Saturday, December 26, 2020

جريدة الراية: تونس الأزمة المتوارثة ج1

 جريدة الراية: تونس الأزمة المتوارثة ج1

 

  8 من جمادى الأولى 1442هـ   الموافق   الأربعاء, 23 كانون الأول/ديسمبر 2020مـ

لا يجرفنا سيل الأحداث السياسية المتواترة والمعارك التي منها ما هو جانبي ومنها ما هو تافه ومنها ما يرتقي للنظر فضلا عن أمهات المعارك والقضايا الحقيقية التي فعلا لا بدّ أن يتداعى لها كل مخلص سياسيا كان أم خبيرا اقتصاديا أو مثقفا أو عالما أو عاميا مهتما بالشأن العام، وهي القضايا المهجورة والمهدورة، وهي التي وحدها دون سواها نتحرر ونغير المشهد السياسي لا في تونس بل في كل المنطقة بالمنطق الجيوسياسي كقضايا الحكم والاقتصاد والوحدة وقضية الفكر الرسالي إذ لا معنى لدولة بلا رسالة ولا تطلع لتحمل ما لديها لشعوب أخرى إن كانت ترى أن ما هي عليه فعلا هو طراز العيش الصحيح ونمط الحياة المجتمعي الذي يجب أن تكون عليه المجتمعات فتكتسب مناعة بعد عراقة التطبيق لتثمر وتنتج أعرافا هي أقوى سطوة على النفوس من القانون والدستور.

إن ما يحدث اليوم في تونس من أزمة سياسية حيث الكل يلعن الكل وحيث تلعن كل حكومة سابقتها، وأزمة اقتصادية خانقة أدّت إلى تدهور القدرة الشرائية وارتفاع رهيب في المديونية، وانخرام المالية العمولية ودولة أمام قرض استثنائي لم تتجرأ عليه أي حكومة من قبل، وطبعا هي خياراتهم التي فرضتها عليهم وجهة نظرهم في التعاطي مع الأحداث والأمور والأزمات، وهي الحل الوسط في حل المشاكل بحيث يرضى الجميع حكومة ومعارضة ومنظمات ومؤسسات دولية، سياسة الحل الوسط في إطار التبعية والالتزام بالاتفاقيات الخيانية الاستعمارية.

نعم إن كل ما يحدث هو تراكمات لعمالات وخيانات وفساد رهيب يعود لما قبل الاستعمار والحماية بل إلى دستور عهد الأمان، فعهد البايات الذين مثلوا رمز النزعة الاستقلالية عن الدولة العثمانية مع بناء علاقات قوية ومتميزة مع الأوروبيين تأثراً بما كان عليه العثمانيون حينها من تأثير تحت وطأة الدعوات المشبوهة للإصلاح التي رافقت الثورة الصناعية في أوروبا حيث كان الأعداء ودول الكفر يتربصون الدوائر ويتحينون الفرص للدخول على الخط وتغذية النزعات الانفصالية عن الباب العالي تحت عنوان الإصلاح والتحضر والتمدن والحكم باسم الشعوب.

1- حكم أحمد باي ومحمد باي (1837 - 1859):

بدأ هؤلاء بما أسموه الإصلاحات (وما أشبه اليوم بالأمس!) واختاروا التقرب من الأوروبيين وقاموا بتحديث التعليم والجيش وجلب الكثير من الأساتذة الأوروبيين يدرسون في الجامعات التونسية حيث انبهر أحمد باي عند زيارته فرنسا سنة 1846 بقصر فرساي، وما إن عاد حتى أمر ببناء قصر باردو الذي كلّف الدولة الكثير الكثير كما اشترى من الإنجليز والفرنسيين أسلحة مع أنها كانت غير صالحة للاستعمال إلا أن هذا الباي دفع لهم الكثير، كما استدعى مدرسين ومستشارين أوروبيين في الجيش فاستغل هؤلاء هذه المواقع كي يقوموا بأعمال التجسس والتدخل في شؤون الإيالة التونسية.

وبالتالي كانت هذه الإصلاحات مع غيرها في مجال العسكرية والجيش النظامي والفلاحة التي دمرها البايات حيث أعطوا امتيازات رهيبة للأوروبيين على حساب الفلاحة المحلية والفلاحين المحليين بحيث اكتسحت البضاعة الأوروبية تونس لنجد أنفسنا أمام ركود الإنتاج في الإيالة غير مسبوق ودفع بالبلاد لمزيد من الضرائب لأن حجم (الإصلاحات) كان كبيرا مع فساد رهيب في الوزراء والمسؤولين.

ثم جاء محمد باي (1855 -1859) الذي أصلح القليل واهتم بالفلاحة وخفف الضرائب ولكن هيأ وصنع في عهده دستور الأمان الذي صدر وقرئت بنوده في 10 كانون الأول/ديسمبر 1857 والذي أعطى امتيازات رهيبة للأجانب وجعلت لهم محاكم خاصة وسمحت لهم بصناعات كثيرة كما كفلت لهم حرية الاعتقاد، هذا الدستور الذي كان نتيجة تطاول يهودي على دين الإسلام وقرار إعدامه فتدخلت فرنسا وإنجلترا وضغطا على الباي لاستصدار قانون يمنع هذا ويكفل حماية غير المسلمين بل وذهبا إلى التلويح بالتدخل العسكري لو تم إعدام اليهودي الذي أهان دين الإسلام وأمة الإسلام، إن هذا العهد جعل تونس ملاذا للاقتصاد الأوروبي حيث حصل قنصل فرنسا على امتياز مد خطوط التلغراف وإصلاح أقنية قرطاج لسقي تونس وحلق الوادي!

ونظرا للديون التي دُفعت لها البلاد دفعا مع فساد في البايات والوزراء وتقربهم من الجانب الأوروبي وانفصالهم عن الدولة العثمانية التي لم يبق لها ولاء غير الضرائب وسك العملة باسم الخليفة والاستجابة لفرمانات التزكية والتعيين مع دعاء على منابر الجمعة فكان فقط ولاءً روحياً ولكن الولاء السياسي كان مائلا تماما للأوروبيين، نظرا لكل تلك الديون لجأت الإيالة التونسية حينها وتحديدا سنة 1863م عن طريق وزير ماليتها مصطفى خزندار إلى الاقتراض من الشركات الفرنسية والإنجليزية قرضا يزيد على 39 مليون فرنك بفائض يقدّر بـ7% حيث التزم البايات بدفع 4.2 مليون فرنك سنويا مدة 15 سنة ليرتفع مجموع الديون إلى 65.5 مليون فرنك بسبب نهب مصطفى خزندار للباقي! علما وأن خزندار حاول الاستدانة أيضا من بنك روتشيلد ولكن طلبه قوبل بالإهمال ولم يجد له صدى.

وبالنظر لهذه الأوضاع قام خير الدين باشا بفتح تحقيق ليتبيّن حجم تلاعب خزندار وسرقته لأموال الدولة حيث طلب هذا الأخير بعد كشفه أي خزندار طلب الحماية من قنصل فرنسا الذي رفض بدوره حمايته وفي النهاية اضطر خزندار لمصالحة الحكومة التونسية التي غرمته بـ35 مليون فرنك، وتسلم بعده خير الدين الوزارة بديْن يبلع 125 مليون فرنك وربا يبلغ 5% وهو ما أدّى إلى ظهور لجنة دولية لتشرف على المالية في تونس سنة 1869.

1869: اللجنة المالية الدولية والبدء في إعداء أول ميزانية:

صدر القانون المنظم لهذه اللجنة سنة 1870 وهي لجنة تتكون من جهاز تنفيذي يتكون من تونسييْن ومتفقد فرنسي وجهاز رقابي يتكون من فرنسييْن وإنجليزييْن وإيطالييْن تراقب عمل اللجنة التنفيذية واستمر عمل هذه اللجنة وإشرافها على الوضع المالي حتى سنة 1884م. وحتى لا نطيل تميزت هذه الفترة بصراع كبير بين الشركات الإنجليزية والفرنسية والإيطالية للحصول على المشاريع مع الامتيازات كمشاريع مد الطرقات بين المدن، واللافت للنظر أن اللجنة كانت تراقب جبي الضرائب التي أصبحت هي الجزء الرئيس في ميزانية الدولة لتسدّد بها الديون لفائض رهيب وبالتالي كان الأوروبيون يأخذون الضرائب بفوائض ربوية رهيبة من الناس ليعطوها لشركاتهم وتحت إشرافهم والمنفذون هم حكّام الإيالة التونسية!

وللحديث بقية في الجزء الثاني الذي سنحدثكم فيه عن عهد محمد الصادق باي الذي التزم بدستور عهد الأمان وما أعطاه من امتيازات للأجانب كحق امتلاك الأراضي بكل حرية وهو الباي الذي بنى الكنائس وأقام تماثيل للقديسين وأنشأ المدارس الأجنبية وبالتالي عزز الوجود الأوروبي وبعدها الحماية فالاستعمار بعجالة. ثم دولة الاستقلال والمنوال الاقتصادي المتبع حتى عهد بن علي والاتفاقيات الذي أبرمها والتي باع بها البلد بلا ثمن للأوروبي ثم الثورة. وأحاول في كل ذلك أن أسلط الضوء على المعطى الاقتصادي لنقف على حقيقة أن الأزمة قديمة متراكمة جعلها الحكام قانونا ليصبح القانون فشلا بل عجزا يحكموننا به.

بقلم: الأستاذ أحمد بن حسين – ولاية تونس

No comments:

Post a Comment