Wednesday, September 21, 2022

جريدة الراية: الفطرة في خطر تحت شعار حقوق الإنسان

 

جريدة الراية: الفطرة في خطر تحت شعار حقوق الإنسان

 

  25 من صـفر الخير 1444هـ   الموافق   الأربعاء, 21 أيلول/سبتمبر 2022مـ

قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾، جاء في تفسير القرطبي: "فهذا يدلك على أن الإنسان أحسن خلق الله باطنا وظاهرا، جمال هيئة، وبديع تركيب: الرأس بما فيه، والصدر بما جمعه، والبطن بما حواه، والفرج وما طواه، واليدان وما بطشتاه، والرجلان وما احتملتاه. ولذلك قالت الفلاسفة: إنه العالم الأصغر إذ كل ما في المخلوقات جمع فيه". وعن ‏أبي هريرة‏ ‏رضي الله عنه ‏قال: ‏قال النبي ‏‏ﷺ:‏ ‏«كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ تُنْتَجُ الْبَهِيمَةَ، هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ».‏ رواه البخاري

يشغل الحديث عن حقوق الإنسان حيزاً كبيراً من اهتمام الدول والمجتمعات على مستوى العالم، وتتشدّق الأمم المتحدة برعاية هذه الحقوق، في حين إنّها - في واقع الأمر - تسلب الإنسان أهمّ حقوقه وهو: العناية بالفطرة التي فطره الله عليها. فمواثيقها ومعاهداتها ومؤتمراتها تصبّ في حرف الفطرة عن وجهتها. ومعنى الفطرة: أنّ الله خلق الإنسان خلقاً سوياً سليماً في أحسن تقويم، وغرس فيه التوجّه إلى خالقه واللجوء إليه، وجَبَله على الاستقامة وحبّ الفضائل وكراهية الرذائل، وميّزه بالعقل الذي به يعرف الحق من الباطل والضار من النافع. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وإذا قيل: إنَّه وُلد على فطرة الإسلام أو خُلق حنيفاً ونحو ذلك فليس المراد به أنّه حين خرج من بطن أمِّه يعلم هذا الدين ويريده، فإنّ الله تعالى يقول: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً﴾".

فالله سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان في أحسن تقويم، واختار له الدين الإسلامي الذي ارتضاه لعباده، لتكتمل صبغة الله في الخلق مع رضا الله في سلوك هذا الخلق، فيسعد في الدنيا بتطبيق شرع الله، ويفلح في الآخرة بالعودة إلى جنة النعيم التي أهبطه الله منها بفعل الخطيئة المشهورة لأبينا آدم عليه السلام. فالإنسان أفضل من إبليس وأفضل من الملائكة خَلْقا بإرادة الله، وخُلقا إذا اتبع هدى الله، وإن أعرض عن ذكر الله واتبع هواه فإنه يشقى في الدارين، وينزل عن مرتبة الأفضلية، وينحرف عن الفطرة وينتكس.

وقد شهدت البشرية منذ نشأتها صوراً متعدّدة لانتكاس الفطرة، كان أوّلها وأعظمها ظهور الشرك في قوم نوح عليه السلام، وتلا ذلك الانتكاس الأخلاقي الكبير بظهور الشذوذ في قوم لوط عليه السلام، وهي فاحشة ما سبقهم بها من أحد من العالمين. وتنوّعت صور انتكاس الفطرة في العصر الحاضر لا سيّما في الدول الغربية، حيث أصبح الإلحاد ظاهرة في كثير منها، وغلب فيها العري والإباحية والفوضى الجنسية.

وقد شهد هذا الانحراف عن الفطرة السليمة شيوعاً وانتشاراً نتيجة الانفتاح الفكري والثقافي بين المجتمعات، حيث أسهمت وسائل الإعلام في نقل الثقافات المنحرفة بالصوت والصورة وعلى نطاق واسع ولجميع طبقات المجتمع، ما أدّى إلى سرعة انتشار هذه الانحرافات والترويج لها باعتبارها مظهراً ثقافياً للشعوب، ومن ثَمَّ تقليدهم فيها، ما زاد في اتساع رقعة انتكاس الفطرة وتشوهها. وساهمت العَلمانية والمادّية وشيوع مبدأ اللذّة النفعي، وظهور الحركة النسوية الراديكالية، واختراع مصطلح (الجندر) والتشجيع على الشذوذ الجنسي، وتغيير الجنس، وقلب الأدوار الطبيعية لكل من الرجل والمرأة.

وانتقل انحراف الفطرة من كونه مجرّد حرية شخصية ينادي بها الأفراد وتدعمها بعض الجمعيات، إلى فرضه على الشعوب من خلال مواثيق الأمم المتحدة ومؤتمراتها وإلزامها الدول الأعضاء بالتوقيع عليها، مع استخدام الإعلام وسيلة لفرض هذا الانحراف ثقافياً وفكرياً، تحت شعار حماية حقوق الإنسان، وحقوق المرأة والطفل بشكل خاصّ، لكنّها في الحقيقة تهدف إلى فرض الانحراف في الفطرة بالقوّة. فقد عملت الأمم المتحدة من خلال قوانينها ومواثيقها على إلغاءِ الفروق بين الرجل والمرأة، وإحداثِ تغيير جذري في الأدوار الفطرية لكل منهما داخل الأسرة، ودفعِ المرأة للعمل في الوظائف غير التقليدية وفي المجالات التي يشغلها الرجال، مع السعي لتحقيق الاستقواء الاجتماعي والسياسي للمرأة، وهذا من شأنه أن يزعزع استقرار الأسر ويؤدّي إلى هدمها. كما عملت على صرف الشباب عن الزواج بأساليب متنوّعة في مقابل التشجيع على الزنا وإباحة الدعارة وحمايتها قانونياً ومجتمعياً!

هذا وإن أخطر الاعتداءات على الفطرة هو الشذوذ الجنسي، والدعوة إلى تمتّع الشواذّ بعددٍ من الحقوق، والضغط من أجل رفع التحريم والوصم بالعار عنهم، وإلغاء القوانين التي تجرّمهم وتعاقبهم، وتأمين المناخ المحيط بهم؛ لتشجيعهم على طلب خدمات الصحة الجنسية والإنجابية بلا خوف. إضافة إلى العديد من الحملات الإعلامية التي أطلقتها بغرض تسليط الضوء على "تنوّع المثليين" ومكافحة "رهاب المثلية" مثل حملة: "لستَ وحدَك". وجميع هذه القوانين وجدت طريقها إلى التنفيذ في معظم دول العالم من خلال التحايل تارةً، والضغط على الحكومات للقبول بها تارةً أخرى، وصولاً إلى فرض العقوبات على الدول المعارضة. كما استَخدمت الأمم المتحدة وهيئاتُها المختلفة الإعلام كواحدة من أهم آليات تسويق وفرض أجنداتها ومشروعاتها. وقد استجابت كثير من الدول والمؤسسات الخاصة لهذه الضغوطات، حتى انحرفت الفطرة البشرية انحرافا خطيرا جراء تلك الاعتداءات المتكررة والمتنوعة، وانحدر بعضهم إلى هاوية الهاوية بأن أصبحوا كلاباً بشرية ينبحون ويمشون على أيديهم وأرجلهم، ويجرهم أصحابهم بالسلاسل كالكلاب تماما، وفي بريطانيا وحدها عشرة آلاف كلب بشري، يباعون ويُشترون هم ومستلزماتهم التي أصبحت بضاعة رائجة في أوروبا. وقد وصل سعر الكلب البشري - أجلكم الله - في بعض البلدان الأوروبية إلى 70 ألف دولار!

هذه هي الحضارة الغربية العفنة التي يريدوننا أن ننخرط فيها، ونصبح جزءا منها، وتكون جميع سلوكاتنا مستلهمة منها، فنقلد أصحابها في كل شيء، وفيما يسمى بزواج المثليين، وتزوج الكلاب والقرود والخيول والحمير، ويعقدون عليها عقود النكاح في الكنائس ودور العبادة!

وقد بدأت الاعتداءات على الفطرة عند المسلمين مع انهيار دولة الإسلام وهيمنة الرأسمالية، وهي تزداد بشكل صارخ مع مرور الوقت وطول البعد عن الإسلام، ولا يمكن الدفاع عن الفطرة وصد هذه الاعتداءات الخطرة عليها إلا بدولة الإسلام، فالطوفان لا يرده إلا طوفان أعظم منه، والمارد لا يقف في وجهه إلا مارد أقوى منه. أخرج البخاري في صحيحه بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «مَن أطَاعَنِي فقَدْ أطَاعَ اللَّهَ، ومَن عَصَانِي فقَدْ عَصَى اللَّهَ، ومَن يُطِعِ الأمِيرَ فقَدْ أطَاعَنِي، ومَن يَعْصِ الأمِيرَ فقَدْ عَصَانِي، وإنَّما الإمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِن ورَائِهِ ويُتَّقَى به، فإنْ أمَرَ بتَقْوَى اللَّهِ وعَدَلَ، فإنَّ له بذلكَ أجْراً وإنْ قالَ بغَيْرِهِ فإنَّ عليه منه».

فاللهم عجل لنا بخلافتنا التي توقف الاعتداءات على الفطرة، وترد العالم إلى صوابه.

بقلم: الشيخ عصام عميرة بيت المقدس

No comments:

Post a Comment