عز وجل: الذي أعطى كل شي‏ء خلقه ثم هدى، معناه: خلق كل شي‏ء على الهيئة التي بها ينتفع، ثم هداه لمعيشته». و«الهداية في كلام العرب بمعنى التوفيق، قال الشاعر:
لا تحرمني هداك اللّه مسألتي‏   ...   ولا أكونن كمن أودى به السفر
يعني به: وفقك اللّه لقضاء حاجتي. وقوله تعالى: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات 23] «أي أدخلوهم النار كما تهدى المرأة إلى زوجها يعني بذلك أنها تدخل إليه». و«يقال لمن يتقدم القوم ويدلهم على الطريق: هاد»، و«الهداية: هي الثواب». قال تعالى: {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس: 9] أي يثيبهم وقال تعالى: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة 258] {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 264] {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 108] {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف: 52] أي لا يثيب، ومنه قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 272] أي ليس عليك ثوابهم، ولكن اللّه يثيب من يشاء. وهذا هو التفسير الراجح، وهو أقوى من تفسير النخبة من العلماء الذي ذكرناه آنفًا. و«أصل الضلال الهلاك، ومنه قوله تعالى: {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} [السجدة: 10] أي هلكنا... والضلال في الدين: الذهاب عن الحق، والإضلال، الدعاء إلى الضلال والحمل عليه، ومنه قوله تعالى. {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ}. [طه 85]، والإضلال الأخذ بالعاصين إلى النار». إن النظرة الفاحصة لهذه المعاني التي يستعمل فيها لفظا الهدى والضلال ترشدنا إلى ما يأتي:
1- إن الإضلال قد يطلق على الإشارة إلى خلاف الحق والدعوة إلى الضلال والحمل عليه‏. وذلك ما لا يمكن وصف اللّه تعالى به أو نسبته إليه:‏ {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} [التوبة 115]، بل إن الضلال- بصريح القرآن- لن يتحقق إلا بفعل الإنسان ومحض اختياره، قال تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا}. [النساء 116] وقال تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} [سبأ 50] وقال تعالى: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [الإسراء: 15] وقال تعالى:{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} [النحل: 125] كذلك يطلق الإضلال أيضا على الإبطال والإهلاك مثل قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} [غافر 74] أي يهلكهم، وقوله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الرعد 33] أي: ومن يهلك اللّه من الكافرين والظالمين فما له من مثيب، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد 4] أي فلن يبطل أعمالهم.
2- يطلق الهدى على الدلالة إلى الحق‏ مثل قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف 43] وقوله تعالى: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات 17] وقوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت 17] كما يطلق الهدى على الإثابة أيضا مثل قوله تعالى: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} [محمد 5] أي سيثيبهم.
معاشر المؤمنين والمؤمنات:
وعلى ضوء هذه الخلاصة لمعاني الهدى والإضلال نصل إلى نتيجة البحث، وهي: أن الإضلال بمعنى الإشارة إلى خلاف الحق مستحيل على اللّه تعالى لأنه الآمر بالحق، ولا يجوز في العقل أن يشير إلى خلافه أبدا. وإن الهدى بمعنى الدلالة إلى الحق قد فعله اللّه وحققه بإرسال الأنبياء وإنزال الكتب جيلا بعد جيل. ولم يبق لدينا من المعاني المنسجمة مع الواقع سوى الإضلال بمعنى الإهلاك في العقاب والهدى بمعنى الثواب، ويكونان هما المقصودين حصرا بما يتكرر وروده في القرآن الكريم نحو قوله تعالى:{أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} [النساء 88]: أي‏ أتريدون أن تثيبوا من أهلك اللّه بالعقاب، ونحو قوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة 26] أي بالقرآن؛ حيث يهلك اللّه تعالى بنزول القرآن كثيرا من الناس لتمردهم عليه وعدم تنفيذهم لأوامره ونواهيه بعد إلزامهم بها ويثيب به كثيراً من الناس لإطاعتهم وتسليمهم وإذعانهم.
وإذا لم يكن الغرض من الهداية الإثابة لما فهمنا معنى مقبولا لما جاء في قوله تعالى مخاطبا نبيّه الأعظم: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة 272]. وقوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص 56]، ولو كانت الهداية بمعنى الإرشاد والدلالة لكانت هاتان الآيتان هدما لرسالة النبي في أبرز واجباتها وهو الدلالة والإرشاد والتوجيه.
وعلى هذا المنهج نسير في فهم سائر الآيات المباركة التي تحمل كلمات الهدى والإضلال، حيث يتجلى لنا سلامة كل هذه النصوص القرآنية مما يتنافى مع الاختيار الكامل والإرادة الحرة المنبعثة من نفس الإنسان ورغبته.
وبذلك نفهم أوضح الفهم معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من سعد في بطن أمه»، إذ ليس المقصود به أنه تعالى قد خلقه مجبوراً على فعل ما يشقى به من معصية، وضلال أو ما يسعد به من طاعة وهدى ورشاد، وإنما الغرض منه كما قال الإمام الصادق عليه السلام بيان أن «الشقي من علم اللّه وهو في بطن أمه أنه سيعمل عمل الأشقياء، والسعيد من علم اللّه وهو في بطن أمه أنه سيعمل عمل السعداء»، وهذا من باب انكشاف الواقع لعلم اللّه تعالى، وليس فيه أي معنى من معاني الجبر والإكراه.
معاشر المؤمنين والمؤمنات: ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة:
اللهم اجعل شهر القرآن الكريم هذا، شهر عز ونصر وتمكين للإسلام والمسلمين بقيام دولة الخلافة الثانية على منهاج النبوة، واجعلنا اللهمَّ ممَّن يتدبرون آياتك، فيأتمرون بأمرك، وينتسهون عن نهيك: يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ويقدرونك حق قدرك، ترضى عنهم، ويرضون عنك، واجعلنا اللهم ممن تقبلت منهم الصلاة والصيام، والدعاء والسجود والقيام، ومن عتقائك في هذا الشهر الكريم من النار، وأدخلنا الجنة مع الأبرار، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. 
  5 من رمــضان المبارك 1441هـ   الموافق   الثلاثاء, 28 نيسان/ابريل 2020مـ

No comments:

Post a Comment