Sunday, January 27, 2013

قراءة في كتاب: ما بعد الامبراطورية


قراءة في كتاب: ما بعد الامبراطورية

(عرض وتلخيص لدراسة في تفكك النظام الامريكي)
1- مقــــدمة:
تنبَّـأ إيـمانويـل تـود (
Emmanuel Todd ) عالم الاجتماع والانثربولوجيا (علم الأجناس) الفرنسي في كتابه (السقوط النهائي) عام 1976م بانهيار المنظومة الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفيتي بالرغم من أن الأفكار السائدة وقتها أن الانسان السوفيتي المغلق خلف الستار الحديدي يمثل نموذجاً لمخلوق كونته ستون عاماً من القهر الشيوعي وغسيل الدُّماغ وذلك يضمن تكوين أجيال مهيئة ذهنياً ونفسياً لتقبل الشمولية بصورة أبدية وكان الاتحاد السوفيتي في عنفوان قوته .. ولكن صدقت نبوءة الكاتب وانهارت منظومة الدول الشيوعية رغم ذلك .
يتنبأ الكاتب للمرة الثانية أن الامبراطورية الأمريكية في طريقها للزوال في كتابه (ما بعد الامبراطورية) الذي يحلل ظاهرة بروز الامبراطورية الأمريكية وتحولها إلى مرحلة التحلل والتفكك ، والكتاب ترجمه إلى العربية محمد زكريا اسماعيل وظهرت طبعته الأولى عام 2003 ويحوي على تمهيد وثمانية فصول وخاتمة .. وفيما يلي عرض وتلخيص مختصر لما جاء في ذلك الكتاب .
2- أمريكا غير مؤهلة لقيادة العالم وعديمة الفائدة:
خرجت أمريكا من الحرب العالمية الثانية عام 1945 دولة عظمى تنتج نصف إنتاج العالم ولها أكبر فائض في الميزان التجاري ولم تكن في حاجة إلى العالم الخارجي على الصعيدين الاقتصادي والعسكري بل كانت أوروبا كلها واليابان في حاجة كبيرة إليها .
ففي أعقاب الحرب العالمية الثانية برز الاتحاد السوفيتي كقطب منافس بأفكاره الآيدلوجية وقوته العسكرية للغرب الرأسمالي ، بينما خرجت دول أوروبا واليابان منهكة من الحرب فهي في حاجة إلى المظلة الأمريكية لحمياتها من خطر العملاق الروسي الذي بدأ يتمدد في في أوروبا وآسيا والصين ويقف على أعتاب برلين ، وكذلك حاجتها إلى الأموال والتكنولوجيا الأمريكية لإعادة بناء إقتصادها فكان (مشروع مارشال) الأمريكي لإعادة إعمار أوروبا وميلاد حلف شمال الأطلسي (الناتو
NATO ) .
ولكن بمرورالزمن إنحسر الخطر الشيوعى وتفكك حلف وارسو، وتحولت أوروبا واليابان إلى قوَّة إقتصادية لا يستهان بها ، أما أمريكا فقد تراجع إنتاجها مع زيادة مفرطة في الاستهلاك وتحولت أمريكا إلى ثقب أسود هائل يبتلع الرساميل والبضائع دون أن ينتج ما يكافي هذه السلع ، ومنيت بأكبر عجز في الميزان التجاري على مستوى العالم .
ومن الناحية العسكرية فقد استمرت أمريكا في التسليح حتى غدت نفقاتها العسكرية تساوي النفقات العسكرية في العالم أجمع ، وتحولت من حامية للحريات في أوروبا إلى مصدر قلق وفوضى في العالم ، ويستشهد الكاتب على ذلك بأمثلة عديدة مثل استفزازها للصين بقصف مبنى سفارتها في بلغراد أثاء حرب كسوفو ، وبث لاقطات الصوت في طائرة مخصصة لزعمائها ، وتحليق طائرة تجسس في جزيرة هينان (قاعدة الصواريخ النووية الصينية) وقد تم إسقاطها بواسطة الصينيين ، واستفزاز روسيا بارسال مستشارين عسكريين إلى جورجيا ، وإقامة قواعد عسكرية في آسيا الوسطى ، ونشر الدرع الصاروخي لكسر التوازن النووي مع روسيا ، وإعلانها (لمحور الشر) ضد العراق وكوريا الشمالية وإيران ودعوة العالم لمحاربته وتبنت شعار (من ليس معنا فهو ضدنا) مما أحرج أصدقاءها وحلفاءها.. وهكذا تحولت من (دولة لا غنى عنها) إلى دولة عديمة الجدوى من الناحية الاقتصادية ، وإلى مصدر للفوضى وتهديد السلام العالمي من الناحية العسكرية .
تدرك القيادة الأمريكية أن دولتهم أصبحت عديمة الفائدة ، وأنها لم تعد تشكل مظلة أمنية لأوروبا ، ولذلك صرحت وزيرة الخارجية الأمريكية في تبريرها لضرب العراق بالصوريخ قبل غزوها (نحن نستخدم القوة لأننا أمريكا ، نحن الأمة التي لا غنى عنها ، ونحن ننتصب بقامة عالية ونرى أبعد من غيرنا آفاق المستقبل) .
3- الإرهاب العسكري ونهب خيرات الشعوب:
نتج عن تراجع الانتاجية للاقتصاد الأمريكي مع الزيادة المفرطة في الاستهلاك بروز وتنامي العجز في الميزان التجاري ، فقد تصاعد العجز التجاري من 100 مليار عام1990 إلى 450 مليار دولار في عام 2000 (ونضيف : وصل إلى 795 مليار عام 2007) وبدأت مظاهر الإفلاس تظهر في الشركات الأمريكية العملاقة مثل شركة إنرون (
Enron ) المتخصصة في الطاقة التي أفلست بخسارة 100 مليار دولار ، هذا إضافة إلى أن الاحتياطي الأمريكي من النفط على وشك أن ينضب .
أصبحت أمريكا غير قادرة على أن تعتمد على إنتاجها وحده إذا شاءت الاحتفاظ برفاهية ومستوى معيشة مواطنها ، والصرف على تسليحها وأساطيلها العسكرية ، ولذك لجأت إلى العالم الخارجي للسيطرة على موارده اعتماداً على القوة العسكرية ، ويضيف الكاتب ( فثمة صلة اكيدة بين التبعية الاقتصادية ونمو الآلة العسكرية ، حيث ينبع نمو القوات المسلحة من الوعي بالهشاشة الاقتصادية المتزايدة للولايات المتحدة والتطلع الى نهب خيرت الشعوب) .
تحولت أمريكا إلى إمبراطورية طاغية ضلت طرق الخير وأصبحت هاجساً يخيف الأعداء والأصدقاء على السواء ، وغدا كل تحرك تقوم به لبسط سيطرتها على العالم ، يولد ردود فعل سلبية تضعف من وضها الاستراتيجي ، فحينما بدأ الأوربيون يشعرون بالخوف ويتوجسون منها ، لجأو إلى سياسة مستقلة تمثلت في عدة مظاهر مثل إطلاق العملة الموحدة الأوروبية (اليورو) في مقابل الدولار لحماية الاقتصاد الأوروبي إزاء الولايات المتحدة ، وقد حقق اليورو نجاحاً كبيراً ، وسيحقق في المستقبل تجمعاً اقتصادياً يضاهي بقوته ، أو يزيد ، قوة أمريكا .
أصبح (اليورو) يشكل تهديداً مرعباً لأمريكا في حركة الأموال ليس من أوروبا فحسب ، بل من حلفاء أمريكا في العالم ، فمثلاً في عام 1993 وظفت اليابان في أمريكا 17,500 مليار ين ولم توظف في أوروبا كلها إلا 9,200 مليار ين ، ولكن هذه المعادلة إنقلبت في عام 2000 ، فقد وظفت اليابان 27,000 مليار ين في أوروبا ولم توظف في أمريكا إلا نصف هذا المبلغ (13,500 مليار ين) وحذت كثير من دول العالم حذو دولة اليابان .
أما من الناحية العسكرية يتجلى الانعتاق الأوروبي من الهيمنة الأمريكية في تنفيذ مشروع نظام الملاحة وتحديد المواقع الكوني "جاليليو"
Galileo الذي يكسر الاحتكارالأمريكي في مجال الرؤية العسكرية على الأرض ب نظام ( GPS ) والذي أنشئ بالأساس لأغراض عسكرية ، وكذلك إنتاج طائرة (إيرباص) مخصصة للنقل العسكري وكان ذلك مثار غيظ شديد للقادة الأمريكيين .
أما روسيا والصين واليابان ، هذه الأمم الثلاثة التي تشكل التنمية الاقتصادية أولويتها المطلقة ، لم يعد لها غير هدف استرانيجي واحد: هو مقاومة استفزازات أمريكا عن طريق الاحجام عن القيام بأي رد فعل .
4 -استهداف العالم الاسلامي لثرواته النفطية وضعفة العسكري:
يقول الكاتب ( أصبحت أمريكا مبرمجة للدخول في صراع مع العالم العربي والإسلامي ، المعروف بضعفه العسكري الشديد وموارده البترولية الهائلة ، مما يجعله هدفاً سهلاً ومفضلاً) فهي قد اختارت العالم الاسلامي خصماً (مسرحياً) لاستعراض قوتها العسكرية والسيطرة على الموارد بتكلفة زهيدة ، ويصادف العداء للدين الإسلامي أيضاً هوىً في نفس اليمين المتطرف بقيادة بوش الذي يبدي تعاطفاً قوياً مع إسرائيل مقابل إيجابي للحقد الشديد الذي يكنَّـه للإسلام والعالم العربي .
وتستخدم أمريكا اللوبي اليهودي القوي لتعبئة الرأي العام والمؤسسات الأمريكية لتبرير عدوانها ودعم حملاتها ، ولها حلف استراتيجي مع اسرائيل للاستفادة من الامكانات العسكرية للجيش السرائيلي (فالحكام الامريكيين لا يجرؤون على الاستغناء عن الدعم الاقليمي الذي يقدمه اليهم الجيش الاسرائيلي في الشرق الاوسط ، ومساندة دولة اسرئيل التي تشبه لفرط تسليحها حاملة طائرات ثابته) ولذلك أصبحت تسعى بكل قوة من أجل (القضاء على النظام العربي قضاء تاما وتنصيب اسرائيل ، ربما بمشاركة بعض القوى الاقليمية وباشراف الولايات المتحدة (وصية) على الشرق الاوسط الذي يتحول الى كيانات جغرافية من غير هوية !) ويضفي تحليلاً آخر على تعلق أمريكا بإسرائيل قائلاً (ويمكن القول ايضاً ان الاحساس بالسوء في الذات يقوي الحاجة الى ايجاد مماثلين كمبرر لسوء الذات ، وبهذا يمكن تفسير التعلق الامريكي باسرائيل التي تسلك سياسة وحشية وقاسية تجاه الفلسطينيين) وبذا تطمئن أمريكا بأن هناك من هو أسوأ منها في تاريخ البشرية .
ويقول الكاتب (تفرض أمريكا الحظر على دول لا تستطيع الدفاع عن نفسها ، وتقصف جيوشا لا وزن لها ، وتزعم انتاج اسلحة اكثر تقدما وتقنية ولها دقة العاب الفيديو ، ولكنها في ارض الواقع تقصف بالمدافع الثقيلة كتلك التي استخدمت في الحرب العالمية الثانية ، ويكون الضحايا اكثرهم من المدنيين غير المسلحين !!)
ويسخر من الجيش الأمريكي ، رغم وفرة عدده وعتاده ، فإنه غير مهيأ للقتال على الأرض بل يعتمد على رشوة مرتزقة من رجال القبائل ليقاتلوا نيابة عنه ، يقول الكاتب (يوجد في قاعدة باغرام بافغانستان العسكرية 12000 جندي امريكي ، و 1500 جندي في اوزبكستان ولكن هتين القاعدتين تشبهان فرعين مصرفيين يستخدمان لتوزيع الرشاوى والمكافئات على رؤساء القبائل المحليين ليقاتلوا نيابة عنهم ويسلمنونهم الارهابيين الذين يبحثون عنهم !!) .
5 -عـودة روسيا ونهاية اللعبة :
مع انهيار الاتحاد السوفيتي 1989 وانتها الحرب الباردة ، توجه النظام الدولي إلى حالة القطب الواحد: أمريكا ، وسادت روسيا حالة من الفوضى والانهيار الاقتصادي المريع بفعل التحول الفجائي للاقتصاد الحر ، ولكن الاقتصاد الروسي سرعان ما بدأ يستعيد نشاطه منذ عام 1999 وبدأ الانتاج القومي يتصاعد بعد أن كان يتراجع ، وما يزال يتحسن عاماً بعد عام نتيجة لارتفاع أسعار النفط بصورة جنونية بفعل الهيجان الأمريكي ، فروسيا هي ثاني منتج للنفط في العالم ، وأول منتج للغاز الطبيعي وهي المستفيد الاكبر من تصاعد اسعار النفط وتهنا بهذه الهدية من دون مقابل ، وتستعيد قوتها الاقتصادية .
أما من الناحية العسكرية ، بالرغم من تراجع القوة العسكرية الروسية ، فإن روسيا هي البلد الوحيد الذي يمتلك ترسانة نووية تشكل عائقاً في وجه القوة العسكرية الأمريكية ، فلدى كل منهما 2000 رأس نووي ، وهو ما يشكل توازن الردع بين البلدين .
ويتنبأ الكاتب بقيام حلف (روسي-أوروبي-ياباني) في المستقبل إذا سارت الأمور بهذه الوتيرة ، يقول (التحول الروسي إلى الديمقراطية يكفي وحده إلى تحويل العالم واحة سلام ، وهكذا بعد أن تصبح روسيا عملاقاً ديمقراطياً ، سمحا طيب القلب ، فأن الاوربيين واليابانيين يستطيعون الاستغناء عن الولايات المتحدة ولندفع بالتأمل إلى مدى أوسع : اذا اتجه العالم نحو السلام ولم تعد هناك حاجة للولايات المتحدة ، واذا اصبحت هذه الاخيرة نهَّابة اقتصاديا ومصدرا للتهديد فسوف يتحول دور روسيا إلى حامية للديمقراطية ضد أمريكا ) .
ويصف وضع أمريكا حالياً بقوله (فأمريكا ليست القوى العظمى ، ولا يمكنها في المرحلة الراهنة أن ترهب سوى الدول الضعيفة ، وسوف تكون في حال نشوب صراعات شاملة تحت رحمة تحالف يضم الأوروربيين واليابان وروسيا ، الذين يملكون مجتمعين القوة الكافية لخنقها)
ويقول في ختام الفصل الأخير (نهاية اللعبة) : أن ما يحتاج له العالم من أمريكا ليس إختفاء أمريكا ، بل أن تعود إلى ذاتها ديمقراطية ليبرالية ومنتجة ، وذلك لأن عجلة التاريخ لا تعود للوراء ، فالديناصورات انقرضت ولن ترجع ، وكذلك لن ترجع أمريكا كما كانت في الخمسينات . وفي الختام نسأل الله أن يلين قلوب أهلها للإسلام فيدخلوا في دين الله أفوجاً وتتحول إلى قوَّة لنشر الحق والخير والسلام .
عبدالقادر مضوي محمد

الخرطوم – أركويت

No comments:

Post a Comment