Tuesday, April 25, 2017

جريدة الراية: مئوية الإمارات: ضرب في الخيال

جريدة الراية: مئوية الإمارات: ضرب في الخيال

29 من رجب 1438هـ   الموافق   الأربعاء, 26 نيسان/ابريل 2017مـ
تستند مئوية الإمارات 2071 إلى أربعة محاور رئيسية: الأول تطوير حكومة مرنة بقيادة واعية ذات رؤية واضحة، تسعى إلى إسعاد شعبها وتقدم رسائل إيجابية للعالم. ويتمثل المحور الثاني في الاستثمار في التعليم، بحيث يركّز على العلوم والتكنولوجيا المتقدمة، ويرسّخ القيم الأخلاقية والاحترافية والمهنية في المؤسسات التعليمية، ويخرّج عقولاً منفتحة على تجارب الدول المتقدمة. ويستهدف المحور الثالث الوصول إلى اقتصاد متنوع قائم على المعرفة، ينافس أفضل اقتصادات العالم. أما المحور الرابع فيتعلق بترسيخ قيم التسامح والتماسك والاحترام في المجتمع، كل ذلك ضمن محصلة تنموية وتطويرية شاملة كي تكون الإمارات أفضل دولة في العالم بحلول عام 2071.
مما لا شك فيه أن كل شعب من شعوب العالم يطمح أن يكون الأفضل في كل شيء وأن يحصل على السعادة المطلقة وأن يحظى برغد العيش وغير ذلك مما تمليه غرائز الإنسان التي طبع الله الناس عليها. إلا أن تحقيق الرغبات وما يصبو إليه البشر لا يكون بتكريس هذه الرغبات على الورق والتصريح بها من على المنابر أو حتى إدراجها في أجندات الحكومات وبرامج الأمراء والملوك. فالتمني شيء وتحقيق الأماني شيء آخر. والله تعالى رد على اليهود والنصارى حين قالوا إنهم سيدخلون الجنة وحدهم بقوله ﴿وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾. فلم ينكر القرآن عليهم التمني إنما طلب منهم البرهان على كيفية تحقيق أمانيهم. ثم قال الله تعالى شاملا المسلمين كذلك ﴿لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾.
وفي مجال تحقيق رغد العيش ذكر القرآن الكريم أن ذلك يحتاج إلى طريقة وإلى الاستقامة على الطريقة ﴿وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا﴾.
 والطريقة هي مجموعة أعمال ثابتة تستمد حقيقتها وصحتها ليس من التمني أو الطموح بل تستمدها من فكرة أساسية تشمل الإنسان الذي هو محور العمل والحياة التي يحياها الإنسان والكون الذي هو مصدر الأدوات التي تتحقق بها الرغبات. وإنه وإن كان استشراف أي عمل قريب وتحقيق أي غاية مرئية بالعين يحتاج إلى طريقة وأساليب وخطط، إلا أنه كلما بَعُدَ العمل وتعقدت الغايات وزاد الطموح كانت طريقة تحقيق ذلك أصعب وفهمها أعقد وتبيانها أشد. ومن هنا كان لا بد لأي طريقة لتحقيق أي هدف مهما جل أو صغر أن تكون مستندة إلى فكر واضح بيّن يبين معالم هذه الطريقة ويوضح آفاقها ويرسمها رسماً بيّنا.
والأهم من كل ذلك أن تكون الفكرة التي تبنى عليها طريقة تحقيق الغايات والأهداف وما يرافقها من أمانٍ وتمنيات أن تكون محل اعتقاد وإيمان من المجتمع الذي يسعى لتحقيق تلك الغايات حتى تكون طريقة كل ذلك ليست محلا للجدل أو موضعا للتغيير والتبديل أو تكون مجرد رؤية لحالم أو عبقري. فالإيمان بأساس الفكرة التي تنبثق عنها الطريقة لا يقل أهمية عن وضوح الطريقة نفسها، ثم إن الغاية التي يسعى لها الإنسان والأهداف المرحلية أو الدائمة لا بد أن تكون هي كذلك جزءاً لا يتجزأ من منظومة العقيدة وما يلحق بها من أفكار، حتى لا تكون عرضة للمساومة والتبديل والتغيير.
وعودة إلى رؤية الإمارات، فهي من عنوانها تبدو أنها رؤية شخص أو اثنين كما جاء على لسان حاكم دبي الذي عزا الرؤية لولي العهد في الدولة. فأين تكون الإمارات بعد 100 عام على نشوئها ليست مسألة رؤية وتصور وطموح، بل هي كما هي غيرها مسألة طريق يتم رسمه بناء على فكرة واضحة بينة تصلح لرسم طريق. ولست هنا بصدد مناقشة جدية الرؤية والتصور من حيث الزمن والمدة مجال البحث، إذ إن أكثر الدول تقدما ومعرفة وقدرة على التحليل العميق وحصر الطاقات والموارد كانت لا تتعدى الخمس سنين في خططها، ومع ذلك فكثيرا ما كانت تضطر إلى التعديل والتأخير والتغيير.
ولكنني هنا بصدد مناقشة المسألة من زاوية أبعد؛ وهي الأساس الذي تنبثق عنه الأفكار التي تشكل طريقة عمل وتحديد الأهداف والغايات.
والواقع أن رؤية الإمارات وما ورد فيها من محاور لم تستند إلى أي فكر شامل عن الكون والإنسان والحياة، وكل ما ذكر عن الفكر والتفكير أن هذه الرؤية تعبر عن فكر حاكم دبي الثاقب وولي عهد الدولة! أما ما هو هذا الفكر الثاقب وعلى ماذا يستند وما هي براهينه "قل هاتوا برهانكم"، فيبقى الفكر في رأس المفكر كما قيل سابقا "المعنى في نفس الشاعر" حين لا يعلم الناس مقصود الشاعر. والأفكار التي تنبثق عنها طرق واضحة وتحدد أهدافاً واقعية وليست مجرد أمانٍ فلسفية هي بطبيعتها تشكل مبادئ يصلح البناء عليها. فالرأسمالية ومنها الديمقراطية، والاشتراكية ومنها الشيوعية أفكار مبدئية يمكن أن ينبثق عنها طرق واضحة يمكن التنبؤ بنتائجها وإلى أين يمكن أن توصل. فحين حدد الفكر الاشتراكي الجدلية المادية والتاريخية، وحين جعل الصراع الطبقي طريقة للتغير الاجتماعي، وحين جعل الاقتصاد حكما على السياسة والمادة على الفكر، وجعل ملكية الأشياء بيد العامة من الناس، كان من الممكن أن ترسم صفة واضحة لما يمكن أن يؤول إليه المجتمع. وقد تشكل المجتمع الاشتراكي تماما على الحالة التي أدت إليه طريقة الاشتراكية في العمل: مجتمع متجانس إلى أبعد الحدود، يسير بشكل شبه آلي، بطيء الحركة بسبب تغييب الدوافع المنبثقة عن الملكية الخاصة، بوليسي بسبب كبح بعض من الغرائز البشرية.
وكذلك مجتمعات الرأسمالية التي تمت صياغتها بناء على أفكار آدم سميث وريكاردو ومدنية جان جاك روسو وفولتير، نشأت بناء على تلك الأفكار مجتمعات مفتوحة متحررة ليبرالية، انتشرت فيها الحريات المختلفة، وتفجرت طاقات الأفراد في الإنتاج والمنافسة، وتنوعت فيها أنماط الحياة، وتحركت عجلة الصناعة والإبداع، وتباطأت فيها عجلة النمو البشري بسبب طغيان النفعية والمتع الآنية، حتى شارفت بعض المجتمعات على الانقراض.
وكذلك قدّم الإسلام فكرا مبدئيا واضحا فسر علاقة الإنسان بنفسه وحياته وعلاقته بالكون وعلاقته بخالق الكون تفسيرا مبنيا على التفكير المستنير. ثم بين للإنسان المؤمن بهذا المبدأ غايته من العيش في هذا الكون وطريقة تحقيق هذه الغاية. وبين له معنى السعادة وجعل كل إنسان مسؤولا عن نفسه وعن غيره وعن الكون الذي يعيش فيه باعتباره مستخلَفاً في هذا الكون. وبناء على ذلك فقد نشأ مجتمع بناء على مبدأ الإسلام جعلت فيه الرابطة بين الناس هي رابطة العقيدة، فانصهرت القوميات والإثنيات في بوتقة الإسلام، وزالت الفوارق الطبقية بين الناس، وتفجرت طاقة الأفراد في الإبداع دون أن يصيبها الكبر والترف، وتوزعت الثروة بشكل طبيعي بحيث انتفى الفقر في المجتمع الإسلامي، وتحقق توازن منقطع النظير بين حاجة الأفراد وحاجة المجتمع، ونشأت المجتمعات الإسلامية تماما كما تم تصورها بناء على الإيمان بفكرة الإسلام وعقيدته وبناء على طريقته في العمل.
هكذا تنشأ المجتمعات وتتحدد معالمها على مدى سنين وعقود، بناء على طريقة واضحة في العمل وفكرة تنبثق عنها الطريقة، وهي سنة كونية لا تتخلف ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾، ﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾.
أما رؤية محمد بن راشد فهي رؤية شخص بغض النظر عن مدى ذكائه وعمق فكره، فهي لا تستند إلى فكرة عقدية تصلح لأن تشكل مبدأ، وليست ذات طريقة مبنية على فكر، ولا أهدافها وغاياتها منبثقة عن الفكرة. فلا هي فكرة قائمة على مبدأ الإسلام ولا هي اشتراكية ماركسية أو لينينية ولا هي رأسمالية سميث أو مكنزي أو غيرهما... وبالتالي فإن مئوية الإمارات 2071 لا تعدو كونها موضوع إنشاء تمت صياغته بأسلوب أدبي يدغدغ رغبات الناس ويرضي غرور الكثيرين.
لقد كان بالإمكان الحديث عن هذه الرؤية من زوايا كثيرة أخرى ومناقشة الاستقلال هل حصل فعلا أم لا؟ والتبعية لبريطانيا هل انتهت أم لا؟ وكيفية ظهور دبي وهل هو ظهور طبيعي أم مصطنع؟ وحقيقة الاقتصاد القائم سواء على النفط أم على الخدمات البنكية؟ وغيرها كثير... ولكن آلينا في هذا المقال بحث الموضوع من زاوية الفكرة والمبدأ لعل الشعوب تدرك سبب النهضة والبناء القويم الذي لا ينهار سقفه على أهله. ﴿قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ﴾.
بقلم: د. محمد الجيلاني

No comments:

Post a Comment