Wednesday, September 8, 2021

جريدة الراية: هزيمة أمريكا في أفغانستان هزيمة للغرب كله وسقوطٌ لحضارته

 جريدة الراية: هزيمة أمريكا في أفغانستان هزيمة للغرب كله وسقوطٌ لحضارته

 

1 من صـفر الخير 1443هـ   الموافق   الأربعاء, 08 أيلول/سبتمبر 2021مـ

ضجّت دول الغرب قاطبةً إثر الانسحاب الأمريكي من أفغانستان وعودة طالبان لبسط سيطرتها عليها بعد 20 عاماً من الاحتلال الأمريكي، وانكشف الأمر عن هزيمة كبرى لأقوى دولة في العالم. واستعر الخلاف الأمريكي الداخلي وتبادل الاتهامات والحديث عن سقوط مكانة أمريكا في العالم. وتكررت محاولات الرئيس بايدن في الدفاع الخجول عن هذا الانسحاب المذل، (بي بي سي عربي). وفعل مثله وزير خارجيته بلينكن (سكاي نيوز عربية). ووقفت أوروبا مندهشة أمام عودة سيطرة طالبان على أفغانستان، ومتوجسةً من عودة الإسلام إلى الميدان السياسي، وأعلنت معظم دولها استسلامها للأمر الواقع؛ حيث صرّح وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل: "طالبان ربحت الحرب في أفغانستان. إذن، علينا أن نتحدث إليهم"، (فرنسا 24). وتبعته المستشارة الألمانية ميركل بإعلانها ضرورة التفاوض مع طالبان. (أرابيك آر تي). وانتشرت أصوات كثيرة تحذر من الإسلام السياسي، وفي مقدمتها تصريحات رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير. (عربي21).

هذه الأخبار المتتابعة منذ بدء إعادة حركة طالبان سيطرتها على أفغانستان، تنطق بحقائق لا تحتاج إلى كثير نظر أو تحليل. أهم هذه الحقائق هي مواقف الدول الغربية التي تعبر عن رعبها من أن ينشأ في أفغانستان كيان فيه إسلام، فيكون خارجاً على القانون الدولي، الذي يقضي بأنه لا مكان لدولة إسلامية في العالم، إذ يجب أن تكون الدولة محددة بإقليم جغرافي لا تتعداه، ولا تتدخل في أي شأن لأي دولة أخرى، ويجب أن تطبق قوانين الأمم المتحدة وأنظمتها، ومن ذلك حقوق الإنسان والمرأة، والقرارات الدولية في أي شأن. ولا حاجة بنا للتعريج على ما صار جليّاً من أن الإسلام مستهدف بكل أحكامه من الدول الكبرى والأمم المتحدة ومنظماتها، وبخاصة أفكارُه السياسية، وأحكامه المتعلقة بالمرأة والنظام الاجتماعي؛ لذلك رأينا دول الغرب تُعلي صراخها وتزيد نفاقها بشأن وضع المرأة وحقوقها في أفغانستان، بينما المرأة عندهم أحطُّ من البهائم، حيث صارت سلعة، وتم تشييئها وتشييءُ الإنسان عموماً، حتى صار يقاس بالمنفعة المادية والقيمة النقدية كأي شيء.

إن الحقيقة أوضح من أن نُكثر القول فيها والبرهان عليها. فالغرب الأوروبي والأمريكي يصرخ ويحذر مرعوباً، من عودة الإسلام كنظام سياسي، حتى لو كان إمارة إسلامية، أو كياناً محدوداً في جغرافيته وطاقاته المادية والبشرية. فهو يرتعب منه، ويخشى أن تتحول هذه الإمارة أو الكيان إلى خلافة جامعة للمسلمين في العالم. ولذلك وجدنا افتراءات خطر الإسلام ورهابه تغزو الغرب بل العالم كله، ووجدنا العملاء وأبواقهم في بلاد المسلمين يساهمون في ذلك. وإذا بصناع الإسلاموفيا ومُفبركي أخبارها ومؤججيها ينتفضون بسرعة وتسارع، يحذرون من الخطر الكبير مما يجري، ويهجمون على بايدن وإدارته وسياسته الغبية والضارة بهذا الانسحاب المذل والخطر.

الشواهد على ما تقدم كثيرة، ولكنني أكتفي في هذا المقام بواحد منها، وهو عويل توني بلير الذي جاء هذا الانسحاب الأمريكي على عكس ما يحب، ومخالفاً لكل توقعاته، فاضطرب وأخذ يحذر من هزيمة عالمية وجودية للغرب وحضارته، وأخذ ينعى على بايدن الذي كان قبل 7 أشهر يمدحه ويدعوه إلى قيادة العالم لأجل تغيير الإسلام وتطويعه للفكر الغربي، فإذا بمجريات أفغانستان تصدمه وهو أحد دهاقنة الغرب والمؤثرين في استراتيجياته.

نشرت جريدة الراية في عددها 347 في 14 تموز 2021 مقالاً بعنوان "الحرب على الإسلام السياسي من أولى أولويات الاستراتيجيات الغربية" جاء فيه أنه بتاريخ 11 كانون الثاني 2021 عقد معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، مقابلة مع توني بلير، عنوانها "أمريكا، الشرق الأوسط، والعالم"، قال فيها إن "الشرق الأوسط مهم لأنه المكان الذي فيه سيتقرر مستقبل الإسلام". و"قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية من القضايا الرئيسية للحكومات الغربية لأنها جزء من أنظمة القيم لدينا ومما نؤمن به". وحضَّ بايدن على قيادة الأوروبيين والمملكة المتحدة على المسرح العالمي.

هذه الأقوال من بلير إضافةً إلى المواقف الأوروبية من هزيمة أمريكا في أفغانستان تشير إلى أن دول أوروبا تعتمد على أمريكا في مواجهة الأخطار أو القوى الكبرى، سواء الإسلام السياسي أو غيره كروسيا والصين؛ ولذلك صدمتهم أحداث أفغانستان. وجاءت ردة فعل بلير غاضبة، ومعبرة عن إحباط شديد، وانقلابية على بايدن. فقد عده غبياً بعد أن كان يدعوه إلى قيادة أوروبا وبريطانيا في محاربة الإسلام وقيادة العالم. وفيما يلي بعض أقواله كما نشرتها مواقع عدة، منها عربي21 التي قالت: "انتقد بلير مبررات الولايات المتحدة للانسحاب معتبراً أنها غبية وليست مدفوعة باستراتيجية كبرى بل باعتبارات سياسية... وأكد رئيس الوزراء الأسبق في مقال نُشر على الموقع الإلكتروني لمؤسّسته (معهد توني بلير للتغيير العالمي) أنّ التخلّي عن أفغانستان وشعبها مأساوي وخطير وغير ضروري، وليس في مصلحتهم ولا في مصلحتنا... وتابع: فعلنا ذلك امتثالاً لشعار سياسي غبي حول إنهاء الحروب التي لا نهاية لها... وأشار بلير إلى أنّ الاستراتيجيّة الحاليّة للحلفاء الغربيّين ستضرّ بهم على المدى الطويل... ورأى أن الانسحاب أثار فرح كل جماعة جهادية في كل أنحاء العالم... أصر بلير على أن الغرب يجب أن يقدم دليلا ملموسا على أنه ليس في عصر انكفاء، مُديناً تراجع القيادة الأمريكية العالمية... مشيراً إلى أن لندن معرضة لخطر أن تصبح في الدرجة الثانية من القوى العالمية... وكتب بلير: عقب قرار إعادة أفغانستان إلى المجموعة نفسها (طالبان) التي نشأت منها مجزرة 11 أيلول/سبتمبر 2001، وبطريقة تبدو كأنّها مصمّمة لعرض إذلالنا، السؤال الذي يطرحه الحلفاء والأعداء على حدّ سواء هو: هل فقد الغرب إرادته الاستراتيجيّة؟ ودعا بلير أيضاً إلى إعادة التفكير الاستراتيجي في طريقة تعامل الغرب مع ما وصفه بـ"الإسلام المتطرّف".

وعلى الرغم من كل ذلك، ومن يأس أمريكا من تحسين مظهر انسحابها وهزيمتها، إلا أنه من اللافت إعلان بايدن عن عجز أمريكا ويأسها، وفوق ذلك عن استحالة كسر أفغانستان. فكأنّه أراد تسويغ انسحابه وسط أجواء الذل والهزيمة التي تحيط به، فكان كالمتعثر والمضروب على رأسه في آن، فقال: "ما نراه الآن يُثبِت أن ما من قوة عسكرية يمكنها تغيير مجرى الأحداث في أفغانستان المعروفة بأنها مقبرة الغزاة"، (موقع الجزيرة).

يؤكد ما مرّ أن بايدن وبلير وأوروبا مصدومون، ومثلهم ترامب الذي وصف الانسحاب بأنه "أكبر مهانة في مجال السياسة الخارجية تعرضت لها الولايات المتحدة في تاريخها... كان من الممكن أن نخرج بكرامة، كان يجب أن نخرج بكرامة، وبدلا من ذلك خرجنا بعكس الكرامة تماماً". (عربي21).

تعيد وقائع الاندحار الأمريكي في أفغانستان، اندحار الاتحاد السوفييتي الذي أتم انسحابه منها في شباط 1989، حيث تفكك وسقطت دولته واشتراكيته في كانون الأول 1991، أي بعد أقل من ثلاث سنوات على انسحابه. وعلى العاملين لإحياء الإسلام السياسي غذُّ السير والتطلُّع إلى تفعيل طاقات الأمة إلى أقصى حد ممكن، وتنظيمها في مشروع الخلافة، مشروع إنقاذ الأمة والبشرية. فالغرب يترنح، والحضارة الغربية تلفظ آخر أنفاسها، ودهاقنتها يصرخون: الإسلام قادم، المسلمون قادمون، فلننظر في سُبُل القُدوم، والله الموفِّقُ والمستعان.

﴿فَاصْبِرْ صَبْرَاً جَمِيلَاً * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهً بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً﴾

بقلم: الأستاذ محمود عبد الهادي

No comments:

Post a Comment