Saturday, December 31, 2016

استقلال السودان... حقيقة أم تضليل؟!

استقلال السودان... حقيقة أم تضليل؟!

نلاحظ هذه الأيام عبر وسائط الإعلام في السودان من صحف وفضائيات وإذاعات الكثير من التصريحات والمقالات للوسط السياسي والصحفيين والمسؤولين في الدولة عما يسمى "استقلال السودان" محتفية بهذا الحدث الذي تأتي ذكراه وقد مر أكثر من ستين عاماً على خروج المستعمر البريطاني بجيوشه من بلاد السودان.
وهنا لا بد أن نتوقف قليلا ونفكر في حقيقة هذا "الاستقلال" ولا ننجرف مع الموجة فنصبح من جوقة المطبلين ومرددي "الأهازيج الوطنية"
وحتى نصل إلى الحقيقة الساطعة لا بد من إعطاء لمحة تاريخية عن الاستعمار الذي أعقب خروجه من البلاد التي احتلها نشوءُ فترة ومرحلة أطلق عليها الساسة مصطلح "الاستقلال"، فبعد ضعف ثم انهيار الدولة العثمانية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين دخلت الدول الأوروبية على الخط، فحلت محل الدولة العثمانية في البلاد التي كانت تسيطر عليها.
قامت الدول الأوروبية بالسيطرة المباشرة ووضع اليد على تركة الدولة العثمانية عبر الاحتلال العسكري، وكان السودان من ضمنها، فقد قامت بريطانيا باحتلال السودان في العام 1898م ومكثت فيه حتى العام 1956م. هيمنت بريطانيا على السودان بعد احتلالها له، وقامت بتسخير إمكانياته الهائلة وثرواته الضخمة لخدمة مصالح التاج البريطاني، واتخذت العديد من السياسات والوسائل والأساليب والأدوات بما يضمن لها استمرار هيمنتها على السودان في كل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والثقافية والتعليمية.
نشأت فكرة "استقلال الشعوب" في أربعينات وخمسينات القرن الماضي بعد تبني الاتحاد السوفياتي للفكرة، فنادى بتحرر الشعوب، وفك ارتباطها مع المحتل، وطرد الجيوش الغازية، وقام الاتحاد السوفياتي آنذاك بدعم الحركات الساعية لتحرير بلادها من المستعمر فأوجد ذلك رأيا عاما قويا في العالم لهذه الفكرة، ثم تبنت أمريكا أيضاً الفكرة بعد الحرب العالمية الثانية ونادت بها حتى تحرم المستعمر الأوروبي من مناطق نفوذه، وتوجد لها موطئ قدم في البلاد التي احتلها الأوروبيون.
كل ذلك دفع المستعمر الأوروبي وعلى رأسه بريطانيا وفرنسا للانحناء أمام العاصفة، ومن ثم تفتق ذهن الدول المستعمرة على فكرة الخروج عسكريا من البلاد التي احتلتها مع ربط تلك البلاد بها في كل المجالات، وتكبيلها بقيود واتفاقيات تضمن لها السيطرة الكاملة.
ففي السودان وهو موضوع مقالنا خرج المستعمر البريطاني بجيوشه مطمئنا على مصالحه ونفوذه، وتم ذلك بتسليم البلاد إلى نخبة سياسية أشرف هو نفسه على صنعها لتتولى إدارة دفة البلاد من بعد رحيله بما يؤمن له استمرار هيمنته، وهذه النخبة تدين له بالولاء والخضوع، وتحرص على تنفيذ سياساته ورعاية مصالحه، ولذلك سمح المحتل البريطاني لهذه النخبة بالعمل، وعمل على إبرازهم كقادة ومناضلين وهم غارقون حتى الثمالة في الولاء للمستعمر، وقد ذكر الكاتب الصحفي الشهير ورئيس تحرير صحيفة التيار السودانية عثمان ميرغني في كتابه (عشر مخاز سودانية... كيف أضاعوا السودان) ذكر بعضاً من التاريخ الأسود لهذه القيادات الذين أطلق عليهم لاحقاً لقب (رواد الاستقلال) وجاء في الكتاب ما يلي:
"
في يوم 28 تموز/يوليو عام 1919 استقبل الملك جورج الخامس ملك بريطانيا في قصره في بكنجهام وفداً مثل السودان كلّه... أفقياً ورأسياً... الوفد يتكون من ثلاثة من أكبر زعماء الطوائف الدينية... هم السيد علي الميرغني زعيم الطائفة الختمية، والسيد عبد الرحمن المهدي زعيم طائفة الأنصار، والسيد الشريف يوسف الهندي. ويرافقهم ثلاثة من العلماء السودانيين هم: الشيخ علي الطيب أحمد هاشم "مفتي السودان"، والشيخ أبو القاسم أحمد هاشم "رئيس لجنة العلماء"، والشيخ إسماعيل الأزهري "قاضي دارفور"، ومعهم أربعة من زعماء القبائل هم: السيد علي التوم "ناظر الكبابيش"، والسيد إبراهيم موسى "ناظر الهدندوة"، والسيد عوض الكريم أبو سن "نائب ناظر الشكرية"، والسيد إبراهيم محمد فرح "ناظر الجعليين"." سجلت الصحف البريطانية - وبالتحديد - صحيفة (التايمز) خبر هذه الزيارة التاريخية، وأنا - هنا - أستأذن الأستاذ بدر الدين حامد الهاشمي في استخدام ترجمته لخبر نشرته صحيفة (التايمز)، ونقلته صحيفة أسترالية بعد عدة أشهر. عنوان الخبر (ولاء السودان: وفد الزعماء إلى الملك:SUDAN LOYALTY CHIEF'S DEPUTATION TO THE KING)
"
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي، أوردت صحيفة التايمز في يوم 29 تموز/يوليو 1919م نبأ زيارة وفد الزعماء السودانيين - وهم في ملابسهم التقليدية - إلى قصر بكنغهام في اليوم السابق، حيث قدموا للملك (جورج الخامس) خطاب تهنئة وولاء؛ بمناسبة انتهاء الحرب بنصر مبين، وكان يرافق الوفد السوداني - الذي ترأسه السيد السير علي الميرغني - كلٌّ من اللواء السير ريجيلاند ونجت، والمشير لورد قرينفيل، والسير أيدقارد بيرنارد، واستقبل الوفد في القصر - أولاً - لورد كرومر، والذي أخذهم إلى مقابلة الملك والملكة، وألقى رئيس وفد الزعماء السودانيين كلمة باللغة العربية تولى ترجمتها السير ونجت."
هذه القيادات التي قدمت الولاء الكامل والخضوع التام للمستعمر هي نفسها التي كانت تتصدر مشهد ما يسمى (إعلان الإستقلال!!)
وقد جاء في بيان "الاستقلال" الذي تلاه إسماعيل الأزهري: (ﻭﻻ ﻳﺴﻌﻨﺎ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﻨﺎﺳﺒﺔ ﺇﻻ ﺃﻥ ﻧﻤﺠﺪ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺸﻌﺐ ﺍﻷﺑﻲ ﻋﻠﻰ ﺣﻴﻮﻳﺘﻪ ﻭﺇﻳﻤﺎﻧﻪ ﻭﺟﻬﺎﺩﻩ ﺍﻟﺬﻱ ﺃﺛﻤﺮ ﺃﻃﻴﺐ ﺍﻟﺜﻤﺮﺍﺕ، ﻭﺃﺭﻯ ﻭﺍﺟﺒﺎً علي في ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻠﺤﻈﺔ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻴﺔ ﺃﻥ ﺃﺯﺟﻲ ﺍﻟﺸﻜﺮ ﺇﻟﻰ ﺟﻤﻬﻮﺭﻳﺔ ﻣﺼﺮ وﺣﻜﻮﻣﺔ ﺍﻟﻤﻤﻠﻜﺔ ﺍﻟﻤﺘﺤﺪﺓ ﺍﻟﻠﺘﻴﻦ ﺃﻭﻓﺘﺎ ﺑﻌﻬﺪﻫﻤﺎ ﻭﻗﺎﻣﺘﺎ ﺑﺎﻟﺘﺰاﻣﺎﺗﻬﻤﺎ ﺍﻟﺘﻲ قطعتاها ﻋﻠﻰ ﻧﻔﺴﻴﻬﻤﺎ ﻓﻲ ﺍﺗﻔﺎﻗﻴﺔ ﻓﺒﺮﺍﻳﺮ 1953ﻡ، ﻭﻫﻤﺎ ﺍﻟﻴﻮﻡ ﻓﻲ ﻫﺪﻭﺀ ﻭﺑﻨﻔﺲ ﺭﺍﺿﻴﺔ ﺗﻄﻮﻳﺎﻥ ﻋﻠﻤﻴﻬﻤﺎ ﺍﻟﻠﺬﻳﻦ ﺍﺭﺗﻔﻌﺎ ﻓﻮﻕ أﺭﺽ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻮﻃﻦ ﺳﺘﺔً ﻭﺧﻤﺴﻴﻦ ﻋﺎﻣﺎً ﻟﻴﺮﺗﻔﻊ ﻓﻲ ﻣﻜﺎﻧﻴﻬﻤﺎ ﻋﺎﻟﻴﺎً ﺧﻔﺎﻗﺎً ﻋﻠﻢ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻥ ﺍﻟﺤﺮ ﺍﻟﻤﺴﺘﻘﻞ).
إذاً كان خروج المحتل البريطاني صفقة سياسية تمت، خرج بعدها المحتل مطمئنا على مصالحه ونفوذه في السودان.
واليوم بعد ستين عاماً من خروج جيوش المستعمر ما تزال بلادنا ترزح تحت نير الاستعمار الغربي، ويحكم الغرب قبضته على مفاصل الحياة:
سياسيا: يشهد السودان تدخلا مباشرا من دول الغرب في شؤونه الداخلية، والسياسات التي ينتهجها النظام السوداني تكون تنفيذا لتوجيهات مباشرة من قبل أمريكا، وأقرب مثال على ذلك هو موضوع "الحوار الوطني" الجاري حتى الآن والذي جاء تنفيذا لتوصيات ومقررات مركز السلام الأمريكي الذي صدرت منه ورقة بعنوان (الطريق إلى الحوار الوطني في السودان) كتبها كل من المبعوث الأمريكي السابق للسودان (برنستون ليمان)، ومدير برنامج القرن الأفريقي التابع لمركز السلام الأمريكي (جون تيمن) بتاريخ 2013/8/13 جاء فيها: (لقد حان الوقت لأن يشرع السودان في حوار داخلي حقيقي، وعملية إصلاحية تؤدي إلى حكومة ممثلة لقاعدة واسعة، وديمقراطية، وقادرة على السعي نحو عملية مصالحة مجدية بين السودانيين)، ثم زار الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر رئيس الجمهورية عمر البشير يوم 2014/1/21، ثم أعقب ذلك إعلان البشير لخطاب "الوثبة" الشهير في 2014/1/27 الذي دعا فيه القوى السياسية السودانية إلى "حوار وطني شامل" لحل مشكلات السودان.
اقتصاديا: تسير البلاد وفقاً للنظام الاقتصادي الرأسمالي الذي فرضته دول الغرب، وترتبط السياسات الاقتصادية في السودان بالمنظمات الدولية التي يسيطر عليها الغرب كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، كما ترتبط العملة المحلية بالدولار الأمريكي، ومعظم ثروات البلاد تحت هيمنة الشركات الرأسمالية الغربية العابرة للقارات.
اجتماعيا: تسود مظاهر ومفاهيم الحضارة الغربية، ويتجلى ذلك في المظهر العام للشارع وشيوع ثقافة الحرية الشخصية، وانتشار الزنا والمخدرات والجريمة والتفكك المجتمعي والأسري.
فكريا: هيمنت أفكار ونظم ومفاهيم وقيم المستعمر على السودان، وشاعت أفكار الديمقراطية والعلمانية والرأسمالية والحريات والوطنية والقومية والليبرالية عند الأوساط السياسية والنخب المثقفة، كما تمت صياغة مناهج التعليم على أساس هذه الأفكار، وصار الإعلام ناشرا ومروجا لأفكار الغرب وحضارته ونمط عيشه.
عسكريا: عاد المستعمر بجيوشه مرة أخرى عبر واجهات جديدة ومسميات خادعة، فالسودان توجد على أرضه أكبر قوة لما يسمى "قوات حفظ السلام الدولية" في دارفور أو ما يعرف بـ"قوات اليوناميد" التي يبلغ تعدادها أكثر من ستة وعشرين ألف جندي مزوَّدين بكل أنواع العدة والعتاد، وتمارس هذه القوات الأممية سياسات خبيثة تدعم المتمردين، كما تقوم بانتهاكات بحق أهل دارفور تحت سمع وبصر النظام الحاكم الذي تحدى الناطق الرسمي لقوات اليوناميد رئيسه الذي يعتبر أعلى سلطة سياسية في البلاد حين تحدث عن خروج اليوناميد فرد عليه متحدث اليوناميد متحديا: (يوناميد لن تخرج من دارفور والخرطوم تعلم ذلك)، كما توجد "قوات حفظ سلام" أممية في منطقة أبيي، بالإضافة للمبعوثين الدوليين من دول الغرب والأمم المتحدة ومندوبي المنظمات الدولية الذين يجوبون البلاد طولا وعرضا ويدسون أنوفهم في أدق التفاصيل دون أن يحرك النظام الحاكم في السودان تجاههم ساكنا، أو يتخذ حيالهم أي إجراءات تحفظ له "السيادة المزعومة!!"
إن الانعتاق من التبعية للمستعمر وفك الارتباط معه لا يسمى "استقلالاً"، فهو كما أسلفنا فكرة خبيثة لتمزيق بلاد المسلمين التي تجمعها دولة واحدة، واستبدال كيانات هزيلة تحت مسمى "الدولة الوطنية" التي أشرف على صنعها المستعمر نفسه بها، لكن الانفكاك من ربقة الاستعمار يسمى "تحرراً"، وهذا التحرر لا يتم إلا من خلال دولة مبدئية تجعل من الإسلام أساسا لها، وتجمع شتات المسلمين في كيان واحد، وهذه الدولة هي التي سوف تقوم بكنس كل آثار ومخلفات المستعمر في بلادنا، فلا تبقى له باقية، فتستعيد الأمة سلطانها وسيادتها من المستعمر وأذنابه من الحكام العملاء.
ويسير الاقتصاد وفقا لنظام محكم من رب البشر يسوس الناس بالعدل فينعموا بالرخاء والأمان.
وتتحول مظاهر الحياة العامة من فسق وفجور وانحلال في ظل نظم الحضارة الغربية إلى إلتزام بأحكام الله عز وجل وتماسك وترابط للمجتمع والأسرة في ظل نظام الإسلام ونمط عيشه الراقي.
وتسود في الأمة مفاهيم وأفكار الإسلام كالشريعة والخلافة والجهاد والتقيد بالحكم الشرعي وغيرها من الأفكار الإسلامية النيرة.
وتتم صياغة مناهج التعليم على أساس أفكار الإسلام، ويروج ويسوق الإعلام للإسلام شارحا للعالم البائس الشقي تحت النظام الرأسمالي البغيض كيف يستطيع الإسلام إخراجهم من الشدة إلى الرخاء ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
علي بابكر محمد مختار - ولاية السودان
  2 من ربيع الثاني 1438هـ   الموافق   السبت, 31 كانون الأول/ديسمبر 2016مـ

No comments:

Post a Comment